فصل: تفسير الآيات (35- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (35- 40):

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
ومعنى قوله {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أن النار تحمي عليها أي توقد، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل {يحمى} لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول (رفعت القصة إلى الأمير) فإن لم تذكر القصة قلت (رفع إلى الأمير) {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين.
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} من غير زيادة، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية {فِي كتاب الله} فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثلاثة سرد: ذو القعدة للقعود عن القتال، وذو الحجة للحج، والمحرم لتحريم القتال فيه، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه {ذلك الدين القيم} أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الحرم أو في الاثني عشر {أَنفُسَكُمْ} بارتكاب المعاصي {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} حال من الفاعل أو المفعول {كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} جميعاً {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها {إِنَّمَا النسيء} بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره، وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر {زِيَادَةٌ فِي الكفر} أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم {يُضَلُّ} كوفي غير أبي بكر {بِهِ الذين كَفَرُواْ} بالنسيء. والضمير في {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين.
واللام تتعلق ب {يُحِلُّونَهُ} و{يحرمونه} أو ب {يحرمونه} فحسب وهو الظاهر {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم} زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} حال اختيارهم الثبات على الباطل.
ا {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} اخرجوا {فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت ثاء ساكنة، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم {إِلَى الأرض} ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي ب {إلى} أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك. وقيل: ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة {أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} بدل الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} في جنب الآخر {إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ} إلى الحرب {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. وقيل: الضمير في {وَلاَ تَضُرُّوهُ} للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة {والله على كُلّ شَيْءٍ} من التبديل والتعذيب وغيرهما {قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد، فدل بقوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه {ثَانِيَ اثنين} أحد اثنين كقوله {ثالث ثلاثة} وهما رسول الله وأبو بكر، وانتصابه على الحال {إِذْ هُمَا} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} {فِي الغار} هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً {إِذْ يَقُولُ} بدل ثانٍ {لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالنصرة والحفظ. قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام:
«ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وقيل: لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه {عَلَيْهِ} على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ} أي دعوتهم إلى الكفر {السفلى وَكَلِمَةُ الله} دعوته إلى الإسلام {هِىَ} فصل {العليا} {وَكَلِمَةُ الله} بالنصب: يعقوب بالعطف، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية {والله عَزِيزٌ} يعز بنصره أهل كلمته {حَكِيمٌ} يذل أهل الشرك بحكمته.

.تفسير الآيات (41- 48):

{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
{انفروا خِفَافًا} في النفور لنشاطكم له {وَثِقَالاً} عنه لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً، أو مهازيل وسماناً، أو صحاحاً ومراضاً {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} إيجاب للجهاد بهما إن إمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة {فِي سَبِيلِ الله ذلكم} الجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من تركه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كون ذلك خيراً فبادروا إليه. ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين {لَوْ كَانَ عَرَضًا} هو ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً {قَرِيبًا} سهل المأخذ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً مقارباً، والقاصد والقصد المعتدل {لاَّتَّبَعُوكَ} لوافقوك في الخروج {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} المسافة الشاطة الشاقة {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}. من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر، و{بالله} متعلق ب {سَيَحْلِفُونَ}، أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله {لخرجنا} سد مسد جوابي القسم و{لَوْ} جميعاً. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدل من {سَيَحْلِفُونَ} أو حال منه أي مهلكين، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب، أو حال من {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما يقولون. {عَفَا الله عَنكَ} كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من الأسارى، فعاتبه الله. وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل {لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين} عدة لهم بأجزل الثواب.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً {وارتابت قُلُوبُهُمْ} شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ} للخروج أو للجهاد {عُدَّةً} أهبة لأنهم كانوا مياسير، ولما كان {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} نهوضهم للخروج كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم {فَثَبَّطَهُمْ} فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه {وَقِيلَ اقعدوا} أي قال بعضهم لبعض، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم، أو قاله الشيطان بالوسوسة {مَعَ القاعدين} هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت.
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم معكم {إِلاَّ خَبَالاً} إلا فساداً وشراً، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك (ما زداوكم خيراً إلا خبالاً) والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعاً إذا أسرع. وأوضعته أنا. والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي. وخط في المصحف {وَلاَ أوضعوا} بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه {أَوْ لاَ أذبحنه} [النمل: 21] {يَبْغُونَكُمُ} حال من الضمير في {أوضعوا} {إِلَى الفتنة} أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} بالمنافقين {لَقَدِ ابتغوا الفتنة} بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة، أو بالرجوع يوم أحد {مِن قَبْلُ} من قبل غزوة تبوك {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جَاءَ الحق} وهو تأييدك ونصرك {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} وغلب دينه وعلا شرعه {وَهُمْ كارهون} أي على رغم منهم.

.تفسير الآيات (49- 61):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجد بن قيس المنافق: قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمالي فاتركني {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة {إِن تُصِبْكَ} في بعض الغزوات {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم {مِن قَبْلُ} من قبل ما وقع {وَيَتَوَلَّواْ} عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي قضى من خير أو شر {هُوَ مولانا} أي الذي يتولانا ونتولاه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} تنتظرون بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} وهما النصرة والشهادة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءيين إما {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل على الكفر {فَتَرَبَّصُواْ} بنا ما ذكرنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} ما هو عاقبتكم {قُلْ أَنفِقُواْ} في وجوه البر {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} طائعين أو مكرهين نصب على الحال. {كَرْهاً} حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وقوله:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقلية إن تقلت

أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت، وقد جاز عكسه في قولك (رحم الله زيداً)، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله. وقوله {طَوْعاً} أي من غير إلزام من الله ورسوله و{كَرْهاً} أي ملزمين، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه {إِنَّكُمْ} تعليل لرد إنفاقهم {كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} متمردين عاتين.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم} وبالياء: حمزة وعلي {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} أنهم فاعل (منع) وهم و{أَن تُقْبَلَ} مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم {بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} جمع كسلان {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى، وصفهم بالطوع في قوله {طَوْعاً} وسلبه عنهم هاهنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار.
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} وتخرج أرواحهم، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والأماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه، وكذا إرادة الإماتة على الكفر {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} لمن جملة المسلمين {وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة {أَوْ مغارات} أو غيراناً {أَوْ مُدَّخَلاً} أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول {لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ} لأقبلوا نحوه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح {وَمِنْهُمُ} ومن المنافقين {مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} {إذا} للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون} جواب {لو} محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال:
{إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين} قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك (إنما الخلافة لقريش) تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأك. وعند الشافعي رحمه الله: لابد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة. ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه، وعند الشافعي رحمه الله على العكس {والعاملين عَلَيْهَا} هم السعادة الذين يقبضونها {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} على الإسلام أشراف من العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام {وَفِي الرقاب} هم المكاتبون يعانون منها {والغارمين} الذين ركبتهم الديون {وَفِي سَبِيلِ الله} فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله، وعدل عن اللام إلى {في} في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن {في} للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها. وتكرير {في} في قوله {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها! وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى {فَرِيضَةً مّنَ الله} في معنى المصدر المؤكد لأن قوله {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ} معناه فرض الله الصدقات لهم {والله عَلِيمٌ} بالمصلحة {حَكِيمٌ} في القسمة.
{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه {هُوَ أُذُنٌ} قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} كقولك (رجل صدق) تريد الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك.
ثم فسر كونه أذن خير بأنه {يُؤْمِنُ بالله} أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده، ألا ترى إلى قوله {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] كيف ينبو عن الباء {وَرَحْمَةٌ} بالعطف على {أذن} {وَرَحْمَةٌ}: حمزة عطف على {خَيْرٍ} أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله {لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدارين.