فصل: تفسير الآيات (192- 200):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (192- 200):

{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أهنته أو أهلكته أو فضحته، واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8]. في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد. قلنا: قال جابر: إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً {وَمَا للظالمين} اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار {مِنْ أَنصَارٍ} من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً} تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان. والمنادي هو الرسول عليه السلام أو القرآن {يُنَادِى للإيمان} لأجل الإيمان بالله، وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان {أَنْ ءَامِنُواْ} بأن آمنوا أو أي آمنوا {بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا} قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} كبائرنا {وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} صغائرنا {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، والأبرار والمتمسكون بالسنة جمع (بر) أو (بار) ك (رب) وأرباب وصاحب وأصحاب {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} أي على تصديق رسلك، أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو على ألسنة رسلك، و{على} متعلق ب {وعدتنا} والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء. وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤيده قوله {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} أو هو إظهار للخضوع والضراعة {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} هو مصدر بمعنى الوعد.
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي أجاب يقال استجاب له واستجابه {أَنّى} بأني {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} {منكم} صفة ل عامل {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيان ل {عامل} {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنو آدم، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين، وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين. عن جعفر الصادق رضي الله عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات: {ربنا}، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات. {فالذين هاجروا} مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} التي ولدوا فيها ونشأوا {وَأُوذُواْ في سَبِيلِى} بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين {وقاتلوا وَقُتِلُواْ} وغزوا المشركين واستشهدوا، {وقتّلوا}: مكي وشامي، {وقتلوا وقاتلوا} على التقديم والتأخير: حمزة وعلي.
وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر. {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وهو جواب قسم محذوف {ثَوَاباً} في موضع المصدر المؤكد يعني إثابة أو تثويباً {مِنْ عِندِ الله} لأن قوله {لأكفرن عنهم ولأدخلنهم} في معنى لأثيبنهم {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} أي يختص به ولا يقدر عليه غيره.
وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع، فنزل {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ في البلاد} والخطاب لكل أحد أو للنبي عليه السلام والمراد به غيره، أو لأن مدره القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً فكأنه قيل: لا يغرنكم. أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} [القصص: 86] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 7] {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ} (النساء 136).
{متاع قَلِيلٌ} خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل، وأراد قتله في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} وساء ما مهدوا لأنفسهم {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} عن الشرك {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ} النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من {جنات} لتخصصها بالصفة، والعامل اللام في {لهم} أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء {مّن عند اللّه} صفة له {وَمَا عِندَ الله} من الكثير الدائم {خَيْرٌ لّلابْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل. {لكن} بالتشديد: يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا. ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} دخلت لام الابتداء على اسم {إن} لفصل الظرف بينهما {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من الكتابين {خاشعين للَّهِ} حال من فاعل {يؤمن} لأن من يؤمن في معنى الجمع {لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً} كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أي غير مشترين {أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعده في قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} [القصص: 54] {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لنفوذ علمه في كل شيء. {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} على الدين وتكاليفه. قال الجنيد رضي الله عنه: الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع {وَصَابِرُواْ} أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً {وَرَابِطُواْ} وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، و(لعل) لتغييب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. وقيل: اصبروا في محبتي، وصابروا في نعمتي، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما» والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

.سورة النساء:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
{يَا أَيُّهَا الناس} يا بني آدم {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه {وَبَثَّ مِنْهُمَا} ونشر من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها، أو على خلقكم والخطاب في {يا أيها الناس} للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت: الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يعدو إليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها؟ قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها. قال عليه السلام عند نزول الآية: «خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب» {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ} والأصل {تتساءلون} فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس. {تساءلون به} بالتخفيف: كوفي على حذف التاء الثانية استثقالاً لاجتماع التاءين أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم فيقول بالله وبالرحم: افعل كذا على سبيل الاستعطاف {والأرحام} بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور كقولك (مررت بزيد وعمراً)، وبالجر: حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف، لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} حافظاً أو عالماً.
{وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم: الانفراد ومنه الدرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم.
وقوله عليه السلام: «لا يتم بعد الحلم» تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} {إلى} متعلقة بمحذوف وهي في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم. والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال {إنّهُ} إن أكلها {كَانَ حُوباً كَبِيراً} ذنباً عظيماً {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أي لا تعدلوا. أقسط أي عدل {فِى اليتامى} يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} ما حل لكم {مّنَ النساء} لأن منهن ماحرم الله كاللاتي في آية التحريم. وقيل: {ما} ذهاباً إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل: الطيبات من النساء، ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} قيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، أو كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل: إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك. وقيل: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات. يقال طابت الثمرة أي أدركت {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} نكرات. وإنما منعت الصرف للعدل والوصف، وعليه دل كلام سيبويه ومحلهن النصب على الحال {من النساء} أو {مما طاب} تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً أربعاً. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى.
وجيء بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق، ولو جيء ب {أو} مكانها لذهب معنى التجويز {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بين هذه الأعداد {فواحدة} فالزموا أو فاختاروا واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر {ذلك} إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري {أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا، يقال عال الميزان عولاً إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر {أن لا تعولوا} أن لا تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله. وأجيب بأن يجعل من قولك (عال الرجل عياله يعولهم) كقولك (مانهم يمونهم) إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن} مهورهن {نِحْلَةً} من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً، وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن. وقيل: النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها. والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} للأزواج {عَن شَئ مّنْهُ} أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات {نَفْساً} تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقهم وسوء معاشرتكم. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً} ولم يقل (فإن وهبن لكم) إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة {فَكُلُوهُ} الهاء يعود على {شيء} {هَنِيئَاً} لا إثم فيه {مَّرِيئاً} لا داء فيه، فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة، مريئاً في العقبى بلا تبعة، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه، وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. هنياً مرياً بغير همز: يزيد، وكذا حمزة في الوقف، وهمزهما الباقون. وعن علي رضي الله عنه: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها عسلاً فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركاً.