فصل: سورة الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة الجمعة:

.تفسير الآيات (1- 11):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله {وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك {هُوَ الذي بَعَثَ} أرسل {فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ} أي بعث رجلاً أمياً في قوم أميين. وقيل {مِنْهُمْ} كقوله {مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعلمون نسبه وأحواله. والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم. وقيل: بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل الأنبار {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته} القرآن {وَيُزَكّيهِمْ} ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة أو الفقه في الدين {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} كفر وجهالة، و(إن) مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه.
{وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} مجرور معطوف على {الأميين} يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين. وقيل: هم العجم. أو منصوب معطوف على المنصوب في {وَيُعَلّمُهُمُ} أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه {وَهُوَ العزيز الحكيم} في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر {ذلك} الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إعطاءه وتقتضيه حكمته {والله ذُو الفضل العظيم مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي كلفوا علمها والعمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} جمع سفر وهو الكتاب الكبير و{يَحْمِلُ} في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتباً كباراً من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالماً.
{قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ} هاد يهود إذا تهود {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين} كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، ثم قال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي بسبب ما قدموا من الكفر. ولا فرق بين (لا) و(لن) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في (لن) تأكيداً وتشديداً ليس في (لا) فأتى مرة بلفظ التأكيد و{لَنْ يَتَمَنَّوْهُ} ومرة بغير لفظه و{لا يَتَمَنَّونَهُ} {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم.
{قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} لا محالة والجملة خبر {إن} ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة} النداء الأذان و{من} بيان ل {إذا} وتفسير له، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث: «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر» {فاسعوا} فامضوا وقرئ بها وقال الفراء: السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي {إلى ذِكْرِ الله} أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز {وَذَرُواْ البيع} أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا. وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير {ذلكم} أي السعي إلى ذكر الله {خَيْرٌ لَّكُمْ} من البيع والشراء {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي أديت {فانتشروا في الأرض} أمر إباحة {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله {واذكروا الله كَثِيراً} واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} تفرقوا عنك إليها وتقديره: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم.
رُوي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم عليهم الوادي ناراً» وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو {وَتَرَكُوكَ} على المنبر {قَائِمَاً} تخطب، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً {قُلْ مَا عِندَ الله} من الثواب {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين} أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين، والله أعلم.

.سورة المنافقون:

.تفسير الآيات (1- 7):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}
{إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} أي والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} في ادعاء المواطأة أو إنهم لكاذبون فيه لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه {اتخذوا أيمانهم جُنَّةً} وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين {فَصَدُّواْ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} عن الإسلام بالتنفير وإلقاء الشبه {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي {ساء} معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين {ذلك} إشارة إلى قوله {سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم: إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ونحو ذلك، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} [البقرة: 14] الآية. {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الإيمان.
والخطاب في {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} لرسول الله أو لكل من يخاطب {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} كان ابن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياً كلهم ويسمعون إلى كلامهم. وموضع {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} رفع على (هم كأنهم خشب)، أو هو كلام مستأنف لا محل له {مُّسَنَّدَةٌ} إلى الحائط، شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع، أو لأنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام، {خُشُبٌ} أبو عمرو غير عباس وعلي جمع خشبة كبدنة وبدون خشب كثمرة وثمر {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} {كُلَّ صَيْحَةٍ} مفعول أول والمفعول الثاني {عَلَيْهِمْ} وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعاً بهم.
ثم قال: {هُمُ العدو} أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي {فاحذرهم} ولا تغترر بظاهرهم {قاتلهم الله} دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ} عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً {لَوَّوْاْ} بالتخفيف: نافع {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الاعتذار والاستغفار. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتلهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن أبي واقتتلا، فصرخ جهجاه: يا للمهاجرين، وسنان: يا للأنصار، فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين ولطم سناناً فقال عبد الله لجعال وأنت هناك وقال: ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال: أنت والله الذليل المبغض في قومك، ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين. فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله. فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب. قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً. قال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله: أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال: والله أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب فهو قوله {اتخذوا أيمانهم جُنَّةً} فقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قدوهم. فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: يا غلام إن الله قد صدقك وكذب المنافقين. فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه فقال: أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد، فنزل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} ولم يلبث إلا أياماً حتى اشتكى ومات.
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أي ما داموا على النفاق. والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم، أو لأن الله لا يغفر لهم. وقرئ {استغفرت} على حذف حرف الاستفهام لأن (أم) المعادلة تدل عليه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين * هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} يتفرقوا {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض} أي وله الأرزاق والقسم فهو رازقهم منها وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان.

.تفسير الآيات (8- 11):

{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا} من غزوة بني المصطلق {إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة} الغلبة والقوة {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغني الذي لا فقر معه! وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً. قال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ * ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم {أموالكم} والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج {وَلاَ أولادكم} وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم {عَن ذِكْرِ الله} أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} يريد الشغل بالدنيا عن الدين. وقيل: من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني.
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم} {من} للتبعيض والمراد بالإنفاق الواجب {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} أي من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذر عليه الإنفاق {فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى} هلا أخرت موتي {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلى زمان قليل {فَأَصَّدَّقَ} فأتصدق وهو جواب {لولا} {وَأَكُن مّنَ الصالحين} من المؤمنين. والآية في المؤمنين. وقيل: في المنافقين. {وأكون} أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ، والجزم على موضع {فَأَصَّدَّقَ} كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن {وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} عن الموت {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} المكتوب في اللوح المحفوظ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {يَعْمَلُونَ} حماد ويحيى، والمعنى أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب.