فصل: سورة الأنفال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة الأنفال:

مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول} النفل الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه، والأنفال الغنائم. ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله كيف تقسم ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم هي لرسول الله وهو الحاكم فيها خاصة يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم. ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد {فاتقوا الله} في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وقال الزجاج: معنى {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} حقيقة وصلكم. والبين الوصل أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} كاملي الإيمان {إِنَّمَا المؤمنون} إنما الكاملو الإيمان {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته} أي القرآن {زَادَتْهُمْ إيمانا} ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، أو زادتهم إيماناً بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم لا يخشون ولا يرجون إلا إياه {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} هو صفة لمصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون} كقولك (هو عبد الله حقاً) أي حق ذلك حقاً. وعن الحسن رحمه الله أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال: إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون} الآية. فلا أدري أنا منهم أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يقول ذلك. وقال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعاً لإبراهيم في قوله {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} [البقرة: 260]، وعن إبراهيم التيمي: قل أنا مؤمن حقاً فإن صدقت أثبت عليه، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقاً. وقد احتج عبد الله على أحمد فقال: إيش اسمك؟ فقال: أحمد، فقال: أتقول أنا أحمد حقاً أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال: أنا أحمد حقاً. فقال: حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمناً تستثني. {لَّهُمْ درجات} مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال {عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} وتجاوز لسيئاتهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} صافٍ عن كد الاكتساب وخوف الحساب.
الكاف في {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر، والتقدير: قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون {مِن بَيْتِكَ} يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه {بالحق} إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ} في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم. وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير. فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فأبى وسار بمن معه إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ونزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشاً. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: «العير أحب إليكم أم النفير» قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو. فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار.
ثم قال المقداد بن عمرو: امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، فسر بنا على بركة الله. ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال: «سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» وكانت الكراهة من بعضهم لقوله {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ} قال الشيخ أبومنصور رحمه الله: يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً، ويحتمل أن يكونوا مخلصين، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له.

.تفسير الآيات (6- 20):

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}
{يجادلونك فِي الحق} الحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد وذلك لكراهتهم القتال {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل: كان خوفهم لقلة العدد وإنهم كانوا رجالة وماكان فيهم إلا فارسان {وإذ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين} {إذ} منصوب ب (اذكر) و{إِحْدَى} مفعول ثانٍ {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل من {إِحْدَى الطائفتين} وهما العير والنفير والتقدير: وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} أي العير وذات الشوكة ذات السلاح، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها ولا تريدون الطائفة الأخرى {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي يثبته ويعليه {بكلماته} بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من قتلهم وطرحهم في قليب بدر {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} آخرهم والدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، ونصرة الحق، وعلو الكلمة، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وأعزكم وأذلهم {لِيُحِقَّ الحق} متعلق ب {يقطع} أو بمحذوف تقديره ليحق الحق {وَيُبْطِلَ الباطل} فعل ذلك والمقدر متأخر ليفيد الاختصاص أي ما فعله إلا لهما، وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر، ومحقه، وليس هذا بتكرار لأن الأول تمييز بين الإرادتين، وهذا بيان لمراده فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} المشركون ذلك.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بدل من {إِذْ يَعِدُكُمُ} أو متعلق بقوله {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لابد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون أي ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وهي طلب الغوث وهو التخليص من المكروه {فاستجاب لَكُمْ} فأجاب. وأصل {أَنّي مُمِدُّكُمْ} {بأني ممدكم} فحذف الجار وسلط عليه {استجاب} فنصب محله {بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ} {مُردفِينَ} مدني. غيره بكسر الدال. فالكسر على أنهم أردفوا غيرهم، والفتح على أنه أردف كل ملك ملكاً آخر.
يقال: ردفه إذا تبعه، وأردفته إياه إذا اتبعه {وَمَا جَعَلَهُ الله} أي الإمداد الذي دل عليه ممدكم {إِلاَّ بشرى} إلا بشارة لكم بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر وتسكيناً منكم وربطاً على قلوبكم {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة، أو وما النصر من الملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله. واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل: نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر رضي الله عنه، وميكائل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي رضي الله عنه في صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت حتى قال أبو جهل لابن مسعود: من أين كان يأتينا الضرب، ولا نرى الشخص، قال: من قبل الملائكة. قال: فهم غلبونا لا أنتم. وقيل: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا. {أَنَّ الله عَزِيزٌ} بنصر أوليائه {حَكِيمٌ} بقهر أعدائه.
{إِذْ يُغَشّيكُمُ} بدل ثانٍ من {إِذْ يَعِدُكُمُ} أو منصوب بالنصر أو بإضمار اذكر. {يُغَشّيكُمُ} مدني {النعاس} النوم والفاعل هو الله على القراءتين. {يُغَشّيكُمُ النعاس} مكي، وأبو عمرو {ءامِنَةً} مفعول له أي إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً أي لأمنكم، أو مصدر أي فأمنتم أمنة فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس {مِنْهُ} صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله {وَيُنَزّلُ} بالتخفيف: مكي وبصري، وبالتشديد: وغيرهم {عَلَيْكُم مّن السماء مَاء} مطراً {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} بالماء من الحدث والجنابة {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} وسوسته إليهم وتخويفه إياهم من العطش، أو الجنابة من الاحتلام، لأنه من الشيطان وقد وسوس إليهم أن لا نصرة مع الجنابة {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} بالصبر {وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام} أي بالماء إذ الأقدام كانت تسوخ في الرمل، أو بالربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال {إِذْ يُوحِى} بدل ثالث من {إِذْ يَعِدُكُمُ} أو منصوب ب {يُثَبّتُ} {رَبُّكَ إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ} بالنصر {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} بالبشرى وكان الملك يسير أمام الصف في صورة رجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} هو امتلاء القلب من الخوف و{الرعب} شامي وعلي {فاضربوا} أمر للمؤمنين أو الملائكة، وفيه دليل على أنهم قاتلوا {فَوْقَ الأعناق} أي أعالي الأعناق التي هي المذابح تطييراً للرؤوس، أو أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق يعني ضرب الهام {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} هي الأصابع يريد الأطراف، والمعنى فاضربوا المقاتل والشوي لأن الضرب إما أن يقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم أن يجمعوا عليهم النوعين {ذلك} إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل وهو مبتدأ خبره {بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم أي مخالفتهم وهي مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وكذا المعاداة والمخاصمة لأن هذا في عدوة وخُصم أي جانب وذاك في عدوة وخصم {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} والكاف في ذلك لخطاب الرسول أو لكل أحد، وفي {ذلكم} للكفرة على طريقة الالتفات، ومحله الرفع على (ذلكم العقاب أو العقاب) {ذلكم فَذُوقُوهُ}.
والواو في {وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار} بمعنى {مع} أي ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير.
{ا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} حال من {الذين كَفَرُواْ}. والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً من زحف الصبي إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي بالمصدر {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} فلا تنصرفوا عنهم منهزمين أي إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير وأنتم قليل، فلا تفروا فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من المؤمنين أو من الفريقين أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم.
{وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً} مائلاً {لّقِتَالٍ} هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب {أَوْ مُتَحَيّزاً} منضماً {إلى فِئَةٍ} إلى جماعة من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها وهما حالان من ضمير الفاعل في {يُوَلّهِمْ} {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} ووزن متحيز (متفيعل) لا (متفعل)، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوز. ولما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا وكان القاتل منهم يقول تفاخراً قتلت وأسرت قيل لهم {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} والفاء جواب لشرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. ولما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قيل {وَمَا رَمَيْتَ} يا محمد {إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} يعني أن الرمية التي رميتها أنت لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله تعالى خلقاً لا كما تقول الجبرية والمعتزلة، لأنه أثبت الفعل من العبد بقوله {إِذْ رَمَيْتَ} ثم نفاه عنه وأثبته لله تعالى بقوله {ولكن الله رمى}، {ولكن الله قَتَلَهُمْ}، {ولكن الله رمى} بتخفيف {لَكِنِ} شامي وحمزة وعلي {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين} وليعطيهم {مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} عطاء جميلاً، والمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل وما فعل إلا لذلك {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لدعائهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع أي الأمر ذلكم {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} معطوف على {ذلكم} أي المراد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين.
{مُوهِنُ كَيْدِ} شامي وكوفي غير حفص. {مُوهِنُ كَيْدِ} حفص، {مُوهِنُ} غيرهم.
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم وهو خطاب لأهل مكة، لأنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة قالوا: اللهم إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على الحق فانصرنا. وقيل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} خطاب للمؤمنين {وإن} للكافرين أي {وإن تنتهوا} عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فهو} أي الانتهاء {خَيْرٌ لَّكُمْ} وأسلم {وَإِن تَعُودُواْ} لمحاربته {نَعُدْ} لنصرته عليكم {وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} جمعكم {شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} عدداً {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} بالفتح مدني وشامي وحفص أي ولأن الله مع المؤمنين بالنصر كان ذلك، وبالكسر غيرهم ويؤيده قراءة عبد الله {والله مَعَ المؤمنين} {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المعنى أطيعوا رسول الله كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله (الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان) أو يرجع الضمير إلى الأمر بالطاعة أي ولا تولوا عن هذا الأمر وأمثاله، وأصله ولا تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفاً {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} أي وأنتم تسمعونه، أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة.