فصل: تفسير الآيات (12- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (12- 27):

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ الموتى} نبعثهم بعد مماتهم أو نخرجهم من الشرك إلى الإيمان {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها {وَءَاثَارَهُمْ} ما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علّموه أو كتاب صنّفوه أو حبيس حبّسوه أو رباط أو مسجد صنعوه أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلمة، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها ونحوه قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] قدم من أعماله وأخر من آثاره. وقيل: هي خطاهم إلى الجمعة أو إلى الجماعة {وَكُلَّ شئ أحصيناه} عددناه وبيناه {فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} يعني اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب ومقتداها. {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} ومثل لهم من قولهم (عندي من هذا الضرب كذا) أي من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد أي على مثال واحد، والمعنى واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية أي أنطاكية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، والمثل الثاني بيان للأول. وانتصاب {إِذْ} بأنه بدل من {أصحاب القرية} {جَآءَهَا المرسلون} رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان {إِذْ} بدل من {إِذْ} الأولى {أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ} أي أرسل عيسى بأمرنا {اثنين} صادقاً وصدوقاً، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسأل عن حالهما فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض مدة سنتين فمسحاه فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. فقال: حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت قولهما؟ قال: لا. فدعاهما فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء ورزق كل حي وليس له شريك. فقال: صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك. فدعا بغلام أكمه فدعوا الله فأبصر الغلام. فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف؟ قال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار لما مت عليه من الشرك وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا.
وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا.
{فَكَذَّبُوهُمَا} فكذب أصحاب القرية الرسولين {فَعَزَزْنَا} فقويناهما، {فَعَزَّزْنَا} أبو بكر من عزّه يعزّه إذا غلبه أي فغلبنا وقهرنا {بِثَالِثٍ} وهو شمعون وترك ذكر المفعول به لأن المراد ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل، وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض {فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} أي قال الثلاثة لأهل القرية {قَالُواْ} أي أصحاب القرية {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} رفع {بشر} هنا ونصب في قوله {مَا هذا بَشَرًا} [يوسف: 31] لانتقاض النفي ب {إلا} فلم يبق لما شبه بليس وهو الموجب لعمله {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَئ} أي وحياً {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} ما أنتم إلا كذبة. {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أكد الثاني باللام دون الأول لأن الأول ابتداء إخبار والثاني جواب عن إنكار فيحتاج إلى زيادة تأكيد. و{رَبُّنَا يَعْلَمُ} جارٍ مجرى القسم في التوحيد وكذلك قولهم (شهد الله) و(علم الله) {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين} أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة بصحته {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر فقالوا ذلك {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} عن مقالتكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} لنقتلنكم أو لنطردنكم أو لنشتمنكم {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وليصيبنكم عذاب النار وهو أشد عذاب {قَالُواْ طائركم} أي سبب شؤمكم {مَّعَكُمْ} وهو الكفر {أئِن} بهمزة الاستفهام وحرف الشرط: كوفي وشامي {ذُكِّرْتُم} وعظتم ودعيتم إلى الإسلام، وجواب الشرط مضمر وتقديره (تطيرتم)، {آين} بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة: أبو عمرو، و{أَيْنَ} بهمزة مقصورة بعدها ياء مسكورة: مكي ونافع. {ذكرتم} بالتخفيف: يزيد {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} مجاوزون الحد في العصيان فمن ثم أتاكم الشؤم من قبلكم لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم مسرفون في ضلالكم وغيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} هو حبيب النجار وكان في غار من الجبل يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال: أتسألون على ما جئتم به أجراً؟ قالوا: لا {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً} على تبليغ الرسالة {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} أي الرسل: فقالوا: أو أنت على دين هؤلاء؟ فقال: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} خلقني {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإليه مرجعكم، {وَمَا لِى} حمزة.
{ءَأَتَّخِذُ} بهمزتين: كوفي {مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} يعني الأصنام {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ} شرط جوابه {لاَّ تُغْنِ عَنِّى شفاعتهم شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} من مكروه، {ولا ينقذوني} {فاسمعوني} في الحالين: يعقوب {إِنِّى إِذاً} أي إذا اتخذت {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} ظاهر بين. ولما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال لهم {إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} أي اسمعوا إيماني لتشهدوا لي به. ولما قتل {قِيلَ} له {ادخل الجنة} وقبره في سوق أنطاكية. ولم يقل (قيل له) لأن الكلام سيق لبيان المقول لا لبيان المقول له مع كونه معلوماً، وفيه دلالة أن الجنة مخلوقة. وقال الحسن: لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه وهو في الجنة ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نعيمها {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} أي بمغفرة ربي لي أو بالذي غفر لي {وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} بالجنة.

.تفسير الآيات (28- 39):

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}
{وَمَا أَنزَلْنَا} (ما) نافيه {على قَوْمِهِ} قوم حبيب {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد قتله أو رفعه {مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} لتعذيبهم {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك {إِن كَانَتْ} الأخذة أو العقوبة {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} صاح جبريل عليه السلام صيحة واحدة {فَإِذَا هُمْ خامدون} ميتون كما تخمد النار. والمعنى أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق.
{ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} الحسرة شدة الندم وهذا نداء للحسرة عليهم كأنما قيل لها تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين {أَلَمْ يَرَوْاْ} ألم يعلموا {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} {كم} نصب ب {أَهْلَكْنَا} و{يَرَوْاْ} معلق عن العمل في (كم) لأن (كم) لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناه نافذ في الجملة. وقوله {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كثرة إهلا كنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {لَّمّاً} بالتشديد: شامي وعاصم وحمزة بمعنى إلا و(إن) نافية. وغيرهم بالتخفيف على أن (ما) صلة للتأكيد و(إن) مخففة من الثقيلة وهي متلقاة باللام لا محالة. والتنوين في {كُلٌّ} عوض من المضاف إليه، والمعنى إن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب أو معذبون. وإنما أخبر عن {كُلٌّ} بجميع لأن (كلا) يفيد معنى الإحاطة والجميع فعيل بمعنى مفعول ومعناه الاجتماع يعني أن المحشر يجمعهم {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} مبتدأ وخبر أي وعلامة تدل على أن الله يبعث الموتى إحياء الأرض الميتة، ويجوز أن يرتفع {ءَايَة} بالابتداء و{لَهُمْ} صفتها، وخبرها {الأرض الميتة} اليابسة. وبالتشديد: مدني {أحييناها} بالمطر وهو استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية وكذلك {نَسْلَخُ} ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل لأنه أريد بهما جنسان مطلقان لا أرض وليل بأعيانهما فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ونحوه:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} أريد به الجنس {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} قدم الظرف ليدل على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووقع الضر وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء {وَجَعَلْنَا فِيهَا} في الأرض {جنات} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وأعناب وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} {من} زائدة عند الأخفش وعند غيره المفعول محذوف تقديره ما ينتفعون به {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} والضمير لله تعالى أي ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر.
{مِن ثُمُره} حمزة وعلي {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والتلقيح وغير ذلك من الأعمال إلى أن يبلغ الثمر منتهاه، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه وفيه آثار من كد بني آدم وأصله من ثمرنا كما قال: {وَجَعَلْنَا} {وَفَجَّرْنَا} فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات. ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه علم أنها في حكم النخيل مما علق به من أكل ثمره، ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال رؤبة.
فيها خطوط من بياض وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له فقال: أردت كأن ذاك. {وما عملت} كوفي غير حفص وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير. وقيل: (ما) نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} استبطاء وحث على شكر النعمة. {سبحان الذي خَلَق الأزواج} الأصناف {كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} من النخيل والشجر والزرع والثمر {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} الأولاد ذكوراً وإناثاً {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها، ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار، أو ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض فيعرى نفس الزمان كشخص زنجي أسود لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء الظلمة فاكتسى بعضه ضوء الشمس كبيت مظلم أسرج فيه فإذا غاب السراج أظلم {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} داخلون في الظلام {والشمس تَجْرِى} وآية لهم الشمس تجري {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} لحد لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب، أو لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا {ذلك} الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق {تَقْدِيرُ العزيز} الغالب بقدرته على كل مقدور {العليم} بكل معلوم {والقمر} نصب بفعل يفسره {قدرناه} وبالرفع مكي ونافع وأبو عمرو وسهل على الابتداء والخبر قدرناه أو على (وآية لهم القمر) {مَنَازِلَ} وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة وفي واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.
ولا بد في {قدرناه مَنَازِلَ} من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل أي قدرنا نوره فيزيد وينقص، أو قدرنا مسيره منازل فيكون ظرفاً فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس {حتى عَادَ كالعرجون} هو عود الشمراخ إذا يبس واعوج ووزنه فعلون من الانعراج وهو الانعطاف {القديم} العتيق المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.

.تفسير الآيات (40- 57):

{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)}
{لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} أي لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم {أَن تدْرِكَ القمر} فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأن لكل واحد من النيرين سلطاناً على حياله، فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} ولا يسبق الليل النهار أي آية الليل آية النهار وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن تقوم القيامة فيجمع الله بين الشمس والقمر وتطلع الشمس من مغربها {وَكُلٌّ} التنوين فيه عوض من المضاف إليه أي وكلهم والضمير للشموس والأقمار {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. يسيرون.
{وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} {ذرياتهم} مدني وشامي {فِى الفلك المشحون} أي المملوء. والمراد بالذرية الأولاد ومن يهمهم حمله وكانوا يبعثونهم إلى التجارات في بر أو بحر، أو الآباء لأنها من الأضداد. والفلك على هذا سفينة نوح عليه السلام. وقيل: معنى حمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم. وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ} من مثل الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل وهي سفائن البر {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} في البحر {فَلا صَرِيْخَ لَهُمْ} فلا مغيث أو فلا إغاثة {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} لا ينجون {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} أي ولا ينقذون إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل، فهما منصوبان على المفعول له.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} أي ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر مما أنتم تعملون من بعد أو من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، وما خلفكم من أمر الساعة أو فتنة الدنيا وعقوبة الآخرة {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب (إذا) مضمر أي أعرضوا، وجاز حذفه لأن قوله {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يدل عليه. و{من} الأولى لتأكيد النفي والثانية للتبعيض أي ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لمشركي مكة {أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} أي تصدقوا على الفقراء {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال مُّبِينٍ} قول الله لهم أو حكاية قول المؤمنين لهم أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي وعد البعث والقيامة {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تقولون خطاب للنبي وأصحابه {مَا يَنظُرُونَ} ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النفخة الأولى {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا غلبه في الخصومة، وشدد الباقون الصاد أي {يَخِصّمُونَ} بإدغام التاء في الصاد، لكنه مع فتح الخاء: مكي بنقل حركة التاء المدغمة إليها، وبسكون الخاء: مدني، وبكسر الياء والخاء: يحيى فأتبع الياء الخاء في الكسر، وبفتح الياء وكسر الخاء: غيرهم.
والمعنى تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً في معاملاتهم.
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} فلا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة {وَنُفِخَ فىلصور} هي النفخة الثانية والصور القرن أو جمع صورة {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث} أي القبور {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} يعدون بكسر السين وضمها {قَالُواْ} أي الكفار {ياويلنا مَن بَعَثَنَا} من أنشرنا {مِن مَّرْقَدِنَا} أي مضجعنا، وقف لازم عن حفص وعن مجاهد للكفار مضجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا من بعثنا {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} كلام الملائكة أو المتقين أو الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً، أو {ما} مصدرية ومعناه هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسلمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، أو موصولة وتقديره هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي والذي صدق فيه المرسلون {إِن كَانَتْ} النفخة الأخيرة {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} للحساب. ثم ذكر ما يقال لهم في ذلك اليوم {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ} بضمتين: كوفي وشامي، وبضمة وسكون: مكي ونافع وأبو عمرو. والمعنى في شغل في أي شغل وفي شغل لا يوصف، وهو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار أو ضرب الأوتار أو ضيافة الجبار {فاكهون} خبر ثان {فَكِهُونَ} يزيد، والفاكه والفكه: المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ به وكذا الفكاهة {هُمْ} مبتدأ {وأزواجهم} عطف عليه {فِى ظلال} حال جمع ظل وهو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس كذئب وذئاب، أو جمع ظلة كبرمة وبرام دليله قراءة حمزة وعليّ، {ظُلَلٌ} جمع ظلة وهي ما سترك عن الشمس {على الأرآئك} جمع الأريكة وهي السرير في الحجلة أو الفراش فيها {مُتَّكِئُونَ} خبر أو {فِى ظلال} خبر و{على الأرائك} مستأنف {لَهُمْ فِيهَا فاكهة وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} يفتعلون من الدعاء أي كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم أو يتمنون من قولهم (ادع علي ما شئت) أي تمنه عليَّ، عن الفراء هو من الدعوى ولا يدعون ما لا يستحقون.