فصل: تفسير الآيات (36- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (36- 46):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
{واعبدوا الله} قيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} صنماً وغيره ويحتمل المصدر أي إشراكاً {وبالوالدين إحسانا} وأحسنوا بهما إحساناً بالقول والفعل والإنفاق عليهما عند الاحتياج {وَبِذِى القربى} وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما {واليتامى والمساكين والجار ذِي القربى} الذي قرب جواره {والجار الجنب} أي الذي جواره بعيد أو الجار القريب النسيب، والجار الجنب الأجنبي {والصاحب بالجنب} أي الزوجة: عن عليّ رضي الله عنه. أو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر أو شريكاً في تعلم علم أو غيره أو قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد {وابن السبيل} الغريب أو الضعيف {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} العبيد والإماء {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} متكبراً يأنف عن قرابته وجيرانه فلا يلتفت إليهم {فَخُوراً} يعدد مناقبه كبراً فإن عدها اعترافاً كان شكوراً {الذين يَبْخَلُونَ} نصب على البدل من {مَنْ كان مختالاً فخوراً} وجمع على معنى {من} أو على الذم، أو رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره {هم الذين يبخلون} {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} {بالبَخَل}: حمزة وعلي وهما لغتان كالرشد والرشد أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء. قيل: البخل أن يأكل بنفسه ولا يؤكل غيره، والشح أن لا يأكل ولا يؤكل، والسخاء أن يأكل ويؤكل، والجود أن يؤكل ولا يأكل. {وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهمالله مِن فَضْلِهِ} ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال، وفي الحديث: «إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى نعمته على عبده» وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. وقيل: نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام. {وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} أي يهانون به في الآخرة. {والذين يُنْفِقُونَ أموالهم} معطوف على {الذين يبخلون} أو على {الكافرين} {رِئَاء الناس} مفعول له أي للفخار وليقال ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهم المنافقون أو مشركو مكة {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك، وهذا كما يقال للعاق (ما ضرك لو كنت باراً) وقد علم أنه لا مضرة في البر ولكنه ذم وتوبيخ {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} وعيد.
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} هي النملة الصغيرة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة. {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} وإن يك مثقال الذرة حسنة. وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث. {حسنةٌ}: حجازي على {كان} التامة، وحذفت النون من {تكن} تخفيفاً لكثرة الاستعمال {يضاعفها} يضاعف ثوابها. {يضعفّها}: مكي وشامي {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ويعط صاحبها من عنده ثواباً عظيماً، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمى متاع الدنيا قليلاً. وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة مع أن له حسنات كثيرة. {فَكَيْفَ} يصنع هؤلاء الكفرة من الهيود وغيرهم {إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {على هؤلاء} أي أمتك {شَهِيداً} حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: حسبنا». {يَوْمَئِذٍ} ظرف لقوله {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} بالله {وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها. {تسوى} بفتح التاء وتخفيف السين والإمالة وحذف إحدى التاءين من تتسوى: حمزة وعلي. {تسوى} بإدغام التاء في السين: مدني وشامي {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} مستأنف أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. ولما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً وشراباً ودعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا فقدموا أحدهم ليصلي بهم المغرب فقرأ {قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد} ونزل: {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} أي لا تقربوها في هذه الحالة {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} أي تقرأون، وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة، لأن قراءة سورة (الكافرين) بطرح اللامات كفر ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً لا يحكم بكفره {وَلاَ جُنُباً} عطف على {وأنتم سكارى} لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً أي ولا تصلوا جنباً.
والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} صفة لقوله {جنباً} أي لا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين غير مسافرين، والمراد بالجنب الذين لم يغتسلوا كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين {حتى تَغْتَسِلُواْ} إلا أن تكونوا مسافرين عادمين الماء متيممين، عبّر عن المتيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو مروي عن علي رضي الله عنه. وقال الشافعي رحمه الله: لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة وهي المساجد، ولا جنباً أي ولا تقربوا المسجد جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازين فيه، فيجوز للجنب العبور في المسجد عند الحاجة. {وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغآئط} أي المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة فكنى بن عن الحدث {أَوْ لامستم النساء} جامعتموهن كذا عن علي رضي الله عنه وابن عباس {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} فلم تقدروا على استعماله لعدمه أو بعده أو فقد آلة الوصول إليه أو لمانع من حية أو سبع أو عدو {فتيمّموا} أدخل في حكم الشرط أربعة وهم: المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة. والجزاء الذي هو الأمر بالتيمم متعلق بهم جميعاً؛ فالمرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه، والمسافرون إذا عدموه لبعده، والمحدثون وأهل الجنابة إذا لم يجدوه لبعض الأسباب فلهم أن يتيمموا. {لمستم}: حمزة وعلي {صَعِيداً} قال الزجاج: هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده ومسح لكان ذلك طهوره. و{من} في سورة المائدة لابتداء الغاية لا للتبعيض {طَيّباً} طاهراً {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} قيل: الباء زائدة {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً} بالترخيص والتيسير {غَفُوراً} عن الخطأ والتقصير.
{أَلَمْ تَرَ} من رؤية القلب وعدي {بإلى} على معنى (ألم ينته علمك إليهم) أو بمعنى (ألم تنظر إليهم) {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضلالة} يستبدلونها بالهدى وهوالبقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيها المؤمنون {السبيل} أي سبيل الحق كما ضلوه {والله أَعْلَمُ} منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} وقد أخبركم بعداوة هؤلاء فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم {وكفى بالله وَلِيّاً} في النفع {وكفى بالله نَصِيراً} في الدفع فثقوا بولايته ونصرته دونهم، أو لا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
و{ولياً} و{نصيراً} منصوبان على التمييز أو على الحال.
{مّنَ الذين هَادُواْ} بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب، أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض، أن يتعلق بقوله {نصيراً} أي ينصركم من الذين هادوا كقوله {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} [الأنبياء: 77] أو يتعلق بمحذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فقوم مبتدأ و{يحرفون} صفة له، والخبر {من الذين هادوا}مقدم عليه، وحذف الموصوف وهو قوم وأقيم صفته، وهو {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها مقامه وذلك نحو تحريفهم {أسمر ربعة} عن موضعه في التوراة بوضعهم (آدم طوال) مكانه. ثم ذكر هنا {عن مواضعه} وفي المائدة {مِن بَعْدِ مواضعه} [المائدة: 41] فمعنى {عن مواضعه} على ما بينا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، ومعنى {مِن بَعْدِ مواضعه} أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاربان {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا} أمرك قيل أسرّوا به {واسمع} قولنا {غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب أي اسمع وأنت غير مسمع وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم (لا سمعت) دعوة مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعوه إليه ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك فكأنك لم تسمع شيئاً، أو إسمع غير مسمع كلاماً ترضاه فسمعك عنه ناب. ويحتمل المدح أي اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك (أسمع فلان فلاناً) إذا سبه. وكذلك قوله {وراعنا} يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي (راعينا) فكانوا سخرية بالدين وهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} فتلا بها وتحريفاً أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون {راعنا} موضع {انظرنا} و{غير مسمع} موضع (لا أسمعت مكروهاً)، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً {وَطَعْناً فِي الدين} هو قولهم: (لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه) {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ولم يقولوا وعصينا {واسمع} ولم يلحقوا به غير مسمع {وانظرنا} مكان {راعنا} {لَكَانَ} قولهم ذاك {خَيْراً لَّهُمْ} عند الله {وَأَقْوَمَ} وأعدل وأسد {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} منهم قد آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو إلا إيماناً قليلاً ضعيفاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره.

.تفسير الآيات (47- 62):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}
ولما لم يؤمنوا نزل {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} يعني القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} يعني التوراة {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى: أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وقيل: المراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال: ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي. أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين: بطمس الوجوه أو بلعنهم، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. وقيل: هو منتظر في اليهود {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به {مَفْعُولاً} كائناً لا محالة فلابد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إن مات عليه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب. قال النبي عليه السلام: «من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته» وتقييده بقوله {لِمَن يَشَاءُ} لا يخرجه عن عمومه كقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء} [الشورى: 19]. قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية. وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة. والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً.
ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32]. {وَلاَ يُظْلَمُونَ} أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم {فَتِيلاً} قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ. {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ {وكفى بِهِ} بزعمهم هذا {إِثْماً مُّبِيناً} من بين سائر آثامهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} يعني اليهود {يُؤْمِنُونَ بالجبت} أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله {والطاغوت} الشيطان {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين ءَامَنُواْ سَبِيلاً} وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب: أنتم أهدى سبيلاً. {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يعتد بنصره. ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} ف {أم} منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير: النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل.
{أَمْ يَحْسُدُونَ الناس عَلَى مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب} أي التوراة {والحكمة} الموعظة والفقه {وءتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً} يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} للصادين.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} ندخلهم {نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أحرقت {بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} أعدنا تلك الجلود غير محترقة، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية. وعن فضيل: يجعل النضيج غير نضيج {لِيَذُوقُواْ العذاب} ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: (أعزك الله) أي أدامك على عزك {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين {حَكِيماً} فيما يفعل بالكافرين {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} من الأنجاس والحيض والنفاس {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال: (ليل أليل) وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة.
ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله:
{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} وقيل: قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} قضيتم {أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} بالسوية والإنصاف. وقيل: إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزل الله في شأنك قرآناً» وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} {ما} نكرة منصوبة موصوفة ب {يعظكم به} كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وبكسر النون وسكون العين: مدني وأبو عمرو، وبفتح النون وكسر العين: شامي وحمزة وعلي.
{إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأعمالكم.
ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله {ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ} فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله: و{أولي الأمر منكم}؟ فقال أبو حازم: أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق. بقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله} أي القرآن و{الرسول} في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته {ذلك} إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة {خَيْرٌ} عاجلاً {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الفاروق» {يُرِيدُونَ} حال من الضمير في{يزعمون} {أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام، أو على التشبيه بالشيطان، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ} عن الحق {ضلالا بَعِيداً} مستمراً إلى الموت {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} للمنافقين {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} للتحاكم {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم {فَكَيْفَ} تكون حالهم وكيف يصنعون {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} من قتل عمر بشرا {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم {ثُمَّ جَاءُوكَ} أي أصحاب القتيل من المنافقين {يَحْلِفُونَ بالله} حال {إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك {إِلاَّ إِحْسَاناً} لا إساءة {وَتَوْفِيقاً} بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار.
وقيل: جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به.