فصل: تفسير الآيات (78- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (78- 86):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}
{لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} قيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل {ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون} ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله {كانوا لا يتناهون} لا ينهي بعضهم بعضاً {عن مّنكرٍ فعلوه} عن قبيح فعلوه. ومعنى وصف المنكر ب {فعلوه} ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله {لبئس ما كانوا يفعلون} وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه {ترى كثيراً مِّنهم يتوّلّون الّذين كفروا} هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سَخِطَ اللّه عليهم} لبئس شيئاً قدموه لأنفسهم سخط الله عليهم أي موجب سخط الله {وفي العذاب هم خالدون} أي في جهنم {ولو كانوا يؤمنون باللّهِ} إيماناً خالصاً بلا نفاق {والنّبيِّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم {ومآ أنزل إليه} يعني القرآن {ما اتّخذوهم أوليآء} ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم {ولكن كثيراً مّنهم فاسقون} مستمرون في كفرهم ونفاقهم، أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً.
{لَتَجِدَنَّ أشدّ النّاس عداوة لّلّذين آمنوا اليهودَ} هو مفعول ثان ل {تجدن}. و{عداوة} تمييز {والّذين أشركوا} عطف عليهم {ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} اللام تتعلق ب {عداوة} و{مودة}. وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين {ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورهباناً} أي علماء وعباداً {وأنّهم لا يستكبرونَ} علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة، واليهود على خلاف ذلك، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني {وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرّسول تراى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ} وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرأونه عليهم: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إلى مريم.
فقرأها إلى قوله: {ذلك عيسى ابن مريم} [طه: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله: {وهل أتاك حديث موسى} [الآية: 9] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة (يس) فبكوا. {تفيض من الدمع} تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء. و{من} في {مما عرفوا} لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله، {ومن} في {من الحق} لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنَة {يقولون} حال من ضمير الفاعل في {عرفوا} {ربّنآ آمنّا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه {فاكتبنا مع الشّاهدين} مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس، وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
{وما لنا لا نؤمن باللّه} إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين. وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. {وما لنا} مبتدأ وخبر و{لا نؤمن} حال أي غير مؤمنين كقولك {مالك قائماً} {وما جآءنا} وبما جاءنا {من الحقِّ} يعني محمداً عليه السلام والقرآن {ونطمع} حال من ضمير الفاعل في {نؤمن} والتقدير: ونحن نطمع {أن يدخلنا ربّنا} الجنة {مع القوم الصّالحين} الأنبياء والمؤمنين {فأثابهم اللّه بما قالوا} أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين} وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء. وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله {بما قالوا} لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك، وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. نفى الإيمان عنهم مع قولهم {آمنا بالله} لعدم التصديق بالقلب. وقال أهل المعرفة: الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدعاء على العطاء، والرضا بالقضاء، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه {والّذين كفروا وكذّبوا بأياتنا أولئك أصحاب الجحيم} هذا أثر الرد في حق الأعداء، والأول أثر القبول للأولياء، ونزل في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب.

.تفسير الآيات (87- 95):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}
{ياأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ اللّه لكم} ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى {لا تحرموا} لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة» وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره. فقال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ. {ولا تعتدوا} ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات {إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} حدوده.
{وكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالاً طيّباً} {حلالاً} حال {مما رزقكم الله} {واتّقوا اللّه} توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله {الّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى.
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا: فكيف أيماننا؟ فنزلت. وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها. وبالتخفيف: كوفي غير حفص. والعقد: العزم على الوطء، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس. وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان. والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} هو أن يغديهم ويعشيهم، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر. وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على {إطعام} أو على محل {من أوسط}، ووجهه أن {من أوسط} بدل من {إطعام} والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه: إزار وقميص ورداء {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل. ومعنى {أو} التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} إحداها {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ} {متتابعة} لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك {ذلك} المذكور {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث {واحفظوا أيمانكم} فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً {كذلك} مثل ذلك البيان {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} أي القمار {والأنصاب} الأصنام لأنها تنصب فتعبد {والأزلام} وهي القداح التي مرت {رِجْسٌ} نجس أو خبيث مستقذر {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} لأنه يحمل عليه فكأنه عمله. والضمير في {فاجتنبوه} يرجع إلى الرجس، أو إلى عمل الشيطان، أو إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل: إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال: {رجس}. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث: «شارب الخمر كعابد الوثن» وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصاً. وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن ذلك {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه.
ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم.
{لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما {إِذَا مَا اتقوا} الشرك {وَءامَنُواْ} بالله {وَعَمِلُواْ الصالحات} بعد الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} الخمر والميسر بعد التحريم {وَءَامَنُواْ} بتحريمهما {ثُمَّ اتَّقَواْ} سائر المحرمات، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات {وَأَحْسَنُواْ} إلى الناس {والله يُحِبُّ المحسنين}.
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل:
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم، و{من} للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه {فَمَنِ اعتدى} فصاد {بَعْدَ ذَلِكَ} الابتلاء {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قلل في قوله {بشيء} من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام {وتناله} صفة ل {شيء} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في {تقتلوا} {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً} حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ. وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، لأن مورد الآية فيمن تعمد، فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ.
وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ} كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً. وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر.
{فجزاء مثل} على الإضافة: غيرهم. وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول (عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد). {مِنَ النعم} حال من الضمير في {قتل} إذ المقتول يكون من النعم أو صفة ل {جزاء} {يَحْكُمُ بِهِ} بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} حكمان عادلان من المسلمين، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى، أو بالمعنى لا بالصورة، أو بالصورة بلا معنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك. فإن قلت: قوله {من النعم} ينافي تفسير المثل بالقيمة. قلت: من أوجب القيمة خُير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يُجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير، فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله {أوكَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم {هَدْياً} حال من الهاء في {به} أي يحكم به في حال الهدي {بالغ الكعبة} صفة ل {هدياً} لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدق به فحيث شئت. وعند الشافعي رحمه الله: في الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ} معطوف على {جزاء} {طَعَامٌ} بدل من {كفارة} أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام. {أو كفارة طعام} على الإضافة: مدني وشامي. وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل: أو كفارة من طعام {مساكين} كما تقول: {خاتم فضة} أي خاتم من فضة {أَو عَدْلُ} وقرئ بكسر العين.
قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام، والعدل مثله من جنسه ومنه (عدلا الحمل). يقال (عندي غلام عدل غلامك) بالكسر إذا كان من جنسه، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل (هو عَدل غلامك) بالفتح {ذلك} إشارة إلى الطعام {صِيَاماً} تمييز نحو (لي مثله رجلاً) والخيار في ذلك إلى القاتل، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بقوله {فجزاء} أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] أي ثقيلاً شديداً. والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ. {عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ} لكم من الصيد قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه {والله عَزِيزٌ} بإلزام الأحكام {ذُو انتقام} لمن جاوز حدود الإسلام.