فصل: تفسير الآيات (27- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (27- 33):

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}
{وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الخلق {باطلا} خلقاً باطلاً لا لحكمة بالغة، أو مبطلين عابثين كقوله {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الأنبياء: 16] وتقديره ذوي باطل، أو عبثاً فوضع {باطلا} موضعه أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ولكن للحق المبين، وهو أنا خلقنا نفوساً أودعناها العقل ومنحناها التمكين وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف وأعددنا لها عاقبة وجزاءً على حسب أعمالهم. {ذلك} إشارة إلى خلقها باطلاً {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} الظن بمعنى المظنون أي خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما لقوله {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] لأنه لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤدياً إلى أن خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه، لأن الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} {أم} منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكفار لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً {كِتَابٌ} أي هذا كتاب {أنزلناه إِلَيْكَ} يعني القرآن {مُّبَارَكٌ} صفة أخرى {لِّيَدَّبَّرُواْ ءاياته} وأصله ليتدبروا قرئ به ومعناه ليتفكروا فيها فيقفوا على ما فيه ويعملوا به. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده {لتدَبّروا} على الخطاب بحذف إحدى التاءين: يزيد {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} وليتعظ بالقرآن أولو العقول.
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد} أي سليمان. وقيل: داود، وليس بالوجه فالمخصوص بالمدح محذوف {إِنَّهُ أَوَّابٌ} وعلل كونه ممدوحاً بكونه أواباً أي كثير الرجوع إلى الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} على سليمان {بالعشى} بعد الظهر {الصافنات} الخيول القائمة على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف حافر {الجياد} السراع جمع جواد لأنه يجود بالركض، وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان وإنما هو العراب. وقيل: وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية، يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها. وقيل: الجياد الطوال الأعناق من الجيد. ورُوي أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوماً بعدما صلى الظهر على كرسيه واستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر وكانت فرضاً عليه، فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وبقي مائة، فما في أيدي الناس من الجياد، فمن نسلها.
وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره.
{فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِىِّ} أي آثرت حب الخيل عن ذكر ربي كذا عن الزجاج. فأحببت بمعنى آثرت كقوله تعالى: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] و{عن} بمعنى (على)، وسمى الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها كما قال عليه السلام: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقال أبو علي: أحببت بمعنى جلست من إحباب البعير وهو بروكه. حب الخير أي المال مفعول له مضاف إلى المفعول {حتى تَوَارَتْ} الشمس {بالحجاب} والذي دل على أن الضمير للشمس مررو ذكر العشي ولابد للضمير من جري ذكر أو دليل ذكر، أو الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام {رُدُّوهَا عَلَىَّ} أي قال للملائكة: ردوا الشمس علي لأصلي العصر فردت الشمس له وصلى العصر، أو ردوا الصافنات {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} فجعل يمسح مسحاً أي يمسح السيف بسوقها وهي جمع ساق كدار ودور وأعناقها، يعني يقطعها لأنها منعته عن الصلاة. تقول: مسح عُلاوته إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه. وقيل: إنما فعل ذلك كفارة لها أو شكراً لرد الشمس، وكانت الخيل مأكولة في شريعته فلم يكن إتلافاً. وقيل: مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها.

.تفسير الآيات (34- 44):

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان} ابتليناه. {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ} سرير ملكه {جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} رجع إلى الله. قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة، وكان من فتنته أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك سليمان عليه السلام فكان يغذوه في السحابة خوفاً من مضرة الشياطين، فألفى ولده ميتاً على كرسيه فتنبه على زلته في أن لم يتوكل فيه على ربه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة منهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» وأما ما يُروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فمن أباطيل اليهود.
{قَالَ رَبِّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً} قدم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين في تقديم الاستغفار على السؤال {لاَّ يَنبَغِى} لا يتسهل ولا يكون {لأَِحَدٍ مّن بَعْدِى} أي دوني. وبفتح الياء: مدني وأبو عمرو، وإنما سأل بهذه الصفة ليكون معجزة له لا حسداً وكان قبل ذلك لم يسخر له الريح والشياطين، فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين ولن يكون معجزة حتى يخرق العادات {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} {الرياح} أبو جعفر.
{تَجْرِى} حال من {الريح} {بِأَمْرِهِ} بأمر سليمان {رُخَآءَ} لينة طيبة لا تزعزع وهو حال من ضمير {تَجْرِى} {حَيْثُ} ظرف {تَجْرِى} {أَصَابَ} قصد وأراد. والعرب تقول: أصاب الصواب فاخطأ الجواب {والشياطين} عطف على {الريح} أي سخرنا له الشياطين {كُلَّ بَنَّآءٍ} بدل من {الشياطين} كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية {وَغَوَّاصٍ} أي ويغوصون له في البحر لإخراج اللؤلؤ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر. والمعنى وسخرنا له كل بناء وغواص من الشياطين {وَءَاخَرِينَ} عطف على {كُلَّ بَنَّاء} داخل في حكم البدل {مُّقَرَّنِينَ في الأصفاد} وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد: القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه، ومنه قول علي رضي الله عنه: من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك {هذا} الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة {عَطَآؤُنَا فامنن} فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء {أَوْ أَمْسِكْ} عن العطاء، وكان إذا أعطى أجر وإن منع لم يأتم بخلاف غيره {بِغَيْرِ حِسَابٍ} متعلق ب {عَطَاؤُنَا} وقيل: هو حال أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حصره، أو هذه التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق أو أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب أي لا حساب عليك في ذلك {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَئَابٍ} {لزلفى} اسم (إن) والخبر {لَهُ} والعامل في {عِندَ} الخبر.
{واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} هو بدل من {عَبْدَنَا} أو عطف بيان {إِذْ} بدل اشتمال منه {نادى رَبَّهُ} دعاه {إِنِّى مَسَّنِىَ} بأني مسني حكاية لكلامة الذي ناداه بسببه ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب {الشيطان بِنُصْبٍ} قراءة العامة {بِنُصُب}، يزيد تثقيل نُصْب {بِنَصَب} كرشد ورشد، يعقوب {بِنصب} على أصل المصدر هبيرة والمعنى واحد وهو التعب والمشقة {وَعَذَابٍ} يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. ورُوي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين. وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع، أو رأى منكراً فسكت عنه، أو ابتلاه الله لرفع الدرجات بلا زلة سبقت منه {اركض بِرِجْلِكَ} حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام أي أرسلنا إليه جبريل عليه السلام فقال له: اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض وهي أرض الجابية فضربها فنبعت عين فقيل: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك. وقيل: نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى.
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قيل: أحياهم الله تعالى بأعيانهم وزاده مثلهم {رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لأُِوْلِى الألباب} مفعول لهما أي الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره رغبهم في الصبر على البلاء {وَخُذْ} معطوف على {اركض} {بِيَدِكَ ضِغْثاً} حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قبضة من الشجر {فاضرب بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} وكان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه، وهذه الرخصة باقية ويجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة.
والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره. وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عليه السلام إذا قام {إِنَّا وجدناه} علمناه {صَابِراً} على البلاء نعم قد شكا إلى الله ما به واسترحمه لكن الشكوى إلى الله لا تسمى جزعاً فقد قال يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} [يوسف: 86] على أنه عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة حيث كان الشيطان يوسوس إليهم أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به وإرادة القوة على الطاعة فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان {نِعْمَ العبد} أيوب {إِنَّهُ أَوَّابٌ}.

.تفسير الآيات (45- 70):

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}
{واذكر عِبَادَنَا} {عَبْدَنَا} مكي. {إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} فمن جمع ف {إِبْرَاهِيمَ} ومن بعده عطف بيان على {عِبَادِنَا} ومن وحد ف {إبراهيم} وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على {عَبْدَنَا} ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم وإن كان عملاً لا تتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم وعلى هذا ورد قوله {أُوْلِى الأيدى والأبصار} أي أولي الأعمال الظاهرة والفكر الباطنة كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في الله ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمني الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما {إِنَّا أخلصناهم} جعلناهم لنا خالصين {بِخَالِصَةٍ} بخصلة خالصة لا شوب فيها. {ذِكْرَى الدار} {ذِكْرِى} في محل النصب أو الرفع بإضمار (أعني)، أو (هي)، أو الجر على البدل من ب {خَالِصَة} والمعنى إنا أخلصناهم بذكرى الدار، والدار هنا: الدار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يذكرون الناس الدار الآخرة ويزهدونهم في الدنيا كما هو ديدن الأنبياء عليهم السلام، أو معناه أنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله وينسون ذكر الدنيا بخالصة ذكرى الدار، على الإضافة مدني ونافع وهي من إضافة الشيء إلى ما يبينه، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى. و{ذِكْرى} مصدر مضاف إلى المفعول أي بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل: خالصة بمعنى خلوص فهي مضافة إلى الفاعل أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بِهمٍ آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. وقيل: ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا، وهذا شيء قد أخلصهم به فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50] {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين} المختارين من بين أبناء جنسهم {الأخيار} جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت.
{واذكر إسماعيل واليسع} كأن حرف التعريف دخل على (يسع) {وَذَا الكفل وَكُلٌّ} التنوين عوض عن المضاف إليه أي وكلهم {مِّنَ الأخيار هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ} أي هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً، وإن لهم مع ذلك لحسن مرجع يعني يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة رب جليل. ثم بين كيفية حسن ذلك المرجع فقال: {جنات عَدْنٍ} بدل من {حسن مئاب} {مُّفَتَّحَةً} حال من {جنات} لأنها معرفة لإضافتها إلى {عَدْنٍ} وهو علم، والعامل فيها ما في {لّلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل {لَّهُمُ الأبواب} ارتفاع الأبواب بأنها فاعل {مُّفَتَّحَةً} والعائد محذوف أي مفتحة لهم الأبواب منها فحذف كما حذف في قوله:
{فَإِنَّ الجحيم هي المأوى} [النازعات: 39] أي لهم أو أبوابها إلا أن الأول أجود، أو هي بدل من الضمير في {مُّفَتَّحَةً} وهو ضمير الجنات تقديره مفتحة هي الأبواب وهو من بدل الاشتمال {مُتَّكِئِينَ} حال من المجرور في {لَهُمْ} والعامل {مُّفَتَّحَةً} {فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} أي قصرن طرفهن على أزواجهن {أَتْرَابٌ} لدات أسنانهن كأسنانهم لأن التحاب بين الأقران أثبت كأن اللدات سمين أتراباً لأن التراب مسهن في وقت واحد.
{هذا مَا تُوعَدُونَ} وبالياء: مكي وأبو عمر {لِيَوْمِ الحساب} أي ليوم تجزى كل نفس بما عملت {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} من انقطاع والجملة حال من الرزق والعامل الإشارة. {هذا} خبر والمبتدأ محذوف أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر {وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَأَبٍ} مرجع {جَهَنَّمَ} بدل منه {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {فَبِئْسَ المهاد} شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا حميم وغساق فليذوقوه، ف {هذا} مبتدأ و{حَمِيم} خبر {وَغَسَّاقٌ} بالتشديد: حمزة وعلي وحفص. والغساق بالتشديد والتخفيف ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده {وَءَاخرُ} أي وعذاب آخر أو مذوق آخر {مِن شَكْلِهِ} من مثل العذاب المذكور. {وأَخر} بصري أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق في الشدة والفظاعة {أزواج} صفة ل {ءَاخَرَ} لأنه يجوز أن يكون ضروباً {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم. والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة، والقحمة: الشدة، وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض أي يقولون هذا والمراد بالفوج اتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة فيقتحمون معهم العذاب {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} دعاء منهم على أتباعهم تقول لن تدعو له مرحباً أي أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ثم تدخل عليه (لا) في دعاء السوء، وبهم بيان للمدعو عليهم {إِنَّهُمْ صَالُو النار} أي داخلوها وهو تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم. وقيل: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ} كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، و{لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النار} كلام الرؤساء. وقيل: هذا كله كلام الخزنة.
{قَالُواْ} أي الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقوله {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} والضمير للعذاب أو لصليهم أي انكم دعوتمونا إليه فكفرنا باتباعكم {فَبِئْسَ القرار} أي النار {قَالُواْ} أي الأتباع {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً {فِى النار} ومعناه ذا ضعف. ونحوه قوله {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} وهو أن يزيد على عذابه مثله {وَقَالُواْ} الضمير لرؤساء الكفرة {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً} يعنون فقراء المسلمين {كُنَّا نَعُدُّهُمْ} في الدنيا {مِّنَ الأشرار} من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى {اتخذناهم سِخْرِيّاً} بلفظ الإخبار: عراقي غير عاصم على أنه صفة ل {رِجَالاً} مثل {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار} وبهمزة الاستفهام: غيرهم على أنه إنكار على أنفسهم في الاستسخار منهم، {سُخرِياً} مدني وحمزة وعلي وخلف والمفضل {أَمْ زَاغَتْ} مالت {عَنْهُمُ الأبصار} هو متصل بقوله {مَا لَنَا} أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها، قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم {إِنَّ ذلك} الذي حكينا عنهم {لَحَقٌّ} لصدق كائن لا محالة لابد أن يتكلموا به. ثم بين ما هو فقال: هو {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} ولما شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين سماه تخاصماً، ولأن قول الرؤساء {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} وقول أتباعهم: {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} من باب الخصومة فسمى التقاول كله تخاصماً لاشتماله على ذلك.
{قُلْ} يا محمد لمشركي مكة {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} ما أنا إلا رسول منذر أنذركم عذاب الله تعالى: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} وأقول لكم إن دين الحق توحيد الله وأن تعتقدوا أن لا إله إلا الله {الواحد} بلا ند ولا شريك {القهار} لكل شيء {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} له الملك والربوبية في العالم كله {العزيز} الذي لا يغلب إذا عاقب {الغفار} لذنوب من التجأ إليه {قُلْ هُوَ} أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله واحد لا شريك له {نَبَؤُا عظِيمٌ} لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} غافلون {مَا كَانَ لِىَ} حفص {مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} احتج لصحة نبوته بأن ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى.
{إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي لأنما أنا نذير مبين ومعناه ما يوحى إلي إلا للإنذار فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع على معنى ما يوحى إلي إلا هذا وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك أي ما أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس لي غير ذلك. وبكسر {إِنَّمَا} يزيد على الحكاية أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين ولا أدعي شيئاً آخر. وقيل: النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. والمراد بالملإ الأعلى أصحاب القصة: الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم و{إِذْ يَخْتَصِمُونَ} متعلق بمحذوف إذ المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم.