فصل: تفسير الآيات (35- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (35- 67):

{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}
{إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء} ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة، فإما أن يراد اللاتي ابتدئ انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن {فجعلناهن أبكارا} عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً {عُرُباً} {عرْباً} حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل {أَتْرَاباً} مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك، واللام في {لأصحاب اليمين} من صلة {أَنشَأْنَا} {ثُلَّةٌ} أي أصحاب اليمين ثلة {مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين} فإن قلت: كيف قال قبل هذا {وَقِيلَ مَنْ الآخرين} ثم قال هنا {وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين}؟ قلت: ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً. وعن الحسن: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة.
{وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال} الشمال والمشأمة واحدة {فِى سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} وماء حار متناهي الحرارة {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى أنه ظل حار ضار {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} أي في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} يداومون {عَلَى الحنث العظيم} أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] {وَكَانُواْ يِقُولُونَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} تقديره: أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف، وجاز حذفه إذ {مَّبْعُوثُونَ} يدل عليه، ولا يعمل فيه {مَّبْعُوثُونَ} لأن (إن) والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما {أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} من غير توكيد ب (نحن) للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله {مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل لا المؤكدة للنفي. {أَوَ ءابَاؤُنَا} مدني وشامي.
{قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى (من) كخاتم فضة، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ} {من} لابتداء الغاية {مّن زَقُّومٍ} {من} لبيان الشجر {فَمَالِئَونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم} أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه.
{فشاربون شُرْبَ} بضم الشين: مدني وعاصم وحمزة وسهل، وبفتح الشين: غيرهم وهما مصدران {الهيم} هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم. وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين {هذا نُزُلُهُمْ} هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له {يَوْمِ الدين} يوم الجزاء {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ} فهلا {تُصَدّقُونَ} تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً.
{أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف {ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً {أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط {قَدَّرْنَآ} بالتخفيف: مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه، فمعنى قوله {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه. و{أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق {وَنُنشِئَكُمْ في مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون {أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} {النشاءة} مكي وأبو عمرو {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر {ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتاً {أَمْ نَحْنُ الزرعون} المنبتون وفي الحديث: «لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت» {لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما} هشيماً متكسراً قبل إدراكه {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها {إِنَّاْ} أي تقولون إنا {أئنا} أبو بكر {لَمُغْرَمُونَ} لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.

.تفسير الآيات (68- 96):

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ} أي الماء العذب الصالح للشرب {ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} السحاب الأبيض وهو أعذب ماء {أَمْ نَحْنُ المنزلون} بقدرتنا {لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً} ملحاً أو مراً لا يقدر على شربه {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون. ودخلت اللام على جواب لو في قوله {لَجَعَلْنَاهُ حطاما} ونزعت منه هنا، لأن (لو) لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط ك (إن) ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
{أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ} تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة {ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد {أَم نَحْنُ المنشئون} الخالقون لها ابتداء {نَحْنُ جعلناها} أي النار {تَذْكِرَةٌ} تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم (أقوت الدار) إذا خلت من ساكنيها. بدأ بذكر خلق الإنسان فقال: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء، ثم بما يخبز به وهو النار، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حياً {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك {العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. وقيل: قل سبحان ربي العظيم وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم.
{فَلاَ أُقْسِمُ} أي فأقسم و(لا) مزيدة مؤكدة مثلها قوله {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}
[الحديد: 29] وقرئ {فلأقسم} ومعناه فلأَنا أقسم، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي (أنا أقسم)، ثم حذف المبتدأ. ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة {بمواقع النجوم} بمساقطها ومغاربها {بموقع} حمزة وعلي، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه وهو قوله {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ} حسن مرضي أو نفاع جم المنافع أو كريم على الله، واعترض ب {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الموصوف وصفته {فِى كتاب} أي اللوح المحفوظ {مَّكْنُونٌ} مصون عن أن يأتيه الباطل أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} من جميع الأدناس أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة ل {كتاب مَّكْنُونٍ} وهو اللوح، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس والمراد مس المكتوب منه {تَنزِيلَ} صفة رابعة للقرآن أي منزل {مِن رَّبّ العالمين} أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه فقيل: جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ.
{أفبهذا الحديث} أي القرآن {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليهم والرزق المطر أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم.
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ} النفس أي الروح عند الموت {الحلقوم} ممر الطعام والشراب {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} إلى المحتضر {مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} لا تعقلون ولا تعلمون {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم {تَرْجِعُونَهَا} تردون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم {إِن كُنتُمْ صادقين} أنكم غير مربوبين مقهورين. {فَلَوْلا} في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلاً وذا قوله {تَرْجِعُونَهَا} واكتفى بذكره مرة، وترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، و{فَلَوْلا} الثانية مكررة للتأكيد ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء، إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟.
{فَأَمَّا إِن كَانَ} المتوفي {مِنَ المقربين} من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة {فَرَوْحٌ} فله استراحة {وَرَيْحَانٌ} ورزق {وجنات نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين * فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم الذين قيل لهم في هذه السورة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون} {فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال فيها. وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين {إِنَّ هَذَا} الذي أنزل في هذه السورة {لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي الحق الثابت من اليقين {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} رُوي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. فقال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا تدعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. فقال: ألا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: ندفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله: اقتربت، الرحمن، الواقعة، والله أعلم.

.سورة الحديد:

.تفسير الآيات (1- 12):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
{سَبَّحَ للَّهِ} جاء في بعض الفواتح {سبح} بلفظ الماضي، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي (بني إسرائيل) بلفظ المصدر، وفي (الأعلى) بلفظ الأمر استيعاداً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع: المصدر والماضي والمضارع والأمر. وهذا الفعل قد عُدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله {وَتُسَبّحُوهُ} [الفتح: 9] وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له، وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً {مَا في السماوات والارض} ما يتأتى منه التسبيح ويصح {وَهُوَ العزيز} المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً {الحكيم} في مجازاة من سبح له انقياداً {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} لا لغيره وموضع {يُحْيىِ} رفع أي هو يحيي الموتى {وَيُمِيتُ} الأحياء أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محيياً ومميتاً {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ هُوَ الأول} هو القديم الذي كان قبل كل شيء {والآخر} الذي يبقي بعد هلاك كل شيء {والظاهر} بالأدلة الدالة عليه {والباطن} لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً. والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن. وقيل: الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه {وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ}.
{هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ} عن الحسن: من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار {ثُمَّ استوى} استولى {عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرض} ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وغيره {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من الملائكة والأمطار {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الأعمال والدعوات {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم على حسب أعمالكم {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور يُولِجُ اليل في النهار} يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار {وَيُولِجُ النهار في اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}.
{ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ} يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به {فالذين ءامَنُواْ} بالله ورسله {مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} هو حال من معنى الفعل في {مَالَكُمْ} كما تقول: مالك قائماً؟ بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله.
والواو في {والرسول يَدْعُوكُمْ} واو الحال فهما حالان متداخلتان، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم {لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون؟ {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه {أُخِذَ ميثاقكم} أبو عمرو.
{هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {ءايات بَيّنَاتٍ} يعني القرآن {لِيُخْرِجَكُمْ} الله تعالى أو محمد بدعوته {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ} بالمد والهمزة: حجازي وشامي وحفص {رَّحِيمٌ} الرأفة أشد الرحمة {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} في أن لا تنفقوا {فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم؟ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله: {مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ} يدل عليه {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» {أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ} أي كل واحد من الفريقين {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات.
{وَكُلاًّ} مفعول أول ل {وَعْدُ} و{الحسنى} مفعول ثانٍ. {وَكُلٌّ}: شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم على قدر أعمالكم.
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. {فيضعّفُهُ} مكي {فيضعفَهُ} شامي {فَيُضَاعِفَهُ}: عاصم وسهل {فيضاعفُهُ} غيرهم. فالنصب على جواب الاستفهام، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على {يُقْرِضُ} {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات} ظرف لقوله {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أو منصوب بإضمار (اذكر) تعظيماً لذلك اليوم {يسعى} يمضي {نُورُهُم} نور التوحيد والطاعات. وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}.