فصل: تفسير الآيات (42- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (42- 50):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
{سماعون لِلْكَذِبِ} كرر للتأكيد أي هم سماعون ومثله {أكالون لِلسُّحْتِ} وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة، وفي الحديث: «هو الرشوة في الحكم» وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وبالتثقيل مكي وبصري وعلي {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم. وقيل: نسخ التخيير بقوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} فلن يقدروا على الإضرار بك لأن الله تعالى يعصمك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} بالعدل {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين.
{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به. {فيها حكم الله} حال من التوراة وهي مبتدأ وخبره {عندهم} {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} عطف على {يحكمونك} أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} بك أو بكتابهم كما يدعون.
{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى} يهدي للحق {وَنُورٌ} يبين ما استبهم من الأحكام {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للنبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم {لِلَّذِينَ هَادُواْ} تابوا من الكفر، واللام يتعلق ب {يحكم} {والربانيون والأحبار} معطوفان على {النبيون} أي الزهاد والعلماء {بِمَا استحفظوا} استودعوا، قيل: ويجوز أن يكون بدلاً من {بها} في {يحكم بها} {مِن كتاب الله} {من} للتبيين والضمير في {استحفظوا} للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه، أو ل {الربانيون والأحبار} ويكون الاستحفاظ من الأنبياء {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} رقباء لئلا يبدل {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد {واخشون} في مخالفة أمري وبالياء فيهما: سهل وافقه أبو عَمرو في الوصل {وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه {ثَمَناً قَلِيلاً} وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} مستهيناً به {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: من لم يحكم جاحداً فهو كافر، وإن لم يكن جاحداً فهو فاسق ظالم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو عام في اليهود وغيرهم.
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} وفرضنا على اليهود في التوراة {أَنَّ النفس} مأخوذة {بالنفس} مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق {والعين} مفقوءة {بالعين والأنف} مجدوع {بالأنف والأذن} مقطوعة {بالأذن والسن} مقلوعة {بالسن والجروح قِصَاصٌ} أي ذات قصاص وهو المقاصة ومعناه ما يمكن فيه القصاص وإلا فحكومة عدل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. وقوله {أن النفس بالنفس} يدل عى أن المسلم يقتل بالذمي والرجل بالمرأة والحر بالعبد. نصب نافع وعاصم وحمزة المعطوفات كلها للعطف على ما عملت فيه {أن}. ورفعها عليٌّ للعطف على محل {أن النفس} لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس إجراء ل {كتبنا} مجرى {قلنا}، ونصب الباقون الكل ورفعوا الجروح. والأذن بسكون الذال حيث كان: نافع. والباقون: بضمها وهما لغتان كالسحت والسحت {فَمَن تَصَدَّقَ} من أصحاب الحق {به} بالقصاص وعفا عنه {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه قال عليه السلام: «من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه» {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بالامتناع عن ذلك.
{وَقَفَّيْنَا} معنى قفيت الشيء بالشيء جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه بقفوه إذا تبعه {على ءاثارهم} عى آثار النبيين الذين أسلموا {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدّقاً} هوحال من {عيسى} {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وآتيناه الإِنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومُصَدَّقاً لَّما بين يديه من التوراة} أي وآتيناه الإنجيل ثابتاً فيه هدى ونور ومصدقاً، فنصب {مصدقاً} بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه. وارتفع {هدى ونور} بثابتاً الذي قام مقامه فيه {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} انتصبا على الحال أي هادياً وواعظاً {لّلْمُتَّقِينَ} لأنهم ينتفعون به {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ} وقلنا لهم احكموا بموجبه، فاللام لام الأمر وأصله الكسر، وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة. {وليحكم} بكسر اللام وفتح الميم: حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} الخارجون عن الطاعة. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون كافراً ظالماً فاسقاً، لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر. وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي القرآن فحرف التعريف فيه للعهد {بالحق} بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ {مُصَدّقاً} حال من {الكتاب} {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه نزولاً.
وإنما قيل لما قبل الشيء هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه {مّنَ الكتاب} المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس، ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} [الأنبياء: 25] {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} أي بما في القرآن {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم. ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدي ب {من} فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم، أو التقدير عادلاً عما جاءك {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} أيها الناس {شِرْعَةً} شريعة {ومنهاجا} وطريقاً واضحاً. واستدل به من قال إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا. ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وبين أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به فقال في الأول {يحكم به النبيون} وفي الثاني {وليحكم أهل الإنجيل} وفي الثالث {فاحكم بينهم بما أنزل الله} {وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} جماعة متفقة على شريعة واحدة {ولكن} أراد {لِيَبْلُوَكُمْ} ليعاملكم معاملة المختبر {فِى مآءتاكم} من الشرائع المختلفة فتعبّد كل أمة بما اقتضته الحكمة {فاستبقوا الخيرات} فابتدروها وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة. والمراد بالخيرات كل ما أمر الله تعالى به {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات {جَمِيعاً} حال من الضمير المجرور والعامل المصدر المضاف لأنه في تقدير: إليه ترجعون {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل.
{وَأَنِ احكم} معطوف على {بالحق} أي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم {بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} أي يصرفوك وهو مفعول له أي مخافة أن يفتنوك. وإنما حذره وهو رسول مأمون لقطع أطماع القوم {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع {ببعض ذنوبهم} موضع ذلك وهذا الإبهام لتعظيم التولي، وفيه تعظيم الذنوب فإن الذنوب بعضها مهلك فكيف بكلها! {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون} لخارجون عن أمر الله {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} يطلبون.
وبالتاء شامي يخاطب بني النضير في تفاضلهم على بني قريظة وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القتلى سواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية. وناصب {أفحكم الجاهلية يبغون} {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبره وهو استفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن {مِنَ الله حُكْماً} هو تمييز. واللام في {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان كاللام في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام {لقوم يوقنون} فإنهم هم الذين يتبينون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه. وقال أبو علي: معنى لقوم عند قوم لأن اللام و{عند} يتقاربان في المعنى.
ونزل نهياً عن موالاة أعداء الدين.

.تفسير الآيات (51- 55):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ} أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وكلهم أعداء المؤمنين، وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} نفاق {يسارعون} حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون {فترى} من رؤية العين أو القلب {فِيهِمْ} في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم {يَقُولُونَ} أي في أنفسهم لقوله على {ما أسروا} {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} أي يؤمر النبي عليه السلام بإظهار إسرار المنافقين وقتلهم {فَيُصْبِحُواْ} أي المنافقون {على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ} من النفاق {نادمين} خبر {فيصبحوا} {وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ} أي يقول بعضهم لبعض عند ذلك. {ويقول} بصري عطفاً على {أن يأتي} {يقول} بغير واو: شامي وحجازي على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وجهد أيمانهم مصدر في تقدير الحال أي مجتهدين في توكيد أيمانهم {حَبِطَتْ أعمالهم} ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيماناً وعقيدة، وهذا من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجيباً من سوء حالهم {فَأَصْبَحُواْ خاسرين} في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر. {يرتدد} مدني وشامي {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها ويطيعونه ويؤثرون رضاه، وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين، وفي صحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان وقال «هذا وذووه لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم {أَذِلَّةٍ} جمع ذليل، وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذُّلِ الذي هو ضد الصعوبة فقد سها لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة.
قال الجوهري: الذل ضد العز، ورجل ذليل بيّن الذل، وقوم أذلاء وأذلة، والذل بالكسر اللين وهو ضد الصعوبة يقال: دابة ذلول ودواب ذلل {عَلَى المؤمنين} ولم يقل للمؤمنين لتضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاكفين عليهم على وجه التذلل والتواضع {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أشداء عليهم والعزاز الأرض الصلبة فهم مع المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ومع الكافرين كالسبع على فريسته {يجاهدون فِي سَبِيلِ الله} يقاتلون الكفار وهو صفة ل {قوم} ك {يحبهم} و{أعزة} و{أذلة} {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} الواو يحتمل أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأما المؤمنون فمجاهدتهم لله لا يخافون لومة لائم. وأن تكون للعطف أي من صفتهم المجاهدة في سبيل الله وهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لا تزعهم لومة لائم: واللومة المرة من اللوم وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم واحد من اللوام {ذلك} إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع} كثير الفواضل {عَلِيمٌ} بمن هو من أهلها.
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءَامَنُواْ} وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن الولاية لله أصل ولغيره تبع، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع. ومحل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} الرفع على البدل من {الذين آمنوا}، أو على هم الذين، أو النصب على المدح {وَيُؤْتُونَ الزكواة}. والواو في {وَهُمْ راكعون} للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة. قيل: إنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته. وورد بلفظ الجمع وإن كان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه. والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة، وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة.