فصل: تفسير الآيات (6- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (6- 10):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} الكفر ستر الحق بالجحود، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل. ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} [الأنفطار: 13، 14] لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بهمزتين كوفي، وسواء بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى: {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء} [آل عمران: 64]، أي مستوية، وارتفاعه على أنه خبر لإن و{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه. أو يكون {سواء} خبراً مقدماً و{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر ل {إن} وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى. والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي {لاَ يُؤْمِنُونَ} جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر ل (إن)، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر. والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} قال الزجاج: الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه. وقال ابن عباس: طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير. يعني أن الله طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان. وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه. وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير. وقال بعضهم: إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال: بنى الأمير المدينة، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له، فإسناده إلى الفاعل حقيقة.
وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال {وعلى سَمْعِهِمْ} وحد السمع كما وحد البطن في قوله:
كلوا من بعض بطنكم تعفوا

لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال: سمعت الشيء سمعاً وسماعاً، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل. وقيل: المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرئ: {وعلى أسماعهم}. {وعلى أبصارهم غشاوة} بالرفع خبر ومبتدأ، والبصر: نور العين وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار. والغشاوة: الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة. والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} [الجاثية: 23]، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار {جعل} وتكرير الجار في قوله {وعلى سمعهم} دليل على شدة الختم في الموضعين. قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله: الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لابد من صانع، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية. والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله.
{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] وقال مجاهد: أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين، وآيتان في ذكر الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا. وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. وإنما طابق قوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل، قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين، ونحوه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة: 37]، فهو أبلغ من قولك (وما يخرجون منها). وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً. والآية تنفي قول الكرامية: إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان. ودخلت الباء في خبر (ما) مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع {وما هم بمؤمنين} نظراً إلى معناه.
{يخادعون الله} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف المضاف كقوله {واسئل القرية} [يوسف: 82] كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره، أي يظهرون غير ما في أنفسهم.
فالخداع إظهار غير ما في النفس، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقيل: معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك (عاقبت اللص). وقد قرئ: {يخدعون الله} وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل: يخادعون الله، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك. قال صاحب الوقوف: الوقف لازم على {بمؤمنين} لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك (ما هو برجل كاذب) والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم. ومن جعل {يخادعون} حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها {يقول} والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في {بمؤمنين} والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول: {والذين ءامَنُواْ} أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر. {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن ضررها يلحقهم. وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون. أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد، والنفس ذات الشيء وحقيقته. ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما، وللدم نفس لأن قوامها بالدم، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد. في الحديث: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» والمريض متردد بين الحياة والموت، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب. {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار. وقيل: المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} كوفي. أي بكذبهم في قولهم: {آمنا بالله وباليوم الآخر}، فما مع الفعل بمعنى المصدر، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به. وقيل: هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشيء وبين.

.تفسير الآيات (11- 16):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} معطوف على {يكذبون} ويجوز أن يعطف على {يقول آمنا} لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} لكان صحيحاً، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم. {قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، لأن {إنما} لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك (إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب) و(ما) كافة لأنها تكفها عن العمل. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به. {ألا} مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر} [القيامة: 40]، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في {ألا} و(إن) من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله {لا يشعرون}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} نصحوهم من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. وإنما صح إسناد {قيل} إلى {لا تفسدوا} و{آمنوا} مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب. و(ما) في كما كافة في {ربما}، أو مصدرية كما في {بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم، والكاف في {كما} في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
والاستفهام في {أنؤمن} للإنكار، في {السفهاء} مشار بها إلى الناس، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} أنهم هم السفهاء. وإنما ذكر هنا {لا يعلمون} وفيما تقدم {لا يشعرون} لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس. والسفهاء خبر (إن) و{هم} فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر (إن).
{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا} وقرأ أبو حنيفة رحمه الله {وإذا لاقوا} يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه. الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم. {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى. وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود. وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم (تشيطن)، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من (شطن) إذا بعد لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل. {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة ب (إن) لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار. وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد. وقوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} تأكيد لقوله {إنا معكم} لأن معناه الثبات على اليهودية، وقوله {إنما نحن مستهزئون} رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان.
{الله يَسْتَهْزِئ بِهِمُ} أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]. {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه. قال الزجاج: هو الوجه المختار. واستئناف قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان. ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل {الله يستهزئ بهم} ولم يقل الله مستهزئ بهم ليكون طبقاً لقوله {إنما نحن مستهزؤون} {وَيَمُدُّهُمْ} أي يمهلهم عن الزجاج {فِي طغيانهم} في غلوهم في كفرهم {يَعْمَهُونَ} حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح. {أولئك} مبتدأ خبره. {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي استبدلوها به واختاروها عليه. وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. {فَمَا رَبِحَت تجارتهم} الربح الفضل على رأس المال، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية ** وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر. والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. وقيل: {الذين} صفة {أولئك} و{فما ربحت تجارتهم} إلى آخر الآية في محل رفع خبر {أولئك}.