فصل: تفسير الآيات (83- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (83- 92):

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} إلى قوله {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} {ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ} وهو خبر بعد خبر {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ} في العلم والحكمة وبالتنوين كوفي وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} بالرفع {عَلِيمٌ} بالأهل.
{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإبراهيم {إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} أي كلهم وانتصب {كَلاَّ} ب {هَدَيْنَا} {وَنُوحاً هَدَيْنَا} أي وهدينا نوحاً {مِن قَبْلُ} من قبل إبراهيم {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} الضمير لنوح أو لإبراهيم، والأوّل أظهر لأن يونس ولوطاً لم يكونا من ذرية إبراهيم {دَاوُدَ وسليمان وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وهارون} والتقدير: وهدينا من ذريته هؤلاء {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ} أي كلهم {مِّنَ الصالحين} وذكر عيسى معهم دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح عليه السلام وهو لا يتصل به إلا بالأم، وبذا أجيب الحجاج حين أنكر أن يكون بنو فاطمة أولاد النبي عليه السلام {وإسماعيل واليسع} {والليسع} حيث كان بلامين: حمزة وعلي {واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} بالنبوة والرسالة {وَمِنْ ءَابَائِهِمْ} في موضع النصب عطفاً على {كُلاَّ} أي وفضلنا بعض آبائهم {وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * ذلك} أي ما دان به هؤلاء المذكورون {هُدَى الله} دين الله {يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيه نقض قول المعتزلة لأنهم يقولون إن الله شاء هداية الخلق كلهم لكنهم لم يهتدوا {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لبطلت أعمالهم كما قال: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]
{أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب} يريد الجنس {والحكم} والحكمة أو فهم الكتاب {والنبوة} وهي أعلى مراتب البشر {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} بالكتاب والحكم والنبوة أو بآيات القرآن {هؤلاءآء} أي أهل مكة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أو أصحاب النبي عليه السلام، أوكل من آمن به أو العجم. ومعنى توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في {لَّيْسُواْ بِهَا} صلة {كافرين} وفي {بكافرين} لتأكيد النفي {أولئك الذين هَدَى الله} أي الأنبياء الذين مر ذكرهم {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم، وهذا معنى تقديم المفعول.
والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فهي مختلفة، والهاء في {اقتده} للوقف تسقط في الوصل، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف ويحذفها حمزة. وعلى في الوصل ويختلسها: شامي. {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} على الوحي أو على تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد {أَجْراً} جعلاً. وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين} ما القرآن إلا عظة للجن والإنس {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْءٍ} أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] رُوي أن جماعة من اليهود منهم مالك بن الصيف كانوا يجادلون النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام له: «أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» قال: نعم. قال: «فأنت الحبر السمين» فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. و{حَقَّ قَدْرِهِ} منصوب نصب المصدر.
{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى نُوراً} حال من الضمير في {بِهِ} أو {مِّنَ الكتاب} {وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} مما فيه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعضوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. وبالياء في الثلاثة: مكي وأبو عمرو {وَعُلِّمْتُمْ} يا أهل الكتاب بالكتاب {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ} من أمور دينكم ودنياكم {قُلِ الله} جواب أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} في باطلهم الذي يخوضون فيه {يَلْعَبُونَ} حال من {ذَرْهُمْ} أو {مِنْ خَوْضِهِمْ} {وهذا كتاب أنزلناه} على نبينا عليه السلام {مُّبَارَكٌ} كثير المنافع والفوائد {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب {وَلِتُنذِرَ} وبالياء: أبو بكر، أي الكتاب وهو معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار {أُمَّ القرى} مكة، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً ولأن الناس يؤمونها {وَمَنْ حَوْلَهَا} أهل الشرق والغرب {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة} يصدقون بالعاقبة ويخافونها {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بهذا الكتاب فأصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهراً.

.تفسير الآيات (93- 103):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} هو مالك بن الصيف {أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} هو مسيلمة الكذاب {وَمَن قَالَ} في موضع جر عطف على {مَنِ افترى} أي وممن قال: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} أي سأقول وأملي هو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كاتب الوحي، وقد أملى النبي عليه السلام عليه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إلى {خَلْقاً ءاخَرَ} [المؤمنون: 14] فجرى على لسانه {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]. فقال عليه السلام: «اكتبها فكذلك نزلت» فشك وقال: إن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذباً فقد قلت كما قال، فارتد ولحق بمكة. أو النضر ابن الحرث كان يقول: والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً فالخابزات خبزاً كأنه يعارض {وَلَوْ ترى} جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً {إِذِ الظالمون} يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله {فِي غَمْرَاتِ الموت} شدائده وسكراته {والملائكة بَاسِطُوآ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أرادوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع. والهون: الهوان الشديد وإضافة العذاب إليه كقولك (رجل سوء) يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} من أن له شريكاً وصاحبة وولداً. {غَيْرَ الحق} مفعول {تَقُولُونَ} أو وصف لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق {وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تؤمنون بها {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب والجزاء {فرادى} منفردين بلا مال ولا معين وهو جمع فريد كأسير وأسارى {كَمَا خلقناكم} في محل النصب صفة لمصدر {جِئْتُمُونَا} أي مجيئاً مثل ما خلقناكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} ملكناكم {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} ولم تحتملوا منه نقيراً {وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاوءا} في استعبادكم {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بينكم وصلكم عن الزجاج والبين: الوصل والهجر قال:
فوالله لولا البين لم يكن الهوى ** ولولا الهوى ما حن للبين الف

{بَيْنِكُمْ} مدني وعلي وحفص أي وقع التقطع بينكم {وَضَلَّ عَنكُم} وضاع وبطل {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم عند الله.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} بالنبات والشجر أي فلق الحب عن السنبلة والنواة عن النخلة، والفلق: الشق، وعن مجاهد: أراد الشقين اللذين في النواة والحنطة {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} النبات الغض النامي من الحب اليابس {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} الحب اليابس من النبات النامي، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، فاحتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه لأنهم أنكروا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياء فهو يقدر على بعثهم.
وإنما قال: {وَمُخْرِجُ الميت} بلفظ اسم الفاعل لأنه معطوف على فالق الحب لا على الفعل {وَيُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} موقعه موقع الجملة المبينة لقوله {فَالِقُ الحب والنوى} لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان دليله قوله: {ويحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 19]. {ذلكم الله} ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية لا الأصنام {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عنه وعن تواليه إلى غيره بعد وضوح الأمر بما ذكرنا {فَالِقُ الإصباح} هو مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو خالق نور النهار {وَجَعَلَ اليل} {وَجَعَلَ اليل} كوفي لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي، فلما كان فالق بمعنى فلق عطف عليه {جَعَلَ} لتوافقهما معنى {سَكَناً} مسكوناً فيه من قوله {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67] أي ليسكن فيه الخلق عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة، أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق {والشمس والقمر} انتصبا بإضمار فعل يدل عليه جاعل الليل أي وجعل الشمس والقمر {حُسْبَاناً} أي جعلهما على حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب {ذلك} إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم {تَقْدِيرُ العزيز} الذي قهرهما وسخرهما {العليم} بتدبيرهما وتدويرهما {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} خلقها {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر} أي في ظلمات الليل بالبر وبالبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قد بينا الآيات الدالة على التوحيد لقوم يعلمون.
{وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة} هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} {فَمُسْتَقَر} بالكسر: مكي وبصري. فمن فتح القاف كان المستودع اسم مكان مثله، ومن كسرها كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول يعني فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وإنما قيل {يَعْلَمُونَ} ثم {يَفْقَهُونَ} هنا لأن الدلالة ثمّ أظهر وهنا أدق، لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدق فكان ذكر الفقه الدال على تدقيق النظر أوفق {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} من السحاب مطراً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} نبت كل صنف من أصناف النامي أي السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من النبات {خَضِْرًا} أي شيئاً غضاً أخضر.
يقال أخضر وخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة {نُّخْرِجُ مِنْهُ} من الخضر {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} وهو السنبل الذي تراكب حبه {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان} هو رفع بالابتداء {وَمِنَ النخل} خبره و{مِن طَلْعِهَا} بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو وهو العذق نظيره (صنو) و(صنوان). {دَانِيَةٌ} من المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها، وفيه اكتفاء أي وغير دانية لطولها كقوله {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] {وجنات} بالنصب عطفاً على {نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ} أي وأخرجنا به جنات {مِّنْ أعناب} أي مع النخل وكذا {والزيتون والرمان} {وجنات} بالرفع: الأعشى أي وثم جنات من أعناب أي مع النخل {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} يقال اشتبه الشيئان وتشابها نحو استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وتقديره: والزيتون متشابهاً وغير متشابه، والرمان كذلك يعني بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به {وَيَنْعِهِ} ونضجه أي انظروا إلى حال نضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع، نظر اعتبار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال.
{إِنَّ فِي ذلكم لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {ثَمَرِهِ} وكذا ما بعده: حمزة وعلي جمع ثمار فهو جمع الجمع يقال: ثمرة وثمر وثمار وثمر.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن} إن جعلت {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} مفعولي {جَعَلُواْ} كان {الجن} بدلاً من {شُرَكَاء} وإلا كان {شُرَكَاء الجن} مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو غير ذلك، والمعنى أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله {وَخَلَقَهُمْ} أي وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً لخالقه؟ والجملة حال، أو وخلق الجاعلين لله شركاء فكيف يعبدون غيره؟ {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي اختلقوا يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى، أو هو من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له {بَنْيَنَ} كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير {وَبَنَاتٍ} كقول بعض العرب في الملائكة. {وَخَرَقُواْ} بالتشديد للتكثير: مدني لقوله {بَنِينَ وَبَنَاتٍ} {بِغَيْرِ عِلْمٍ} من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ولكن رمياً بقول عن جهالة، وهو حال من فاعل {خرقوا} أي جاهلين بما قالوا {سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} من الشريك والولد {بَدِيعُ السماوات والأرض} يقال بدُع الشيء فهو بديع وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سمواته وأرضه، أو هو بمعنى المبدع أي مبدعها وهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أو هو فاعل {تَعَالَى} {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلا من صاحبة ولا صاحبة له، ولأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون له ولد {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ما من شيء إلا وهو خالقه وعالمه ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج {ذلكم} إشارة إلى الوصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي {الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ} وقوله {فاعبدوه} مسبب عن مضمون الجملة أي من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه {وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي هو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأَرزاق والآجال رقيب على الأعمال {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا تحيط به أو أبصار من سبق ذكرهم.
وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به فهكذا هذا، على أن مورد الآية وهو التمدح يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه لأن كل ما لا يرى لا يدرك، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم. ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي أنه معلوم موجود وإلا فكما يعلم موجوداً بلا كيفية وجهة بخلاف كل موجود لم يجز أن يرى بلا كيفية وجهة بخلاف كل مرئي، وهذا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو، فإن كان المرئي في الجهة يرى فيها وإن كان لا في الجهة يرى لا فيها {وَهُوَ} للطف إدراكه {يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف} أي العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها {الخبير} العليم بظواهر الأشياء وخفياتها وهو من قبيل اللف والنشر.