فصل: تفسير الآيات (123- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (123- 147):

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} وهو اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به، أو ذكر بدراً بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر. {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} لقلة العدد فإنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم زهاء ألف مقاتل والعدد، فإنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد، ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة. وجاء بجمع القلة وهو {أذلة} ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً {فاتّقوا اللّه} في الثبات مع رسوله {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من النصر {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ظرف ل {نصركم} على أن يقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه، أو بدل ثانٍ من {إذ غدوت} على أن تقول لهم ذلك يوم أحد {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} {منزّلين} شامي. {مُنزلِين} أبو حيوة أي للنصرة. ومعنى {ألن يكفيكم} إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وجيء ب {لن} الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر {بلى} إيجاب لما بعد{لن} أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية. ثم قال: {إِن تَصْبِرُواْ} على القتال {وَتَتَّقُواْ} خلاف الرسول عليه السلام {وَيَأْتُوكُمْ} يعني المشركين {مّن فَوْرِهِمْ هذا} هو من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل (خرج من فوره) كما تقول (من ساعته لم يلبث) ومنه قول الكرخي (الأمر المطلق على الفور لا على التراخي) والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الملائكة} في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم {مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو: مكي وأبو عمر وعاصم وسهل أي معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعون بها في الحرب. والسومة العلامة. عن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها. غيرهم: بفتح الواو أي معلمين. قال الكلبي: معلين بعمائم صفر مرخاة على اكتافهم، وكانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك. قال قتادة: نزلت ألفاً فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف {وَمَا جَعَلَهُ الله} الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه {أن يمدكم} {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة {العزيز} الذي لا يغالب في أحكامه {الحكيم} الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه.
واللام في {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله: {ولقد نصركم الله}. أو بقوله: {وما النصر إلا من عند الله}. أو ب {يمددكم ربكم} {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، وحقيقة الكبت شدَّة وهن تقع في القلب فيصرع في الوجه لأجله {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} اسم ليس {شيء} والخبر {لك} و{من الأمر} حال من {شيء} لأنها صفة مقدمة {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عطف على {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم} و{وليس لك من الأمر شيء} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وعن الفراء {أو} بمعنى {حتى}. وعن ابن عيسى بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. وقيل: أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن {فَإِنَّهُمْ ظالمون} مستحقون للتعذيب.
{وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} للمؤمنين {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} الكافرين {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} {مضعفَّة} مكي وشامي. هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول: إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل {واتقوا الله} في أكله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين} كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وفيه رد على المرجئة في قولهم (لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً) وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة. وفي ذكره تعالى: {لعل} و{عسى} في نحو هذه المواضع وإن قال أهل التفسير إن {لعل} و{عسى} من الله للتحقيق، ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه.
{وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} {سَارَعوا}: مدني وشامي. فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها، ومن حذفها استأنفها. ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما. ثم قيل: هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى، أو الطاعة، أو الإخلاص، أو التوبة، أو الجمعة والجماعات. {عَرْضُهَا السموات والأرض} أي عرضها عرض السماوات والأرض كقوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} [الحديد: 21]. والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه. وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه انها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقال في الدار بستان وإن كان يزيد عليها لأن المراد أن بابه إليها {أُعِدَّتْ} في موضع جر صفة ل {جنة} أيضاً أي جنة واسعة معدة {لّلْمُتَّقِينَ} ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان. ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة، وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة، ويوقف عليه إن جعل {الذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضراء} في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه {والذين إذا فعلوا فاحشة} وجعل الخبر {أولئك}. وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه {والذين إذا فعلوا فاحشة} أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف. فإن قلت: الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين. قلت: جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل الله وعفوه غيرهما كما يقال (أعدت هذه المائدة للأمير) ثم قد يأكلها أتباعه. ألا ترى أنه قال: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين} [آل عمران: 131] ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق، وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. وقيل: المراد الإنفاق في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة {والكاظمين الغيظ} والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا امتلأها وشد فاها، ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً. والغيظ: توقد حرارة القلب من الغضب، وعن النبي عليه السلام: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً»
{والعافين عَنِ الناس} أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي: «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه {والله يُحِبُّ المحسنين} اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، أو للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. عن الثوري: الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة.
{والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} فعلة متزايدة القبح، ويجوز أن يكون و{والذين} مبتدأ خبره {أولئك} {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} قيل: الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما {ذَكَرُواْ الله} بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} فتابوا عنها لقبحهما نادمين. قيل: بكى إبليس حين نزلت هذه الآية {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} {من} مبتدأ و{يغفر} خبره، وفيه ضمير يعود إلى {من} و{إلا الله} بدل من الضمير في {يغفر} والتقدير: ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} ولم يقيموا على قبيح فعلهم والإصرار الإقامة قال عليه السلام: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» وروي: «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من الضمير في {ولم يصروا} أي وهم يعلمون أنهم أساؤوا، أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا الله {أولئك} الموصوفون {جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ} بتوبته {وجنات} برحمته {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات، نزلت في تمار قال لامرأة تريد التمر: في بيتي تمر أجود، فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم. أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى. {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يريد ما سنه الله تعالى في الأمم المكذبين من وقائعه {فَسِيرُواْ في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} فتعتبروا بها هذا أي القرآن أو ما تقدم ذكره {بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى} أي إرشاد {وَمَوْعِظَةٌ} ترغيب وترهيب {لّلْمُتَّقِينَ} عن الشرك {وَلاَ تَهِنُواْ} ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح، وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، أو وأنتم الأعلون بالنصر والظفر في العاقبة وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون، أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتاً لهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر، أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه، أو ب {الأعلون} أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} بضم القاف حيث كان: كوفي غير حفص. ويفتح القاف: غيرهم. وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: بالفتح الجراحة وبالضم ألمها {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا {وَتِلْكَ} مبتدأ {الأيام} صفته والخبر {نُدَاوِلُهَا} نصرفها {بَيْنَ الناس} أي نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطي لهؤلاء تارة وطوراً لهؤلاء كبيت الكتاب:
فيوماً علينا ويوماً لنا ** ويوماً نساء ويوماً نسر

{وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ} أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} وليكرم ناساً منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد، أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} اعتراض بين بعض التعليل وبعض، ومعناه والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ} التمحيص: التطهير والتصفية {وَيَمْحَقَ الكافرين} ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} {أم} منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} أي ولما تجاهدون لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه، تقول: ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه. و{لما} بمعنى {لم} إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل {وَيَعْلَمَ الصابرين} نصب بإضمار {أن} والواو بمعنى الجمع نحو (لا تأكل السمك وتشرب اللبن)، أو جزم للعطف على {يعلم الله}، وإنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها.
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوا كرامة الشهادة، وهم الذين ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه. وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته. لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت محمداً وخرج صارخ قيل هو الشيطان ألا إن محمداً قد قتل. ففشا في الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرسل} فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه {أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم} الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} وإنما ضر نفسه {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} الذين لم ينقلبوا، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
{وَمَا كَانَ} وما جاز {لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، وفيه تحريض على الجهاد، وتشجيع على لقاء العدو، وإعلام بأن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك {كتابا} مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً {مُّؤَجَّلاً} مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر {وَمَن يُرِدْ} بقتاله {ثَوَابَ الدنيا} أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد {نُؤْتِهِ مِنْهَا} من ثوابها {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة} أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر {نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين} وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
{وَكَأَيّن} أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصارا في معنى {كم} التي للتكثير. وكائن بوزن كاع حيث كان: مكي {مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ} {قتل}: مكي وبصري ونافع. {مَعَهُ} حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} والربيون الربانيون. وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها، فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب، والضم والكسر من تغييرات النسب {فَمَا وَهَنُواْ} فما فتروا عند قتل نبيهم {لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ} عن الجهاد بعده {وَمَا استكانوا} وما خضعوا لعدوهم، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان {والله يُحِبُّ الصابرين} على جهاد الكافرين.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضماً لها {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} تجاوزنا حد العبودية {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في القتال {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} بالغلبة. وقدم الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء، لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة.