فصل: تفسير الآيات (20- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (20- 30):

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}
{يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} كرة ثانية {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ في الأعراب} البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال {يُسْئَلُونَ} كل قادم منهم من جانب المدينة {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عن أخباركم وعما جرى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} رياء وسمعة.
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بالضم حيث كان: عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول (في البيضة عشرون مناً حديداً) أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. قالوا {لِمَنْ} بدل من {لَكُمْ} وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب. وقيل: {لِمَنْ} يتعلق ب {حَسَنَةٌ} أي أسوة حسنة كائنة لمن كان {وَذَكَرَ الله كَثِيراً} أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} إلى قوله {قَرِيبٌ} [البقرة: 214] فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء {وَمَا زَادَهُمْ} ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم {إِلاَّ إِيمَانًا} بالله وبمواعيده {وَتَسْلِيماً} لقضائه وقدره.
{مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} أي فيما عاهدوه عليه فحذف الجار كما في المثل (صدقني سن بكره) أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل. نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} أي مات شهيداً كحمزة ومصعب. وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لابد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة {وَمَا بَدَّلُواْ} العهد {تَبْدِيلاً} ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} {لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} بوفائهم بالعهد {وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاء} إذا لم يتوبوا {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن تابوا {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} بقبول التوبة {رَّحِيماً} بعفو الحوبة. جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها.
{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} الأحزاب {بِغَيْظِهِمْ} حال أي مغيظين كقوله {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالريح والملائكة {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} قادراً غالباً.
{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} عاونوا الأحزاب {مّنْ أَهْلِ الكتاب} من بني قريظة {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم الصيصية ما تحصن به. رُوي «أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش. فقال: يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة. فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة». وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوف وبضم العين: شامي وعلي. ونصب {فَرِيقاً} بقوله {تَقْتُلُونَ} وهم الرجال {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والذراري {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ} أي المواشي والنقود والأمتعة.: «روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم»
{وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} قادراً.
{ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال {فَتَعَالَيْنَ} أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة، ومعنى {تعالين} أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله (قام يهددني). {أُمَتّعْكُنَّ} أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء {وَأُسَرّحْكُنَّ} وأطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اختار جميعهن اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: «إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء. وعن علي رضي الله عنه: إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} (من) للبيان لا للتبعيض. {أَجْراً عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة} سيئة بليغة في القبح {مُّبَيّنَةٍ} ظاهر فحشها. من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء: مكي وأبو بكر. قيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن. وقيل: الزنا والله عاصم رسوله من ذلك {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} {يضاعف لَهَا العذاب} مكي وشامي {يضاعف} أبو عمرو ويزيد ويعقوب {ضِعْفَيْنِ} ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر {وَكَانَ ذلك} أي تضعيف العذاب عليهن {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً.

.تفسير الآيات (31- 37):

{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} القنوت الطاعة {وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا} وبالياء فيهما: حمزة وعلي {أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} مثلي ثواب غيرها {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} جليل القدر وهو الجنة {يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل. وأحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه {إِنِ اتقيتن} إن أردتن التقوى أو إن كنتن متقيات {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} أي إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب فلا تجئن بقولكن خاضعاً أي ليناً خنثاً مثل كلام المريبات {فَيَطْمَعَ} بالنصب على جواب النهي {الذى في قَلْبِهِ مَرَضٌ} ريبة وفجور {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} حسناً مع كونه خشناً {وَقَرْنَ} مدني وعاصم غير هبيرة وأصله (اقررن) فحذفت الراء تخفيفاً وألقيت فتحتها على ما قبلها، أو من قار يقار إذا اجتمع. والباقون {قَرْنٍ} من وقر يقر وقاراً، أو من قرّ يقر، حذفت الأولى من راء اقررن قراراً من التكرار ونقلت كسرتها إلى القاف {فِى بُيُوتِكُنَّ} بضم الباء بصري ومدني وحفص {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} أي القديمة. والتبرج التبختر في المشي وإظهار الزينة والتقدير: ولا تبرجن تبرجاً مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم أو ما بين آدم ونوح عليهما السلام أو زمن داود وسليمان والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام. أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام. أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
{وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} خص الصلاة والزكاة بالأمر ثم عم بجميع الطاعات تفضيلاً لهما لأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} نصب على النداء أو على المدح، وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته. وقال: {عَنْكُمْ}، لأنه أريد الرجال والنساء من آله بدلالة {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} من نجاسة الآثام. ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم وليتصونوا عنها بالتقوى. واستعار الذنوب الرجس وللتقوى الطهر، لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض منها نقي كالثوب الطاهر وفيه تنفير لأولي الألباب عن المناهي وترغيب لهم في الأوامر {واذكرن مَا يتلى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله} القرآن {والحكمة} أي السنة أو بيان معاني القرآن {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً} عالماً بغوامض الأشياء {خَبِيراً} عالماً بحقائقها أي هو عالم بأفعالكن وأقوالكن فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ومعصية رسوله.
ولما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، فنزلت:
{إِنَّ المسلمين والمسلمات} المسلم الداخل في السّلم بعد الحرب المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله {والمؤمنين} المصدقين بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به {والمؤمنات والقانتين} القائمين بالطاعة {والقانتات والصادقين} في النيات والأقوال والأعمال {والمتصدقات والصابرين والصابرات} على الطاعات وعن السيئات {والخاشعين} المتواضعين لله بالقلوب والجوارح أو الخائفين {والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات} فرضاً ونفلاً {والصائمين والصائمات} فرضاً ونفلاً. وقيل: من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين {والحافظين فُرُوجَهُمْ} عما لا يحل {والحافظات والذكرين الله كَثِيراً} بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر والمعنى والحافظات فروجهن {والذاكرات} الله فحذف لدلالة ما تقدم عليه. والفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين لأن الأول نظير قوله {ثيبات وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] في أنهما جنسان مختلفان واشتركا في حكم واحد فلم يكن بد من توسط العاطف بينهما، وأما الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ومعناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} على طاعاتهم.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} أي وما صح لرجل مؤمن ولا امرأة مؤمنة {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ} أي رسول الله {أمْراً} من الأمور {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه واختيارهم تلوا لاختياره فقالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها. وإنما جمع الضمير في {لَهُمْ} وإن كان من حقه أن يوحد لأن المذكورين وقعا تحت النفي فعما كل مؤمن ومؤمنة فرجع الضمير إلى المعنى لا إلى اللفظ. و{يَكُونَ} بالياء: كوفي، والخيرة ما يتخير ودل ذلك على أن الأمر للوجوب {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً} فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} بالإسلام الذي هو أجل النعم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإعتاق والتبني فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} زينب بنت جحش، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعدما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال: «سبحان الله مقلب القلوب» وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: «مالك أرابك منها شيء؟ قال: لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني فقال له: أمسك عليك زوجك {واتق الله} فلا تطلقها». وهو نهي تنزيه إذ الأولى أن لا يطلق أو واتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج {وَتُخْفِى في نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} أي تخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد وهو الذي أبداه الله تعالى. وقيل: الذي أخفى في نفسه تعلق قلبه بها ومودة مفارقة زيد إياها. والواو في {وَتُخْفِى في نِفْسِكَ} {وَتَخْشَى الناس} أي قالة الناس إنه نكح امرأة ابنه {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} واو الحال أي تقول لزيد أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها وتخفي خاشياً قالة الناس وتخشى الناس حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله. وعن عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية.
{فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} الوطر الحاجة فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة. قيل: قضى منه وطره، والمعنى فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلقها وانقضت عدتها {زوجناكها}. روي أنها لما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك: أخطب عليّ زينب قال زيد: فانطلقت وقلت: يا زينب أبشري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك ففرحت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار» {لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} قيل: قضاء الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد منه {وَكَانَ أَمْرُ الله} الذي يريد أن يكونه {مَفْعُولاً} مكوناً لا محالة وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.