فصل: تفسير الآيات (9- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (9- 12):

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيب من مسكك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي. وقيل: بالأيدي والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ونزلت. وجمع {اقتتلوا} حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، وثنى في {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} نظراً إلى اللفظ {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح {فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِئ} أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت {إلى أَمْرِ الله} المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء {فَإِن فَآءَتْ} عن البغي إلى أمر الله {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بالإنصاف {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين والقسط: الجور، والقسط: العدل، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور.
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها. ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك، {أخوتكم} يعقوب {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي واتقوا الله، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} القوم: الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله:
وما أدري ولست إخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن. وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين: أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية. وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه، وقوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ}. كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.
{وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ} ولا تطعنوا أهل دينكم. واللمز: الطعن والضرب باللسان {وَلاَ تَلْمُزُواْ} يعقوب وسهل. والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} التنابز بالألقاب التداعي بها، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له، فأما ما يحبه فلا بأس به. ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت. وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة، وعن أنس رضي الله عنه: عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر. ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: تنح فلم يفعل. فقال: من هذا؟ فقال الرجل: أنا فلان. فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} الاسم هاهنا بمعنى الذكر من قولهم (طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم) وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق. وقوله {بَعْدَ الإيمان} استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول (بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة). وقيل: كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهي عنه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} وحد وجمع للفظ من ومعناه.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه. وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} قال الزجاج: هو ظنك بأهل الخير سوأ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم. أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم. يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس. وعن مجاهد: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله. وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وفي الحديث: «هو أن تذكر أخاك بما يكره» فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان. وعن ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس.
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} {مَيِّتًا} مدني. وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، وفي مبالغات منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي، وانتصب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو من أخيه، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} التواب: البليغ في قبول التوبة، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين.
ورُوي «أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا: ما تناولنا لحماً، قال: إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه. ثم قرأ الآية»، وقيل: غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق.

.تفسير الآيات (13- 18):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها {لتعارفوا} أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} في الحديث: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها. يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله» ثم قرأ الآية. وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: «من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت» {إِنَّ الله عَلِيمٌ} كرم القلوب وتقواها {خَبِيرٌ} بهمّ النفوس في هواها.
{قَالَتِ الأعراب} أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه {ءَامَنَّا} أي ظاهراً وباطناً {قُلْ} لهم يا محمد {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} لم تصدقوا بقلوبكم {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فالإيمان هو التصديق، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة. وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف، وفي {لَّمّاً} معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان، فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك. ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به. وليس قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} تكريراً لمعنى قوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} فإن فائدة قوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} تكذيب لدعواهم وقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قُولُواْ}.
{وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في السر بترك النفاق {لاَ يَلِتْكُمْ} {لا يألتكم}: بصري {مِّنْ أعمالكم شَيْئاً} أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً. ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص {أَنَّ الله غَفُورٌ} بستر الذنوب {رَّحِيمٌ} بهدايتهم للتوبة عن العيوب. ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه. ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر. وخبر المبتدأ الذي هو {المؤمنون} {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق. وقوله {الذين آمَنُواْ} صفة لهم.
ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم {والله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض والله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ} من النفاق والإخلاص وغير ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ} أي بأن {أَسْلَمُواْ} يعني بإسلامهم.
والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} أي المنة لله عليكم {أَنْ هَداكُمْ} بأن هداكم أو لأن {للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين} إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرئ {إِنْ هَداكُمْ} {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وبالياء: مكي. وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب؟