فصل: تفسير الآيات (56- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (56- 67):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
{قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان سبب الذي منه وقعوا في الضلال {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} وما أنا من المهتدين في شيء يعني أنكم كذلك ولما نفي أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله {قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ مِّن رَّبّي} أي إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة {وَكَذَّبْتُم بِهِ} حيث أشركتم به غيره. وقيل: على بينة من ربي على حجة من جهة ربي وهو القرآن وكذبتم به بالبينة، وذكر الضمير على تأويل البرهان أو البيان أو القرآن. ثم عقبه بما دل على أنهم أحقاء بأن يعاقبوا بالعذاب فقال: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} في تأخير عذابكم {يَقُصُّ الحق} حجازي وعاصم أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره من قص أثره. الباقون {يَقْضِ الحق} في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل، والحق صفة لمصدر يقضي وقوله {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي القاضين بالقضاء الحق إذ الفصل هو القضاء، وسقوط الياء من الخط لاتباع اللفظ لالتقاء الساكنين {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي وإمكاني {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي {والله أَعْلَمُ بالظالمين} فهو ينزل عليكم العذاب في وقت يعلم أنه أردع.
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو هي خزائن العذاب والرزق، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال. جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال، ومن علم مفاتحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصل إلى ما في المخازن. قيل: عنده مفاتح الغيب وعندك مفاتح الغيب، فمن آمن بغيبه أسبل الله الستر على عيبه {وَيَعْلَمُ مَا فِي البر} من النبات والدواب {والبحر} من الحيوان والجواهر وغيرهما {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} {ما} للنفي و{من} للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} عطف على {وَرَقَةٍ} وداخل في حكمها وقوله {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} كالتكرير لقوله {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأن معنى {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} ومعنى {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} واحد وهو علم الله أو اللوح.
ثم خاطب الكفرة بقوله {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} أي يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام {وَيَعْلَمَ مَا جَرَحْتُم بالنهار} كسبتم فيه من الآثام {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} ثم يوقظكم في النهار، أو التقدير ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه فقدم الكسب لأنه أهم، وليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار فدل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} لتوفى الآجال على الاستكمال {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم بالبعث بعد الموت {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في ليلكم ونهاركم. قال بعض أهل الكلام: أن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقبض عند النوم ثم ترد إليها إذا ذهب النوم، فأما الروح التي تحيا بها النفس فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل. والمراد بالأرواح المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ويكون بها السمع والبصر والأخذ والمشي والشم. ومعنى {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظم ويرد إليكم أرواح الحواس فيستدل به على منكري البعث لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها فكذا يحيي الأنفس بعد موتها.
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رؤوس الأشهاد {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} {حتى} لغاية حفظ الأعمال أي وذلك دأب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه {توفيه} و{استوفيه} بالإمالة: حمزة {رُسُلُنَا} أبو عمرو {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} لا يتوانون ولا يؤخرون {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله} إلى حكمه وجزائه أي رد المتوفون برد الملائكة {مولاهم} مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم {الحق} العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وهما صفتان لله {أَلاَ لَهُ الحكم} يومئذ لا حكم فيه لغيره {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} لا يشغله حساب عن حساب يحاسب جميع الخلق في مقدار حلب شاة وقيل: الرد إلى من رباك خير من البقاء مع من آذاك.
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ} {يُنَجِّيكُمْ} ابن عباس {مِّن ظلمات البر والبحر} مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما، أو ظلمات البر الصواعق والبحر الأمواج وكلاهما في الغيم والليل {تَدْعُونَهُ} حال من ضمير المفعول في {يُنَجِّيكُمْ} {تَضَرُّعًا} معلنين الضراعة وهو مصدر في موضع الحال، وكذا {وَخُفْيَةً} أي مسرين في أنفسكم {خفية} حيث كان: أبو بكر وهما لغتان {وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا} عاصم وبالإمالة حمزة وعلي.
الباقون {أَنْجَيْتَنَا} والمعنى يقولون لئن خلصنا {مِنْ هذه} الظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لله تعالى: {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ} بالتشديد كوفي {مِّنْهَا} من الظلمات {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} وغم وحزن {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} ولا تشكرون.
{قُلْ هُوَ القادر} هو الذي عرفتموه قادراً أو هو الكامل القدرة فاللام يحتمل العهد والجنس {على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كما غرّق فرعون وخسف بقارون، أو من قبل سلاطينكم وسفلتكم، أو هو حبس المطر والنبات {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} يقتل بعضكم بعضاً. والبأس السيف وعنه عليه الصلاة والسلام: «سألت الله تعالى أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف» {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات} بالوعد والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ} بالقرآن أو بالعذاب {قَوْمُكَ} قريش {وَهُوَ الحق} أي الصدق أو لابد أن ينزل بهم {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ وكل إليّ أمركم إنما أنا منذر {لِكُلِّ نَبَاءٍ} لكل شيء ينبأ به يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به {مُّسْتَقَرٌّ} وقت استقرار وحصول لابد منه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد.

.تفسير الآيات (68- 82):

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}
{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا} أي القرآن يعني يخوضون في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تجالسهم وقم عنهم {حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير القرآن مما يحل فحينئذ يجوز أن تجالسهم {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} ما نهيت عنه {يُنسِيَنَّكَ} شامي نسّي وأنسى واحد {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} بعد أن تذكر {مَعَ القوم الظالمين * وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيباً واستهزاء {مِّن شَيْءٍ} أي وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم {ولكن} عليهم أن يذكروهم {ذِكْرِى} إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم. ومحل {ذِكْرِى} نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أي تذكيراً، أورفع والتقدير ولكن عليهم ذكرى؛ {ذِكْرِى} مبتدأ والخبر محذوف.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام {لَعِباً وَلَهْواً} سخروا به واستهزءوا. ومعنى {ذَرْهُمْ} أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، واللهو ما يشغل الإنسان من هوى أو طرب {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَذَكّرْ بِهِ} وعظ بالقرآن {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها، وأصل الإبسال المنع {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ} ينصرها بالقوة {وَلاَ شَفِيعٌ} يدفع عنها بالمسألة. ولا وقف على {كَسَبَتْ} في الصحيح لأن قوله {لَيْسَ لَهَا} صفة لنفس والمعنى وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة ولياً وشفيعاً بكسبها {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} نصب على المصدر وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدي بمثله، وفاعل {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} لا ضمير العدل لأن العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ، وأما في قوله {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه {أولئك} إشارة إلى المتخذين من دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ والخبر {الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} وقوله {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي ماء سخين حار خبر ثان ل {أولئك} والتقدير: أولئك المبسلون ثابت لهم شراب من حميم أو مستأنف. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} بكفرهم.
{قُلْ} لأبي بكر يقل لابنه عبد الرحمن وكان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان {أَنَدْعُواْ} أنعبد {مِن دُونِ الله} الضار النافع {مَا لاَ يَنفَعُنَا} ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه {وَلاَ يَضُرُّنَا} إن تركنا {وَنُرَدُّ} وأنرد {على أعقابنا} راجعين إلى الشرك {بَعْدَ إِذْ هدانا الله} للإسلام وأنقذنا من عبادة الأصنام {كالذي استهوته الشياطين} كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجن.
والكاف في محل النصب على الحال من الضمير في {نُرَدُّ على أعقابنا} أي أننكص مشبهين من استهوته الشياطين وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه {فِي الأرض} في المهمه {حَيْرَانَ} حال من مفعول {استهوته} أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع {لَهُ} لهذا المستهوي {أصحاب} رفقة {يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} إلى أن يهدوه الطريق. سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له {ائتنا} وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم، وهذا مبني على ما يقال إن الجن تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} وهو الإسلام {هُوَ الهدى} وحده وما وراءه ضلال {وَأُمِرْنَا} محله النصب بالعطف على محل {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} على أنهما مقولان كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا {لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة} والتقدير: وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة {واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} بالحكمة أو محقاً {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} على الخبر دون الجواب {قَوْلُهُ الحق} مبتدأ و{يَوْمَ يَقُولُ} خبره مقدماً عليه كما تقول (يوم الجمعة قولك الصدق) أي قولك الصدق كائن يوم الجمعة واليوم بمعنى الحين. والمعنى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء، قوله الحق والحكمة أي لا يكوَّن شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب {وَلَهُ الملك} مبتدأ وخبر {يَوْمَ يُنفَخُ} ظرف لقوله {وَلَهُ الملك} {فِي الصور} هو القرن بلغة اليمن أو جمع صورة {عالم الغيب} هو عالم الغيب {والشهادة} أي السر والعلانية {وَهُوَ الحكيم} في الإفناء والإحياء {الخبير} بالحساب والجزاء.
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ} هو اسم أبيه أو لقبه لأنه لا خلاف بين النسابين أن اسم أبيه تارخ، وهو عطف بيان لأبيه وزنه فاعل {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً} استفهام توبيخ أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية {إِنّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ * وكذلك} أي وكما أريناه قبح الشرك {نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والأرض} أي نري بصيرته لطائف خلق السماوات والأرض، ونرى حكاية حال ماضية. والملكوت أبلغ من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة.
قال مجاهد: فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى نظره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع حتى نظر إلى ما فيهن {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} فعلنا ذلك أو ليستدل، وليكون من الموقنين عياناً كما أيقن بياناً {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} أي أظلم وهو عطف على {قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم} جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه {رَءاَ كَوْكَباً} أي الزهرة أو المشتري، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها، ولأن لها محدثاً أحدثها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه {قَالَ هذا رَبّي} أي قال لهم هذا ربي في زعمكم، أو المراد أهذا استهزاء بهم وإنكاراً عليهم، والعرب تكتفي عن حرب الاستفهام بنغمة الصوت. والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة {فَلَمَّا أَفَلَ} غاب {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال لأن ذلك من صفات الأجسام {فَلَمَّا رَءَا القمر بَازِغاً} مبتدئاً في الطلوع {قَالَ هذا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضآلين} نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها فهو ضال، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتجاج به أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب {فَلَمَّا رَءا الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّي} وإنما ذكره لأنه أراد الطالع، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر لأنهما شيء واحد معنى، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ولهذا قالوا في صفات الله تعالى علام ولم يقولوا علامة وإن كان الثاني أبلغ تفادياً من علامة التأنيث {هذا أَكْبَرُ} من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّي بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه فحكاه الله تعالى، والأول أظهر لقوله {ياقوم إِنّي بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض} أي للذي دلت هذه المحدثات على أنه منشئها {حَنِيفاً} حال أي مائلاً عن الأديان كلها إلى الإسلام {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} بالله شيئاً من خلقه.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} في توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه {قَالَ أَتُحَآجُّونّي فِي الله} في توحيده.
{أَتُحَاجُّونّي} مدني وابن ذكوان {وَقَدْ هدان} إلى التوحيد، وبالياء في الوصل: أبو عمرو. ولما خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء قال: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً} أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضر، فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعاً وفيما شاء ضراً لا الأصنام {وَسِعَ رَبّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} فلا يصيب عبداً شيء من ضر أو نفع إلا بعلمه {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} فتميزوا بين القادر والعاجز {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} معبوداتكم وهي مأمونة الخوف {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} بإشراكه {عَلَيْكُمْ سلطانا} حجة إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، والمعنى وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف {فَأَيُّ الفريقين} أي فريقي الموحدين والمشركين {أَحَقُّ بالأمن} من العذاب {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ولم يقل (فأينا) احترازاً من تزكية نفسه، ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله {الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} بشرك عن الصديق رضي الله عنه {أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} تم كلام إبراهيم عليه السلام.