فصل: سورة الأحقاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة الأحقاف:

.تفسير الآيات (1- 12):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
{حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} ملتبساً بالحق {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ} عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لابد لكل مخلوق من انتهائه إليه {مُّعْرِضُونَ} لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي عن إنذارهم ذلك اليوم {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أخبروني {مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} تعبدونه من الأصنام {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} أي شيء خلقوا مما في الأرض إن كانوا آلهة {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السماوات} شركة مع الله في خلق السماوات والأرض {ائتونى بكتاب مِّن قَبْلِ هذا} أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله {أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ} أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين {إِن كُنتُمْ صادقين} أن الله أمركم بعبادة الأوثان.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غافلون} أي أبداً {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي الأصنام لعبدتها {وَكَانُواْ} أي الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ} بعبادة عبدتهم {كافرين} يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا. ومعنى الاستفهام في {مَنْ أَضَلَّ} إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأوثان حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على كل شيء ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضداً فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل (من) و(هم)، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة، طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها ونحوه قوله تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14].
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ} جمع بينة وهي الحجة والشاهد أو واضحات مبينات {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ} المراد بالحق الآيات وبالذين كفروا المتلو عليهم فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلو بالحق {لَمَّا جَآءَهُمْ} أي بادهوه بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم إن محمداً عليه السلام افتراه أي اختلقه وأضافه إلى الله كذباً، والضمير للحق والمراد به الآيات {قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً} أي إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟.
{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالجحود والإنكار، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم {وَهُوَ الغفور الرحيم} موعدة بالغفران والرحمة إن تابوا عن الكفر وآمنوا.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} أي بديعاً كالخف بمعنى الخفيف، والمعنى إني لست بأول مرسل فتنكروا نبوّتي {وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} أي ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان. وعن الكلبي قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى تكون على هذا؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أأترك بمكة أم أو أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجره و{ما} في {مَّا يَفْعَلُ} يجوز أن يكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. وإنما دخل (لا) في قوله {وَلاَ بِكُمْ} مع أن {بفعل} مثبت غير منفي لتناول النفي في {مَا أَدْرِى} (ما) وما في حيزه {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ} القرآن {مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ولهذا قيل: إن هذه الآية مدنية لأن إسلام بن سلام بالمدينة. رُوي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب. قال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته» فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً.
{على مِثْلِهِ} الضمير للقرآن أي مثله في المعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك، ويجوز أن يكون المعنى إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند الله {فَئَامَنَ} الشاهد {واستكبرتم} عن الإيمان به. وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين، ويدل على هذا المحذوف. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} والواو الأولى عاطفة ل {كَفَرْتُمْ} على فعل الشرط، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة ل {استكبرتم} على {شَهِدَ شَاهِدٌ}، وأما الواو في {وَشَهِدَ} فقد عطفت جملة قوله {شَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ فَئَامَنَ واستكبرتم} على جملة قوله {كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله، فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي لأجلهم وهو كلام كفار مكة قالوا: إن عامة من يتبع محمداً السقاط يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} العامل في (إذ) محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم وقوله {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} مسبب عنه وقولهم {إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب متقادم كقولهم {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] {وَمِن قَبْلِهِ} أي القرآن {كِتَابُ موسى} أي التوراة وهو مبتدأ و{مِن قَبْلِهِ} ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وهو ناصب {إِمَاماً} على الحال نحو: في الدار زيد قائماً. ومعنى {إِمَاماً} قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام {وَرَحْمَةً} لمن آمن به وعمل بما فيه {وهذا} القرآن {كتاب مُّصَدِّقٌ} لكتاب موسى أو لما بين يديه وتقدمه من جميع الكتب {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} حال من ضمير الكتاب في {مُّصَدّق} والعامل فيه {مُّصَدّق} أو من كتاب لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة، وجوز أن يكون مفعولاً ل {مُّصَدّق} أي يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول {لِّيُنذِرَ} أي الكتاب، {لّتُنذِرَ} حجازي وشامي. {الذين ظَلَمُواْ} كفروا {وبشرى} في محل النصب معطوف على محل {لّيُنذِرَ} لأنه مفعول له {لِّلْمُحْسِنِينَ} للمؤمنين المطيعين.

.تفسير الآيات (13- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)}
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} على توحيد الله وشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في القيامة {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} عند الموت {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حال من {أصحاب الجنة} والعامل فيه معنى الإشارة الذي دل عليه {أولئك} {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا} كوفي أي وصيناه بأن يحسن بوالديه إحساناً، {حُسْنًا} غيرهم أي وصيناه بوالديه أمراً ذا حسن أو بأمر ذي حسن، فهو في موضع البدل من قوله {بوالديه} وهو من بدل الاشتمال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} وبفتح الكافين: حجازي وأبو عمرو وهما لغتان في معنى المشقة، وانتصابه على الحال أي ذات كره، أو على أنه صفة للمصدر أي حملاً ذاكره {وَحَمْلُهُ وفصاله} ومدة حمله وفطامه {ثَلاَثُونَ شَهْراً} وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] بقيت للحمل ستة أشهر، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: المراد به الحمل بالأكف. {وَفِصْلُهُ} يعقوب. والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} هو جمع لا واحد له من لفظه، وكان سيبويه يقول: واحده شدة، وبلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة: ثلاث وثلاثون سنة ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون.
{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} المراد به نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمة عليه {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} قيل: هي الصلوات الخمس {وَأَصْلِحْ لِى في ذُرّيَّتِى} أي اجعل ذريتي موقعاً للصلاح ومظنة له {إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ} من كل ذنب {وَإِنِّى مِنَ المسلمين} من المخلصين {أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم} حمزة وعلي وحفص. {يُتَقَبَّل} {ويُتَجاوز} {أَحْسَنُ} غيرهم {فِى أصحاب الجنة} هو كقولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم {وَعْدَ الصدق} مصدر مؤكد لأن قوله {يُتَقَبَّل} {ويتجاوز} وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. قيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه {الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} في الدنيا.
{والذى قَالَ لوالديه} مبتدأ خبره {أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} والمراد بالذي قال، الجنس القائل ذلك القول ولذلك وقع الخبر مجموعاً. وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قبل إسلامه، ويشهد لبطلانه كتاب معاوية إلى مروان ليأمر الناس بالبيعة ليزيد فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يا أيها الناس هذا الذي قال الله تعالى فيه: {والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا}. فسمعت عائشة رضي الله عنها فغضبت وقالت: والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله أي قطعة {أُفّ لَّكُمَآ} مدني وحفص، {أُفَّ} مكي وشامي، {أُفِّ} غيرهم وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال (حس) علم أنه متوجع. واللام للبيان أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما. {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} أن أبعث وأخرج من الأرض {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} ولم يبعث منهم أحد {وَهُمَا} أبواه {يَسْتَغِيثَانِ الله} يقولان الغياث بالله منك ومن قولك وهو استعظام لقوله ويقولان له {وَيْلَكَ} دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك {ءَامِنْ} بالله وبالبعث {إِنَّ وَعْدَ الله} بالبعث {حَقٌّ} صدق {فَيَقُولُ} لهما {مَا هذا} القول: {إِلاَّ أساطير الأولين أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي لأملأن جهنم {فِى أُمَمٍ} في جملة أمم {قَدْ خَلَتْ} قد مضت {مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين وَلِكُلّ} من الجنسين المذكورين الأبرار والفجار {درجات مِّمَّا عَمِلُواْ} أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، أو من أجل ما عملوا منهما، وإنما قال: {درجات} وقد جاء: «الجنة درجات والنار دركات» على وجه التغليب {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم} بالياء: مكي وبصري وعاصم {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم، قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات فاللام متعلقة بمحذوف {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} عرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به. وقيل: المراد عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا {أَذْهَبْتُمْ} أي يقال لهم أذهبتم وهو ناصب الظرف {طيباتكم في حياتكم الدنيا} أي ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها.
وعن عمر رضي الله عنه: لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي {واستمتعتم بِهَا} بالطيبات {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي الهوان وقرئ به {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تتكبرون {فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي باستكباركم وفسقكم.
{واذكر أَخَا عَادٍ} أي هوداً {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو وادٍ بين عمان ومهرة {وَقَدْ خَلَتِ النذر} جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} من قبل هود ومن خلف هود، وقوله {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وقع اعتراضاً بين {أَنذَرَ قَوْمَهُ} وبين {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} والمعنى واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك {قَالُواْ} أي قوم هود {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا فالأفك الصرف يقال: أفكه عن رأيه {عَنْ ءَالِهَتِنَا} عن عبادتها {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من معاجلة العذاب على الشرك {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعيدك.