فصل: تفسير الآيات (10- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (10- 28):

{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
{وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ} عذاب {أُرِيدَ بِمَن في الأرض} بعدم استراق السمع {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} خيراً ورحمة {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} الأبرار المتقون {وَمِنَّا} قوم {دُونِ ذَلِكَ} فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة. والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته {وَأَنَّا ظَنَنَّا} أيقنا {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله} لن نفوته {فِى الأرض} حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} القرآن {ءَامَنَّا بِهِ} بالقرآن أو بالله {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخاف مبتدأ وخبر {بَخْساً} نقصاً من ثوابه {وَلاَ رَهَقاً} أي ولا ترهقه ذلة من قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26]. وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} المؤمنون {وَمِنَّا القاسطون} الكافرون الجائرون عن طريق الحق، قسط: جار وأقسط عدل {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ} في علم الله {لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقوداً، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم {وَأَنْ} مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحى إلى أن الشأن {لَوْ استقاموا} أي القاسطون {عَلَى الطريقة} طريقة الإسلام {لأسقيناهم مَّاءً غَدَقاً} كثيراً، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} القرآن أو التوحيد أو العبادة {يَسْلُكْهُ} بالياء: عراقي غير أبي بكر يدخله {عَذَاباً صَعَداً} شاقاً مصدر صعد يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح. أي ما شق عليّ.
{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} من جملة الموحى أي أوحي إلى أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله. وقيل: معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة ب {لاَّ تَدْعُواْ} أي {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته.
وقيل: المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله {يَدْعُوهُ} يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبداً {كَادُواْ} كاد الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} جماعات جمع لبدة تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجاباً بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبّى} وحده {قَالَ} غير عاصم وحمزة {وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي؟ {قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} مضرة {وَلاَ رَشَداً} نفعاً، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي {غَيّاً وَلاَ رَشَداً} يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله.
{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام: {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63] {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ملتجأ.
{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} استثناء من {لا أَمْلِكُ} أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله و{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى} اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه. وقيل: {بَلاَغاً} بدل من {مُلْتَحَدًا} أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني. وقال الفراء: هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و(إن) منفصلة من (لا) وتقديره: أن لا أبلغ بلاغاً أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيراً لي كقولك إن لا قياماً فقعوداً، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ {ورسالاته} عطف على {بَلاَغاً} كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان. و(من) ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال: بلّغ عنه، إنما هي بمنزلة (من) في {بَرَاءةٌ مّنَ الله} [التوبة: 1] أي بلاغاً كائناً من الله.
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في ترك القبول، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً} وحد في قوله {لَهُ} وجمع في {خالدين} للفظ من ومعناه {حتى} يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه حتى {إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ} عند حلول العذاب بهم {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أهم أم المؤمنون؟ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه {قُلْ إِنْ أَدْرِى} ما أدري {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} من العذاب {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى} وبفتح الياء: حجازي وأبو عمرو {أَمَدًا} غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعاً ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل {عالم الغيب} هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب {فَلاَ يُظْهِرُ} فلا يطلع {على غَيْبِهِ أَحَداً} من خلقه {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء.
و{مِن رَّسُولٍ} بيان ل {مَنِ ارتضى} والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول. وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق.
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} يدخل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} يدي رسول {وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي {لِيَعْلَمَ} الله {أَن قَدْ أَبْلَغُواْ} أي الرسل {رسالات رَبِّهِمْ} كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجوداً حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد، وحد الضمير في {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} للفظ (من)، وجمع في {أَبْلَغُواْ} لمعناه {وَأَحَاطَ} الله {بِمَا لَدَيْهِمْ} بما عند الرسل من العلم {وأحصى كُلَّ شَئ عَدَداً} من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و{عَدَدًا} حال أي وعلم كل شيء معدوداً محصوراً أو مصدر في معنى إحصاء، والله أعلم.

.سورة المزمل:

مكية وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي.

.تفسير الآيات (1- 13):

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}
{يأَيُّهَا المزمل} أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي. كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ} بدل من {اليل} و{إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من قوله {نّصْفَهُ} تقديره: قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل {أَوِ انقص مِنْهُ} من النصف. بضم الواو: غير عاصم وحمزة {قَلِيلاً} إلى الثلث {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} على النصف إلى الثلثين، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه، وإن جعلت {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلاً} كان مخيراً بين ثلاثة أشياء: بين قيام نصف الليل تاماً، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه. وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا: إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلاً أنه يلزمه أكثر من نصف الألف {وَرَتّلِ القرءان} بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان، وكلام رَتَلٌ بالتحريك أي مرتل، وثغر رتل أيضاً إذا كان مستوي البنيان. أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات {تَرْتِيلاً} هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لابد منه للقارئ {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ} سننزل عليك {قَوْلاً ثَقِيلاً} أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، أو ثقيلاً على المنافقين، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اليل} بالهمزة: سوى ورش: قيام الليل. عن ابن مسعود رضي الله عنه. فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل {هِىَ أَشَدُّ} {وطاءً} {وفاقا} شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه. وعن الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق. وغيرهما {وَطْأ} أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» {وَأَقْوَمُ قِيلاً} وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات {إِنَّ لَكَ في النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغاً طويلاً لنومك وراحتك {واذكر اسم رَبِّكَ} ودم على ذكره في الليل والنهار، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} انقطع إلى عبادته عن كل شيء.
والتبتل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره. وقيل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله {تَبْتِيلاً} في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلاً أو جيء به مراعاة لحق الفواصل.
{رَّبُّ المشرق والمغرب} بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وبالجر: شامي وكوفي غير حفص بدل من {رَبَّكَ} وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو: الله لأفعلن، وجوابه لا إله إلا هو كقولك: والله لا أحد في الدار إلا زيد {فاتخذه وَكِيلاً} ولياً وكفيلاً بما وعدك من النصر، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافياً لأمورك. وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار.
{واصبر على مَا يَقُولُونَ} فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة. وقيل: هو منسوخ بآية القتال {وَذَرْنِى} أي كِلْهم إليّ فأنا كافيهم {والمكذبين} رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على {ذَرْنِى} أي دعني وإياهم {أُوْلِى النعمة} التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة {وَمَهِّلْهُمْ} إمهالاً {قَلِيلاً} إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة {إِنَّ لَدَيْنَا} للكافرين في الآخرة {أَنكَالاً} قيوداً ثقالاً جمع نِكْل {وَجَحِيماً} ناراً محرقة {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم {وَعَذَاباً أَلِيماً} يخلص وجعه إلى القلب. ورُوي: «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق» وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال: ارفعه. ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.

.تفسير الآيات (14- 20):

{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
{يَوْمَ} منصوب بما في {لَدَيْنَا} من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم {تَرْجُفُ الأرض والجبال} أي تتحرك حركة شديدة {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً} رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول {مَّهِيلاً} سائلاً بعد اجتماعه {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا أهل مكة {رَسُولاً} يعني محمداً عليه السلام {شاهدا عَلَيْكُمْ} يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} يعني موسى عليه السلام {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} أي ذلك الرسول (إذ) النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} شديداً غليظاً. وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً} هو مفعول {تَتَّقُونَ} أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم؟ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أو منصوب ب {كَفَرْتُمْ} على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه {يَجْعَلُ الولدان} صفة ل {يَوْماً} والعائد محذوف أي فيه {شِيباً} من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام: قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب. وقيل: هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال.
{السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} وصف لليوم بالشدة أيضاً أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر، وقوله {بِهِ} أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به {كَانَ وَعْدُهُ} المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل: {مَفْعُولاً} كائناً {إِنَّ هذه} الآيات الناطقة بالوعيد {تَذْكِرَةٌ} موعظة {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية.
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى} أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك {مِن ثُلُثَىِ اليل} بضم اللام: سوى هشام {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} منصوبان عطف على {أدنى} مكي وكوفي، ومن جرهما عطف على {مِن ثُلُثَىِ} {وَطَائِفَةٌ} عطف على الضمير في {تَقُومُ} وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل {مِّنَ الذين مَعَكَ} أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك {والله يقدراليل والنهار} أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده.
وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه {يقدر} هو الدال على أنه مختص بالتقدير، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل {فاقرءوا} في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب {مَا تَيَسَّرَ} عليكم {مِنَ القرءان} روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين. وقيل: أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ} أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها {مَّرْضَى} فيشق عليهم قيام الليل.
{وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرض} يسافرون {يَبْتَغُونَ} حال من ضمير {يَضْرِبُونَ} {مِن فَضْلِ الله} رزقه بالتجارة أو طلب العلم {وَءاخَرُونَ يقاتلون في سَبِيلِ الله} سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم {وَأَقِيمُواْ الصلاوة} المفروضة {وَءَاتُواْ الزكواة} الواجبة {وَأَقْرِضُواُ الله} بالنوافل. والقرض لغة: القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه {قَرْضًا حَسَنًا} من الحلال بالاخلاص {وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} أي ثوابه وهو جزاء الشرط {عِندَ الله هُوَ خَيْراً} مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني ل {تَجِدُوهُ} {خيراً} و{هُوَ} فصل. وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف {وَأَعْظَمَ أَجْراً} وأجزل ثواباً {واستغفروا الله} من السيئات والتقصير في الحسنات {إِنَّ الله غَفُورٌ} يستر على أهل الذنب والتقصير {رَّحِيمٌ} يخفف عن أهل الجهد والتوفيق وهو على ما يشاء قدير، والله أعلم.