فصل: تفسير الآيات (18- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (18- 23):

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
{وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن} أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ} في موضع جر بالعطف على {للذين يعملون السيئات} أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون {وَهُمْ كُفَّارٌ} قال سعيد بن جبير: الآية الأولى في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والآخرى في الكافرين. وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره. {أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء. كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات {كرهاً} بالفتح من الكراهة وبالضم: حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول. والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} [الإسراء: 31]. وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وهو منصوب عطفاً على {أن ترثوا} و{لا} لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على {كرها}. والعضل: الحبس والتضييق {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} من المهر واللام متعلقة ب {تعضلوا} {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} هي النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. وعن الحسن: الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع {مُّبَيِّنَةٍ} وبفتح الياء: مكي وأبو بكر، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} لقبحهن أو سوء خلقهن {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ} في ذلك الشيء أو في الكره {خَيْراً كَثِيراً} ثواباً جزيلاً أو ولداً صالحاً. والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين، وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح.
وإنما صح قوله {فعسى أَن تَكْرَهُواْ} جزاء للشرط لأن المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه.
وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} أي تطليق امرأة وتزوج أخرى {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ} وأعطيتم إحدى الزوجات، فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لجماعة الرجال {قِنْطَاراً} مالاً عظيماً كما في (آل عمران). وقال عمر رضي الله عنه على المنبر: لا تغالوا بصدقات النساء. فقالت امرأة: أنتبع قولك أم قول الله: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنطَاراً}. فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر، تزوجوا على ما شئتم {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} من القنطار {شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} أي بيناً، والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير. وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين. ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ وعلل بذلك {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229]. والله تعالى أخذ هذا الميثاق عى عباده لأجلهن فهو كأخذهن، أو قول النبي عليه السلام: «استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» ولما نزل {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} قالوا: تركنا هذا لا نرثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم:
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} وقيل: المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطيء آباؤكم، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين. ولما قالوا: كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا؟ قال: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به، والاستثناء منقطع عن سيبويه. ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} بالغة في القبح {وَمَقْتاً} وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى {وَسَاءَ سَبِيلاً} وبئس الطريق طريقاً ذلك.
ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب، وبدأ بالنسب فقال:
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} والمراد تحريم نكاحهن عند البعض، وقد ذكرنا المختار في شرح المنار.
والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن {وبناتكم} وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن، والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته {وأخواتكم} لأب وأم أو لأب أو لأم {وعماتكم} من الأوجه الثلاثة {وخالاتكم} كذلك {وَبَنَاتُ الأخ} كذلك {وَبَنَاتُ الأخت} كذلك. ثم شرع في السبب فقال: {وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة} الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير الرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، وأصله قوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» {وأمهات نِسَائِكُمْ} وهن محرمات بمجرد العقد {وَرَبَائِبُكُمُ} سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما {الاتى فِي حُجُورِكُمْ} قال داود: إذ لم تكن في حجره لا تحرم. قلنا: ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط، وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} متعلق ب {ربائبكم} أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم (بنى عليها وضرب عليها الحجاب) أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية. واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول، وقد جعل بعض العلماء {اللاتي دخلتم بهن} وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية ب {من}، ولا يجوز أن تقول (مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات) على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره، وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه. {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر، أو يحل فراش الآخر من الحل، أو من الحلول {الذين مِنْ أصلابكم} دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى:
{لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]. وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} وعن محمد بن الحسن رحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما:.
{إلا ما قد سلف}

.تفسير الآيات (24- 35):

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
{والمحصنات مِنَ النساء} أي ذوات الأزواج لأنهن أحصنّ فروجهن بالتزوج. قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} بالسبي وزوجها في دار الحرب. والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسبيهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسبي، فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء {كتاب الله عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف {وَأُحِلَّ لَكُمْ} على الفعل المضر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} ما سوى الحرمات المذكورة. {وأحل}: كوفي غير أبي بكر عطف على {حرمت} {أَن تَبْتَغُواْ} مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا، أو بدل مما {وراء ذلكم} ومفعول {تبتغوا} مقدر وهو النساء، والأجود أن لا يقدر {بأموالكم} يعني المهور، وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر، وأنه يجب وإن لم يسم، وأن غير المال لا يصلح مهراً، وأن القليل لا يصلح مهراً إذ الحبة لا تعد مالاً عادة {مُّحْصِنِينَ} في حال كونكم محصنين {غَيْرَ مسافحين} لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم، ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين. والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح الزاني من السفح وهو صب المني {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} فما نكحتموه منهن {فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن لأن المهر ثواب على البضع ف {ما} في معنى النساء و{من} للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في {به} وعلى المعنى في {فآتوهن} {فَرِيضَةً} حال من الأجور أي مفروضة، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله، أو يزيد لها على مقداره، أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بالأشياء قبل خلقها {حَكِيماً} فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب. وقيل: إن قوله {فما استمتعتم} نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت.
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} فضلاً. يقال (لفلان عليّ طول) أي فضل وزيادة وهو مفعول {يستطع} {أَن يَنكِحَ} مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من {طولاً} {المحصنات المؤمنات} الحرائر المسلمات {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} أي فلينكحن مملوكة من الإماء المسلمات.
وقوله: {من فتياتكم}. أي من فتيات المسلمين والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة، ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به. وقال ابن عباس: ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً، وفيه دليل لنا في مسألة الطول {والله أَعْلَمُ بإيمانكم} فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم، وهو تحذير عن التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} سادتهن وهو حجة لنا في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، أو التقدير: وآتوا مواليهن فحذف المضاف {محصنات} عفائف حال من المفعول في و{آتوهن} {غَيْرَ مسافحات} زوانٍ علانية {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} زوانٍ: سراً والأخدان: الأخلاء في السر {أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالتزويج. {أحصن}: كوفي غير حفص {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} زنا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائر {مّنَ العذاب} من الحد يعني خمسين جلدة، وقوله: {نصف ما على المحصنات}. يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف، وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن {ذلك} أي نكاح الإماء {لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك. {وَأَن تَصْبِرُواْ} في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين {خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن فيه إرقاق الولد، ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين، وفي الحديث: «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» {والله غَفُورٌ} يستر المحظور {رَّحِيمٌ} يكشف المحظور {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في {لا أبالك} لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف {والله عَلِيمٌ} بمصالح عباده {حَكِيمٌ} فيما شرع لهم {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} التكرير للتأكيد والتقرير والتقابل {وَيُرِيدُ} الفجرة {الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات.
وقيل: هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت. يقول: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات. {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا {إِلا أَن تَكُونَ تجارة} إلا أن تقع تجارة. {تجارة}: كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة {عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} صفة ل {تجارة} أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي. والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ، أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه. وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة عن النص {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة، أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله الجهلة، أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره كمهلك نفسه، أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم. وقيل: معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس {عدوانا وَظُلْماً} لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} ندخله ناراً مخصوصة شديدة العذاب {وَكَانَ ذلك} أي إصلاؤه النار {عَلَى الله يَسِيراً} سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحيل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته.
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} عن ابن مسعود رضي الله عنهما: الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}. وعنه أيضاً: الكبائر ثلاث: الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وقيل: المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله {كبير ما تنهون عنه} وهو الكفر {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} {مدخلا}: مدني وكلاهما بمعنى المكان والمصدر كريما {حسناً}. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. {يريد الله ليبين لكم}. {والله يريد أن يتوب عليكم}. {يريد الله أن يخفف عنكم}. {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم}. {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}. {ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه}. {ما يفعل الله بعذابكم}. وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل، لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى. وقوله: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114]. فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطبق عليهما.
ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثل ما لغيره وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه. ولما قال الرجال: نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث، قالت النساء: يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن} أي ليس ذلك على حسب الميراث {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} فإن خزائنه لا تنفد ولا تتمنوا ما للناس من الفضل {إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق. قال ابن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي وفي الحديث: «من لم يسأل الله من فضله غضب عليه»
وفيه: «إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول: لا أعطي عبدي حتى يسألني» {وسلوا}: مكي وعلي {وَلِكُلٍّ} المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو ولكل مال {جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ورّاثاً يلونه ويحرزونه {مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} هو صفة مال محذوف أي لكل مال مما تركه الوالدان، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره: يرثون مما ترك {والذين عَقَدَتْ أيمانكم} عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو {فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} مع الفاء. {عقدت}: كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد الموالاة وهي مشروعة. والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو قولنا. وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر: واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت. ويقول الآخر: قبلت. انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً} أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد.
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الضمير في {بعضهم} للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاق وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم. {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم} وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم. ثم قسمهن على نوعين. النوع الأول {فالصالحات قانتات} مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج {حفظات لّلْغَيْبِ} لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذ كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال. وقيل: للغيب لأسرارهم {بِمَا حَفِظَ الله} بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} [النساء: 19]. أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب، أو بحفظ الله إياهن حيث صيرهن كذلك. والثاني {والاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج. والنشز: المكان المرتفع والنبوة. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره {فَعِظُوهُنَّ} خوفوهن عقوبة الله تعالى. والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة {واهجروهن فِي المضاجع} في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع {واضربوهن} ضرباً غير مبرح.
أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بترك النشوز {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى و{سبيلاً} مفعول {تبغوا} وهو من بغيت الأمر أي طلبته {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن، أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.
ثم خاطب الولاة بقوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أصله {شقاقاً بينهما} فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33]. وأصله بل مكر في الليل والنهار. والشقاق: العداوة والخلاف، لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه، أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء {فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ} رجلاً يصلح للحكومة والإصلاح بينها {وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا} وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة. والضمير في {إِن يُرِيدَا إصلاحا} للحكمين، وفي {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق. أو الضميران للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين، يوفق الله بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد. أو الضميران للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق، يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بإرادة الحكمين {خَبِيراً} بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافاً لمالك رحمه الله.