فصل: تفسير الآيات (71- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (71- 89):

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف} جمع صفحة {مِّن ذَهَبٍ وأكواب} أي من ذهب أيضاً والكوب الكوز لا عروة له {وَفِيهَا} في الجنة {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} مدني وشامي وحفص بإثبات الهاء العائدة إلى الموصول، وحذفها غيرهم لطول الموصول بالفعل والفاعل والمفعول. و{وَتَلَذُّ الأعين} وهذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذة في العيون {وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {تِلْكَ} إشارة إلى الجنة المذكورة وهي مبتدأ و{الجنة} خبر و{التى أُورِثْتُمُوهَا} صفة الجنة، أو {الجنة} صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة و{التى أُورِثْتُمُوهَا} خبر المبتدأ، أو {التى أُورِثْتُمُوهَا} صفة المبتدأ و{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الخبر، والباء تتعلق بمحذوف أي حاصلة أو كائنة كما في الظروف التي تقع أخباراً، وفي الوجه الأول تتعلق ب {أُورِثْتُمُوهَا} وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة {لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} (من) للتبعيض أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في شجرها فهي مزينة بالثمار أبداً، وفي الحديث: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها».
{إِنَّ المجرمين في عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون} خبر بعد خبر {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} خبر آخر أي لا يخفف ولا ينقص {وَهُمْ فِيهِ} في العذاب {مُّبْلِسُونَ} آيسون من الفرج متحيرون {وَمَا ظلمناهم} بالعذاب {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} هم فصل {وَنَادَوْاْ يامالك} لما آيسوا من فتور العذاب نادروا يا مالك وهو خازن النار. وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: {يا مال} فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ليمتنامن قضى عليه إذا أماته {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] والمعنى سل ربك أن يقضي علينا {قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون} لا بثون في العذاب لا تتخلصون عنه بموت ولا فتور {لَقَدْ جئناكم بالحق} كلام الله تعالى. ويجب أن يكون في {قَالَ} ضمير الله لما سألوا مالكاً أن يسأل القضاء عليهم أجابهم الله بذلك. وقيل: هو متصل بكلام مالك والمراد بقوله جئناكم الملائكة إذ هم رسل الله وهو منهم {ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارهون} لا تقبلونه وتنفرون منه لأن مع الباطل الدعة ومع الحق التعب.
{أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً} أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنا كما أبرموا كيدهم وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} حديث أنفسهم {ونجواهم} ما يتحدثون فيما ببينهم ويخفونه عن غيرهم {بلى} نسمعها ونطلع عليها {وَرُسُلُنَا} أي الحفظة {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} عندهم يكتبون ذلك، وعن يحيى بن معاذ: من ستر من الناس عيوبه وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من أمارات النفاق.
{قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} وصح ذلك ببرهان {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد إليه كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والمراد نفي الولد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك. وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه. وقيل؛ إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد، من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرئ {العبدين} وقيل: هي {إن} النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد. ورُوي أن النضر قال: الملائكة بنات الله فنزلت: فقال النضر: ألا ترون أنه صدقني فقال له الوليد: ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أو الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. {وُلْد} حمزة وعلي. ثم نزه ذاته على اتخاذ الولد فقال: {سبحان رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي هو رب السماوات والأرض والعرش فلا يكون جسماً إذ لو كان جسماً لم يقدر على خلقها، وإذا لم يكن جسماً لا يكون له ولد لأن التولد من صفة الأجسام {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ} في باطلهم {وَيَلْعَبُواْ} في دنياهم {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} أي القيامة، وهذا دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب.
{وَهُوَ الذي في السمآء إله وَفِى الأرض إله} ضمن اسمه تعالى معنى وصف فلذلك علق به الظرف في قوله {فِى السماء} {وَفِى الأرض} كما تقول: هو حاتم في طيّ وحاتم في تغلب. على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت: هو جواد في طيّ جواد في تغلب. وقرئ {وهو الذي في السماء الله وفى الأرض الله} ومثله قوله {وَهُوَ الله في السماوات وَفِى الأرض} فكأنه ضمن معنى المعبود. والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام كقولهم (ما أنا بالذي قائل لك شيئاً) والتقدير: وهو الذي هو في السماء إله. و{إِلَه} يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ولا يرتفع {إِلَه} بالابتداء وخبره {فِى السماء} لخلو الصلة حينئذ من عائد يعود إلى الموصول {وَهُوَ الحكيم} في أقواله وأفعاله {العليم} بما كان ويكون {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} أي علم قيامها {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {يَرْجِعُونَ}: مكي وحمزة وعلي {وَلاَ يَمْلِكُ} آلهتهم {الذين يَدْعُونَ} أي يدعونهم {مِن دُونِهِ} من دون الله {الشفاعة} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق} أي ولكن من شهد بالحق بكلمة التوحيد {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله ربهم حقاً ويعتقدون ذلك هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع أو متصل لأن في جملة الذين يدعون من دون الله الملائكة {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي المشركين {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} لا الأصنام والملائكة {فأنى يُؤْفَكُونَ} فكيف أو من أين يصرفون عن التوحيد مع هذا الإقرار.
{وَقِيلِهِ} بالجر: عاصم وحمزة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله {يارب} والهاء يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}.
وبالنصب: الباقون عطفاً على محل {الساعة} أي يعلم الساعة ويعلم قيله أي قيل محمد يا رب. والقيل والقول والمقال واحد، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. وجواب القسم {إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه {فاصفح عَنْهُمْ} فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم وودعهم وتاركهم و{وَقُلْ} لهم {سلام} أي تسلم منكم ومتاركة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. وبالتاء: مدني وشامي.

.سورة الدخان:

.تفسير الآيات (1- 21):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)}
في الخبر: «من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفوراً له». {حم والكتاب المبين} أي القرآن. الواو في {والكتاب} واو القسم. إن جعلت {حم} تعديداً للحروف، أو اسماً للسورة مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف، وواو العطف إن كانت {حم} مقسماً بها وجواب القسم {إِنَّآ أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة} أي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان. وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. والجمهور على الأول لقوله {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. ثم قالوا: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل في وقت وقوع الحاجة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: ابتداء نزوله في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ} هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. ومعنى {يُفْرَقُ} يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة {حَكِيمٍ} ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً.
{أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا} نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بدل من {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} مفعول له على معنى أنزلنا القرآن. لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، أو تعليل لقوله {أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا}، و{رَحْمَةً} مفعول به. وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين {إِنَّهُ هُوَ السميع} لأقوالهم {العليم} بأحوالهم {رَبِّ} كوفي بدل من {رَبَّكَ} وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ {السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول: إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته {لآ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِى وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ} أي هو ربكم {وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين} عطف عليه.
ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله {بَلْ هُمْ في شَكّ يَلْعَبُونَ} وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب {فارتقب} فانتظر {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ} يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص. وقيل: إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان {مُّبِينٍ} ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان {يَغْشَى الناس} يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة ل {دُخَان} وقوله {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك {أنى لَهُمُ الذكرى} كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب {وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه إلى الجنون {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً} زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} هي يوم القيامة أو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب {يَوْمَ نَبْطِشُ} ب (اذكر) أو بما دل عليه {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} وهو ننتقم لا ب {مُنتَقِمُونَ} لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً {قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله وعلى عباده المؤمنين، أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم {أَنْ أَدُّوآ إِلَىَّ} هي «أن» المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله، أو المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليَّ سلِّموا إلي {عِبَادَ الله} هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول: أدوهم إلي وأرسلوهم معي كقوله:
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} [طه: 47]. ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بقوله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي على رسالتي غير متهم {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} (أن) هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه، أو لا تستكبروا على نبي الله {أَنِّى ءَاتِيكُم بسلطان مُّبِينٍ} بحجة واضحة تدل على أني نبي {وَإِنِّى عُذْتُ} مدغم: أبو عمرو وحمزة وعلي {بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عني، أو فخلوني كفافاً لا لي ولا عليَّ ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك. {ترجموني}، {فاعتزلوني} في الحالين: يعقوب.

.تفسير الآيات (22- 59):

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
{فَدَعَا رَبَّهُ} شاكياً قومه {أَنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} بأن هؤلاء أي دعا ربه بذلك. قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم. وقيل: هو قوله {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} وقرئ {إِنَّ هَؤُلآء} بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء {فَأَسْرِ} من أسرى. {فَأَسْرِ} بالوصل: حجازي من سرى والقول مضمر بعد الفاء أي فقال أسر {بِعِبَادِى} أي بني إسرائيل {لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} أي دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجي المتقدمين ويغرق التابعين {واترك البحر رَهْواً} ساكناً. أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. وقيل: الرهو: الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} بعد خروجكم من البحر، وقرئ بالفتح أي لأنهم. {كَمْ} عبارة عن الكثرة منصوب بقوله: {تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} هو ما كان لهم من المنازل الحسنة وقيل: المنابر {وَنَعْمَةٍ} تنعم {كَانُواْ فِيهَا فاكهين} متنعمين {كذلك} أي الأمر كذلك فالكاف في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر {وأورثناها قَوْماً ءَاخَرينَ} ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} لأنهم ماتوا كفاراً، والمؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض فيبكي على المؤمن من الأرض مصلاه ومن السماء مصعد عمله، وعن الحسن: أهل السماء والأرض {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين} أي الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد {مِن فِرْعَوْنَ} بدل من {العذاب المهين} بإعادة الجار كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من فرعون {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} متكبراً {مِّنَ المسرفين} خبر ثانٍ أي كان متكبراً مسرفاً {وَلَقَدِ اخترناهم} أي بني إسرائيل {على عِلْمٍ} حال من ضمير الفاعل أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا {عَلَى العالمين} على عالمي زمانهم {وءاتيناهم مِنَ الآيات} كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك {مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ} نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون {إِنَّ هَؤُلآءِ} يعني كفار قريش {لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ} ما الموتة {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} والإشكال أن الكلام وقع في الحياة الثانية لا في الموت، فهلا قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى؟ وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى جحدوها وأثبتوا الأولى؟ والجواب أنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قول تعالى:
{وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] فقالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] في المعنى. ويحتمل أن يكون هذا إنكاراً لما في قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين يقال: أنشر الله الموتى. ونشرهم إذا بعثهم {فَأْتُواْ بِئَابَآئِنَا} خطاب الذين كانوا يعدونهم النشور من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {إِن كُنتُمْ صادقين} أي إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق.
{أَهُمْ خَيْرٌ} في القوة والمنعة {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هو تبع الحميري كان مؤمناً وقومه كافرين. وقيل: كان نبياً في الحديث: «وما أدرى أكان تبع نبياً أو غير نبي» {والذين مِن قَبْلِهِمْ} مرفوع بالعطف على {قَوْمُ تُبَّعٍ} {أهلكناهم إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} كافرين منكرين للبعث {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} أي وما بين الجنسين {لاَعِبِينَ} حال ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعباً {مَا خلقناهمآ إِلاَّ بالحق} بالجد ضد اللعب {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه خلق لذلك.
{إِنَّ يَوْمَ الفصل} بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة {ميقاتهم أَجْمَعِينَ} وقت موعدهم كلهم {يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} أيّ ولي كان عن أي ولي كان شيئاً من إغناء أي قليلاً منه {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضمير للمولى لأنهم في المعنى لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} في محل الرفع على البدل من الواو في {يُنصَرُونَ} أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الغالب على أعدائه {الرحيم} لأوليائه.
{إنّ شَجَرَةَ الزقوم} هي على صورة شجرة الدنيا لكنها في النار والزقوم ثمرها وهو كل طعام ثقيل {طَعَامُ الأثيم} هو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبي الدرداء أنه كان يقرئ رجلاً فكان يقول: طعام اليتيم. فقال: قل طعام الفاجر يا هذا. وبهذا تستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية بشرط أن يؤدي القارئ المعاني كلها على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً.
قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والدقائق ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها. ويُروى رجوعه إلى قولهما وعليه الاعتماد {كالمهل} هو دردي الزيت، والكاف رفع خبر بعد خبر {يَغْلِى في البطون} بالياء: مكي وحفص (وقرئ بالتاء) فالتاء للشجرة والياء للطعام {كَغَلْىِ الحميم} أي الماء الحار الذي انتهى غليانه ومعناه غلياً كغلي الحميم فالكاف منصوب المحل. ثم يقال للزبانية {خُذُوهُ} أي الأثيم {فاعتلوه} فقودوه بعنف وغلظة، {فاعتلوه} مكي ونافع وشامي وسهل ويعقوب {إلى سَوَآءِ الجحيم} إلى وسطها ومعظمها {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} المصبوب هو الحميم لا عذابه إلا أنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته وصب العذاب استعارة ويقال له {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} على سبيل الهزؤ والتهكم. {إِنَّكَ} أي لأنك: عليّ {إِنَّ هَذَا} أي العذاب أو هذا الأمر هو {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون.
{إِنَّ المتقين في مَقَامٍ} بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم، وبالضم: مدني وشامي وهو موضع الإقامة {أَمِينٍ} من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره {فِى جنات وَعُيُونٍ} بدل من {مَقَامٍ أَمِينٍ} {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} ما رقّ من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه وهو تعريب استبر، واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي {متقابلين} في مجالسهم وهو أتم للأنس {كذلك} الكاف مرفوعة أي الأمر كذلك {وزوجناهم} وقرناهم ولهذا عدي بالباء {بِحُورٍ} جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين والشديدة بياضها {عِينٍ} جمع عيناء وهي الواسعة العين {يَدْعُونَ فِيهَا} يطلبون في الجنة {بِكلِّ فاكهة ءَامِنِينَ} من الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا} أي في الجنة {الموت} البتة {إِلاَّ الموتة الأولى} أي سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا. وقيل: لكن الموتة قد ذاقوها في الدنيا {ووقاهم عَذَابَ الجحيم فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ} أي للفضل فهو مفعول له أو مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله {ووقاهم عَذَابَ الجحيم} تفضل منه لهم لأن العبد لا يستحق على الله شيئاً {ذلك} أي صرف العذاب ودخول الجنة {هُوَ الفوز العظيم فَإِنَّمَا يسرناه} أي الكتاب وقد جرى ذكره في أول السورة {بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون {فارتقب} فانتظر ما يحل بهم {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} منتظرون ما يحل بك من الدوائر.