فصل: تفسير الآيات (33- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (33- 38):

{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
{قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} سمى كل شيء باسمه. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} أي أعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون. {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تسرون.
{وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ} أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له. عن أبي بن كعب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن. والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس. وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له: «لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى».
{فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، ولهذا قال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقوله: {كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] معناه صار من الجن كقوله {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43]. وقيل: الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته. ولأنه قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} [الكهف: 50]، ولا نسل للملائكة. وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن. {أبى} امتنع مما أمر به {واستكبر} تكبر عنه. {وَكَانَ مِنَ الكافرين} وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر، لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج، أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لأنه كان كافراً أبداً في علم الله وهي مسألة الموافاة.
{وَقُلْنَا ياءادم اسكن} أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً {أَنتَ} تأكيد للمستكن في {اسكن} ليصح عطف {وَزَوْجُكَ} عليه {الجنة} هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف. وقالت المعتزلة: كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها. قلنا: إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء. وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد.
{وَكُلاَ مِنْهَا} من ثمارها فحذف المضاف. {رَغَدًا} وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} شئتما وبابه بغير همز: أبو عمرو. وحيث للمكان المبهم أي أيَّ مكان من الجنة شئتما {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي الحنطة. ولذا قيل: كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان، أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة، أو التينة. {فَتَكُونَا} جزم عطف على {تقربا} أو نصب جواب للنهي. {مِنَ الظالمين} من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين أنفسهم. {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي عن الشجرة، أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. {فأزالهما} حمزة. وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم، أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى. فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين. وقال مشايخ سمرقند: لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية. وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه. {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في {عنها}. وقد توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له {فاخرج منها فإنك رجيم} لأنه منع عن دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وروي أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به. وقيل: قام عند الباب فنادى. {وَقُلْنَا اهبطوا} الهبوط النزول إلى الأرض. والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء. والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه: 123] {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} المراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض. والجملة في موضع الحال من الواو في {اهبطوا} أي اهبطوا متعادين. {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار أو استقرار. {ومتاع} وتمتع بالعيش. {إلى حِينٍ} إلى يوم القيامة أو إلى الموت. قال إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً.
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها. وبنصب {آدم} ورفع {كلمات}: مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهنا قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23]. وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ ألم تسكنى جنتك؟ وهو تعالى يقول: بلى بلى. قال: فلم أخرجتني من الجنة؟ قال: بشؤم معصيتك. قال: فلو تبت أراجعي أنت إليها؟ قال: نعم {فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجع عليه بالرحمة والقبول. واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعاً له، وقد طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. {إِنَّهُ هُوَ التواب} الكثير القبول للتوبة. {الرحيم} على عباده. {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} حال أي مجتمعين. وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد، أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض، أو لما نيط به من زيادة قوله. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه إليكم، أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} في مقابلة قوله {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي بالقبول والإيمان به. {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في المستقبل {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا. والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك (إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك). {فلا خوفَ} بالفتح في كل القرآن: يعقوب.

.تفسير الآيات (39- 43):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك} مبتدأ والخبر {أصحاب النار} أي أهلها ومستحقوها. والجملة في موضع الرفع خبر المبتدأ أعني والذين {هُمْ فِيهَا خالدون} {يا بَنِي إسراءيل} هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله. فإسرا هو العبد أو الصفوة، وإيل هو الله بالعبرية، وهو غير منصرف لوجود العلمية والعجمة. {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. {وَأَوْفُوا} أدوا وافياً تاماً، يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به، والاختيار أوفيت، وعليه نزل التنزيل. {بِعَهْدِي} بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي، أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم. والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعاً. وعن قتادة: هما لئن أقمتم {ولأكفرن} وقال أهل الإشارة: أوفوا في دار محنتي، على بساط خدمتي، بحفظ حرمتي، أوف في دار نعمتي، على بساط كرامتي، بسرور رؤيتي. {وإياى فارهبون} فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك (زيدا رهبته) وهو أوكد في إفادة الاختصاص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4] {وإيّايَ} منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون، وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه. وإنما لم ينتصب بقوله {فارهبون} لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد في (زيدا فاضربه) ب (اضرب) الذي هو ظاهر.
{وَءَامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} يعني القرآن {مُصَدِّقاً} حال مؤكدة من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً {لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به. وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، والضمير في به يعود إلى القرآن. {وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا. {بآياتي} بتغييرها وتحريفها. {ثَمَناً قَلِيلاً} قال الحسن: هو الدنيا بحذافيرها. وقيل: هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله. {وإياى فاتقون} فخافوني {فارهبوني} {فاتقوني} بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط: يعقوب.
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} لبس الحق بالباطل خلطه. والباء، إن كانت صلة مثلها في قولك (لبست الشيء بالشيء) خلطته به، كان المعنى ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بين حقها وباطلكم. وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك (كتبت بالقلم)، كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه. {وَتَكْتُمُواْ الحق} هو مجزوم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا، أو منصوب بإضمار (أن)، والواو بمعنى الجمع، أي ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك (لا تأكل السمك وتشرب اللبن). وهما أمران متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها، وكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} في حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه. {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة} أي صلاة المسلمين وزكاتهم. {واركعوا مَعَ الراكعين} منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام. وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمراً بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة، أي صلوها مع المصلين لا منفردين.

.تفسير الآيات (44- 53):

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
والهمزة في {أَتَأْمُرُونَ الناس} للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم. {بالبر} أي سعة الخير والمعروف ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير ومنه قولهم (صدقت وبررت). وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه. وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها. {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وتتركونها من البر كالمنسيات. {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} تبكيت أن تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم. {واستعينوا} على حوائجكم إلى الله {بالصبر والصلاة} أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقيل: الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر. وقيل: الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه. {وَإِنَّهَا} الضمير للصلاة أو للاستعانة. {لَكَبِيرَةٌ} لشاقة ثقيلة من قولك (كبر عَلَيَّ هذا الأمر) {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم، ألا ترى إلى قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه. وفسر {يظنون} ب (يتيقنون) لقراءة عبد الله {يعلمون}، أي يعلمون أنه لابد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة. والخشوع الإخبات والتطامن وأما الخضوع فاللين والانقياد. وفسر اللقاء بالرؤية وملاقو ربهم بمعاينوه بلا كيف. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه.
{خالدون يابني إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} التكرير للتأكيد {وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ} نصب عطف على {نعمتي} أي اذكروا نعمتي وتفضيلي. {عَلَى العالمين} على الجم الغفير من الناس يقال (رأيت عالماً من الناس) والمراد الكثرة. {واتقوا يَوْمًا} أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف. {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ} مؤمنة.
{عَن نَّفْسٍ} كافرة {شَيْئاً} أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها. و{شيئاً} مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء، والجملة منصوبة المحل صفة ويوماً والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه و{ولا يقبل منها شفاعةٌ} {ولا تقبل} بالتاء: مكي وبصري، والضمير في {منها} يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة، وقيل: كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها» {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فدية لأنها معادلة للمفدي. {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يعاونون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة، وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي.
{وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام، وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس. {يَسُومُونَكُمْ} حال من {آل فرعون} أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم {سُوءَ العذاب} ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزيدة أو مطالبة، وسوء مفعول ثانٍ ل {يسومونكم} وهو مصدر سيئ. يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق و{سوء} الفعل يراد قبحهما، ومعنى سوء العذاب، والعذاب كله سيئ أشده وأفظعه. {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} بيان لقوله {يسومونكم} ولذا ترك العاطف {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يتركون بناتكم أحياء للخدمة، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ وكان ما شاء الله {وَفِي ذلكم بَلاءٌ} محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون، ونعمة إن أشير به إلى الانتجاء. {مّن رَّبّكُمْ}، صفة ل {بلاء} {عظِيمٌ} صفة ثانية.
{وَإِذْ فَرَقْنَا} فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ {فرّقنا} أي فصلنا يقال: فرق بين الشيئين وفَرَّقَ بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط. {بِكُمُ البحر} كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم، أو فرقناه بسببكم، أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال. رُوي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: أين أصحابنا فنحن لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم. {فأنجيناكم وَأَغْرَقْنَا آل فِرْعَونَ وَأَنتُم تَنظُرونَ} إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه. وإنما قال: {وَإِذْ واعدنا موسى} لأن الله تعالى وعده الوحي ووعده هو المجيء للميقات إلى الطور.
{وعدنا} حيث كان بصري. لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وقال: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} لأن الشهور غررها بالليالي و{أربعين} مفعول ثانٍ ل {واعدنا} لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه في أربعين ليلة {ثُمَّ اتخذتم العجل} أي إلها فحذف المفعول الثاني ل {اتخذتم}، وبابه بالإظهار مكي وحفص {مِن بَعْدِهِ} من بعد ذهابه إلى الطور، {وَأَنتُمْ ظالمون} أي بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أي عبدتموه ظالمين. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} محونا ذنوبكم عنكم. {مِن بَعْدِ ذلك} من بعد اتخاذكم العجل. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم.
{وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره (رأيت الغيث والليث) تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا.