فصل: تفسير الآيات (24- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (24- 25):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
{وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق} في {يريكم} وجهان: إضمار أن كما في حرف ابن مسعود رضي الله عنه وإنزال الفعل منزلة المصدر وبهما فسر المثل (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) أي أن تسمع أو سماعك {خَوْفًا} من الصاعقة أو من الإخلاف {وَطَمَعًا} في الغيث أو خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي إرادة خوف وإرادة طمع، أو على الحال أي خائفين وطامعين {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء} وبالتخفيف: مكي وبصري {ماءً} مطراً {فيحي به الأَرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} يتفكرون بعقولهم {وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ} تثبت بلا عمد {السماء والأرض بِأَمْرِهِ} أي بإقامته وتدبيره وحكمته {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} للبعث {دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} من قبوركم هذا كقوله {يريكم} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض واستمساكها بغير عمد، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا، والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف. وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض ب {ثم} بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] و(إذا) الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط {ومن الأرض} متعلق بالفعل لا بالمصدر. وقولك (دعوته من مكان كذا) يجوز أن يكون مكانك ويجوز أن يكون مكان صاحبك.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}
{وَلَهُ مَن في السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قانتون} منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه أو مقرون بالعبودية.
{وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق} أي ينشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} للبعث {وَهُوَ} أي البعث {أَهْوَنُ} أيسر {عَلَيْهِ} عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء فلم أنكرتم الإعادة، وأخرت الصلة في قوله {وهو أهون عليه} وقدمت في قوله: {وَهُوَ عَليَّ هَيّنٌ} [مريم: 9] لقصد الاختصاص هناك، وأما هنا فلا معنى للاختصاص. وقال أبو عبيدة والزجاج وغيرهما الأهون بمعنى الهين فيوصف به الله عز وجل وكان ذلك على الله يسيراً كما قالوا: الله أكبر أي كبير، والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغ إلى تكميل خلقهم {وَلَهُ المثل الأعلى في السماوات والأرض} أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره وقد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ويدل عليه قوله {وَهُوَ العزيز} أي القاهر لكل مقدور {الحكيم} الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المثل الأعلى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11].
وعن مجاهد: هو قول لا إله إلا الله. ومعناه وله الوصف الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية ويعضده قوله {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ} فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن جعل له شريكاً من خلقه. و{من} للابتداء كأنه قال: أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم {هَلْ لَّكُمْ} معاشر الأحرار {مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} عبيدكم و{من} للتبعيض {مّن شُرَكَاء} {من} مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ومعناه: هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشارككم بعضهم {فِى مَا رزقناكم} من الأموال وغيرها {فَأَنتُمْ} معاشر الأحرار والعبيد {فِيهِ} في ذلك الرزق {سَوَآء} من غير تفصلة بين حر وعبد يحكم مماليككم في أموالكم كحكمكم {تَخَافُونَهُمْ} حال من ضمير الفاعل في سواء أي متساوون خائفاً بعضكم بعضاً مشاركته في المال، والمعنى: تخافون معاشرة السادة عبيدكم فيها فلا تمضون فيها حكماً دون إذنهم خوفاً من لائمة تلحقكم من جهتهم {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} يعني كما يخاف بعض الأحرار بعضاً فيما هو مشترك بينهم، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ {كذلك} موضع الكاف نصب أي مثل هذا التفصيل {نُفَصّلُ الآيات} نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون في ضرب الأمثال فلما لم ينزجروا أضرب عنهم فقال:

.تفسير الآيات (29- 30):

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}
{بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} أنفسهم بما أشركوا كما قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] {أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي اتبعوا أهواءهم جاهلين {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} أي أضله الله تعالى: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} من العذاب.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ} فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوم له وجهه {حَنِيفاً} حال عن المأمور أو من الدين {فِطْرَةَ الله} أي الزموا فطرة الله والفطرة الخلقة، ألا ترى إلى قوله {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] فالمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإسلام غير نائين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس ومنه قوله عليه السلام: «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري» وقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» وقال الزجاج: معناه أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث: «إن الله عز وجل آخرج من صلب آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم» فقال: {وإذ أخذ ربك} إلى قوله {قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وكل مولود هو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى خالقها. فمعنى فطرة الله دين الله {التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} أي خلق {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال الزجاج: معناه لا تبديل لدين الله ويدل عليه ما بعده وهو قوله {ذلك الدين القيم} أي المستقيم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة ذلك.

.تفسير الآيات (31- 32):

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه وهو حال من الضمير في (الزموا)، وقوله {واتقوه} و{أقيموا} و{لا تكونوا} معطوف على هذا المضمر، أو من قوله {فأقم وجهك} لأن الأمر له عليه السلام أمر لأمته فكأنه قال: فأقيموا وجوهكم منيبين إليه، أو التقدير كونوا منبيين دليله قوله {ولا تكونوا} {واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي أدوها في أوقاتها {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} ممن يشرك به غيره في العبادة {مِنَ الذين} بدل من {المشركين} بإعادة الجار {فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} جعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم {فارقوا} حمزة وعلي وهي قراءة علي رضي الله عنه أي تركوا دين الإسلام {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها {كُلُّ حِزْبٍ} منهم {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فرح بمذهبه مسرور يحسب باطله حقاً.

.تفسير الآيات (33- 37):

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}
{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} شدة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} أي خلاصاً من الشدة {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} في العبادة {لِيَكْفُرُواْ} هذه لام كي. وقيل: لام الأمر للوعيد {بِمَآ آتيناهم} من النعم {فَتَمَتَّعُواْ} بكفركم قليلاً أمر وعيد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال تمتعكم {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا} حجة {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} وتكلمه مجاز كما تقول (كتابه ناطق بكذا) وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الشهادة كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} (ما) مصدرية أي بكونهم بالله يشركون، أو موصولة ويرجع الضمير إليها أي فهو يتكلم بالأمر الذي بسببه يشركون، أو معنى الآية أم أنزلنا عليهم ذا سلطان أي ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي نعمة من مطر أوسعة أوصحة {فَرِحُواْ بِهَا} بطروا بسببها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب شؤم معاصيهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} من الرحمة و{إذا} لمفاجأة جواب الشرط نابت عن الفاء لتآخيهما في التعقيب.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ في ذَلِكَ لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين عن المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها حتى يعيد إليهم رحمته! ولما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك فقال:

.تفسير الآيات (38- 39):

{فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}
{فَئآتِ ذَا القربى} أعط قريبك {حَقَّهُ} من البر والصلة {والمساكين وابن السبيل} نصيبهما من الصدقة المسماة لهما، وفيه دليل وجوب النفقة للمحارم كما هو مذهبنا {ذلك} أي إيتاء حقوقهم {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي ذاته أي يقصدون بمعروفهم أياه خالصاً {وأولئك هُمُ المفلحون وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ في أَمْوَالِ الناس} يريد وما أعطيتم أكلة الربا من رباً ليربوا في أموالهم {فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} فلا يزكوا عند الله ولا يبارك فيه. وقيل: هو من الربا الحلال أي وما تعطونه من الهدية لتأخذوا أكثر منها فلا يربوا عند الله لأنكم لم تريدوا بذلك وجه الله {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زكواة} صدقة {تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} تبتغون به وجهه خالصاً لا تطلبون به مكافأة ولا رياء ولا سمعة {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون} ذوو الإضعاف من الحسنات ونظير المضعف المقوى والموسر لذي القوة واليسار. {أتيتم من ربا} بلامد: مكي أي وما غشيتموه من إعطاء ربا {لتربوا} مدني أي لتزيدوا في أموالهم. وقوله {فأولئك هم المضعفون} التفات حسن لأنه يفيد التعميم كأنه قيل: من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين. والمعنى المضعفون به لأنه لابد له من ضمير يرجع إلى (ما) الموصولة. وقال الزجاج: في قوله {فأولئك هم المضعفون} أي فأهلها هم المضعفون أي هم الذي يضاعف لهم الثواب يعطون بالحسنة عشر أمثالها.
ثم أشار إلى عجز آلهتهم فقال:

.تفسير الآيات (40- 43):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}
{الله الذي خَلَقَكُمْ} مبتدأ وخبر {ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي: هو المختص بالخلق والرزق والإماتة والإحياء {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} أي: أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء لله {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ} أي: من الخلق والرزق والإماتة والإحياء {مِن شَئ} أي: شيئاً من تلك الأفعال فلم يجيبوا عجزاً فقال استبعاداً: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} و(من) الأولى الثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.
{ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} نحو القحط وقلة الأمطار والريع في الزراعات والربح في التجارات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بسبب معاصيهم وشركهم كقوله: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} أي: ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة وبالنون عن قنبل {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه من المعاصي ثم أكد تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله بقوله: {قُلْ سِيرُواْ في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} حيث أمرهم بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعصايهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} هو مصدر بمعنى الرد {مِنَ الله} يتعلق بيأتي، والمعنى: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد كقوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40] أو بمرد على معنى لا يرده هو بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتصدعون أي: يتفرقون ثم أشار إلى غناه عنهم.

.تفسير الآيات (44- 46):

{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال كفره {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد لنفسه فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره، والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه. ليجزى متعلق ب {يمهدون} تعليل له وتكرير {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن {مِن فَضْلِهِ} أي عطائه. وقوله {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس {وَمِنْ ءاياته} أي ومن آيات قدرته {أَن يُرْسِلَ الرياح} هي الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة، وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه السلام: «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقد عدد الفوائد في إرسالها فقال: {مبشرات} أي أرسلها للبشارة بالغيث {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} ولإذاقة الرحمة وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك. {وليذيقكم} معطوف على {مبشرات} على المعنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم {وَلِتَجْرِىَ الفلك} في البحر عند هبوبها {بِأَمْرِهِ} أي بتدبيره أو بتكوينه كقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} [يس: 82] الآية. {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يريد تجارة البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله فيها.