فصل: تفسير الآيات (21- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (21- 22):

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}
{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس} أهل مكة {رَحْمَةً} خصباً وسعة {مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} يعني القحط والجوع {إذا لهم مَّكْرٌ في ءاياتنا} أي مكروا بآياتنا بدفعها وإنكارها. رُوي أنه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحياة، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ف {إذا} الأولى للشرط، والثانية جوابها وهي للمفاجأة وهو كقوله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] أي وإن تصبهم سيئة قنطوا، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا. والمكر إخفاء الكيد وطيه من الجارية الممكورة المطوية الخلق، ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وإنما قال: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا} ولم يصفهم بسرعة المكر لأن كلمة المفاجأة دلت على ذلك كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء {إِنَّ رُسُلَنَا} يعني الحفظة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} إعلام بأن ما تظنونه خافياً لا يخفى على الله وهو منتقم منكم. وبالياء: سهل.
{هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ في البر والبحر} يجعلكم قادرين على قطع المسافات بالأرجل والدواب والفلك الجارية في البحار، أو يخلق فيكم السير {ينشرُكم} شامي {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك} أي السفن {وَجَرَيْنَ} أي السفن {بِهِمُ} بمن فيها رجوع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة {بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} لينة الهبوب لا عاصفة ولا ضعيفة {وَفَرِحُواْ بِهَا} بتلك الريح للينها واستقامتها {جَاءتْهَا} أي الفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها {رِيحٌ عَاصِفٌ} ذات عصف أي شديدة الهبوب {وَجَاءهُمُ الموج} هو ما علا على الماء {مّن كُلّ مَكَانٍ} من البحر أو من جميع أمكنة الموج {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلاً في الإهلاك {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} من غير إشراك به لأنهم لا يدعون حينئذ معه غيره يقولون: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه} الأهوال أو من هذه الريح {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك، ولم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد {حتى} بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء، وجواب: {إذا} {جاءتها} و{دعوا} بدل من {ظنوا} لأن دعاءهم من لوازم ظنهم للهلاك فهو ملتبس به.

.تفسير الآيات (23- 24):

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُم يَبْغُونَ في الأرض} يفسدون فيها {بِغَيْرِ الحق} باطلاً أي مبطلين {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي ظلمكم يرجع إليكم كقوله {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} حفص أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا {وعلى أنفسكم} خبر ل {بغيكم}. غيره بالرفع على أنه خبر {بغيكم} و{على أنفسكم} صلته كقوله {فبغى عليهم}) القصص: 76) ومعناه إنما بغيكم على أمثالكم، أو هو خبر و{متاع} خبر بعد خبر أو {متاع} خبر مبتدأ مضمر أي هو متاع الحياة الدنيا، وفي الحديث: «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة» ورُوي: «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ وَمِنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10] {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فنخبركم به ونجازيكم عليه.
{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} من السحاب {فاختلط بِهِ} بالماء {نَبَاتُ الأرض} أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} يعني الحبوبِ والثمار والبقول: {والأنعام} يعني الحشيش {حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} زينتها بالنبات واختلاف ألوانه {وازينت} وتزينت به وهو أصله وأدغمت التاء في الزاي وهو كلام فصيح، جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين {وَظَنَّ أَهْلُهَا} أهل الأرض {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} عذابنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا} فجعلناها زرعاً {حَصِيداً} شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث، حذف المضاف في هذه المواضع لابد منه ليستقيم المعنى {بالأمس} هو مقل في الوقت القريب كأنه قيل {كأن لم تغن} آنفاً {كذلك نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فينتفعون بضرب الأمثال، وهذا من التشبيه المركب شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. وحكمة التشبيه، التنبيه على أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء قال:
ألم تر أن العمر كأس سلافة ** فأوله صفو وآخره كدْر

وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس، ورياحين الروح، وزهرة الزهد، وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة، وشقائق الطريقة، والخبيثة تخرج خلاف الخلف، وثمام الاسم، وشوك الشرك، وشيح الشح، وحطب العطب، ولعاع اللعب، ثم يدعوه معاده كما يحين للحرث حصاده فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج النبات مصفراً فتغيب جثة في الرمس كأن لم تغن بالأمس إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث، وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ويهلك كثيره، ولابد من ترك ما زاد كما لابد من أخذ الزاد، وآخذ المال لايخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه، وإهلاكه فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز. والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة، وعمارتها بذل الصلات، فمتى اختلت القنطرة غرّقته أمواج القناطير المقنطرة، وعن هذا قال عليه السلام: «الزكاة قنطرة الإسلام» وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذلك الماء لا يجتمع إلا بكد البخيل كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل، ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
{والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام} هي الجنة أضافها إلى اسمه تعظيماً لها، أو السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم {إلا قيلا سلاماً سلاماً} [الواقعة: 26] {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} ويوفق من يشاء {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} إلى الإسلام أو طريق السنة، فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة، والهداية خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية، والمعنى يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون.

.تفسير الآيات (26- 27):

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)}
{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} آمنوا بالله ورسله {الحسنى} المثوبة الحسنى وهي الجنة {وَزِيَادَةٌ} رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى. وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك وتعالى: أتريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فنرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم» ثم تلا {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} والعجب من صاحب الكشاف أنه ذكر هذا الحديث لا بهذه العبارة وقال: إنه حديث مدفوع مع أنه مرفوع قد أورده صاحب المصابيح في الصحاح. وقيل: الزيادة المحبة في قلوب العباد. وقيل: الزيادة مغفرة من الله ورضوان {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} ولا يغشى وجوههم {قَتَرٌ} غبرة فيها سواد {وَلاَ ذِلَّةٌ} ولا أثر هوان، والمعنى ولا يرهقهم ما يرهق أهل النار {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} {والذين كَسَبُواْ} عطف على {للذين أحسنوا} أي وللذين كسبوا {السيئات} فنون الشرك {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} الباء زائدة كقوله {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] أو التقدير جزاء سيئة مقدر بمثلها {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ذل وهوان {مَا لَهُم مِنَ الله} من عقابه {مِنْ عَاصِمٍ} أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه {كأنما أُغشيت وجوهُهم قِطعاً من الليل مظلماً} أي جعل عليها غطاء من سواد الليل أي هم سود الوجوه. و{قطعاً} جمع قطعة وهو مفعول ثان {أُغشيت}. قِطْعاً مكي وعلي من قوله {بِقِطْعٍ مّنَ اليل} [هود: 81] وعلى هذه القراءة {مظلماً} صفة لقطع، وعلى الأول حال من {الليل} والعامل فيه {أغشيت} لأن {من الليل} صفة ل {قطعاً} فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، أو معنى الفعل في {من الليل} {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}

.تفسير الآيات (28- 30):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أي الكفار وغيرهم {جَمِيعاً} حال {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم {أَنتُمْ} أكد به الضمير في {مكانكم} لسده مسد قوله الزموا {وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطف عليه {فَزَيَّلْنَا} ففرَّقنا {بَيْنَهُمْ} وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} من عبدوه من دون الله من أولي العقل أو الأصنام ينطقها الله عز وجل: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا الله أنداداً فأطعتموهم وهو قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ} إلى قوله: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} سبأ: 41) {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي كفى الله شهيداً وهو تمييز {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين} {إن} مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية {هُنَالِكَ} في ذلك المكان أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان {تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ} تختبر وتذوق {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود، وقال الزجاج: تعلم كل نفس ما قدمت. {تتلو} حمزة وعلي، أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر، كذا على الأخفش {وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق} ربهم الصادق في ربوبيته لأنهم كانوا يتلون ما ليس لربوبيته حقيقة، أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم العدل الذي لا يظلم أحداً {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وضاع عنهم ما كانوا يدّعون أنهم شركاء لله، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.

.تفسير الآيات (31- 33):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء} بالمطر {والأرض} بالنبات {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أومن يحميهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء {وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي الحيوان والفرخ والزرع، والمؤمن والعالم من النطفة، والبيضة والحب والكافر والجاهل وعكسها {وَمَن يُدَبّرُ الأمر} ومن يلي تدبير أمر العالم كله جاء بالعموم بعد الخصوص {فَسَيَقُولُونَ الله} فسيجيبونك عند سؤالك إن القادر على هذه هو الله {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الشرك في العبودية إذ اعترفتم بالربوبية {فَذَلِكُمُ الله} أي من هذه قدرته هو الله {رَبُّكُمُ الحق} الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} أي لا واسطة بين الحق والضلال، فمن تخطى الحق وقع في الضلال {فأنى تُصْرَفُونَ} عن الحق إلى الضلال وعن التوحيد إلى الشرك {كذلك} مثل ذلك الحق {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} {كلمات} شامي ومدني، أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حقت كلمة ربك {عَلَى الذين فَسَقُواْ} تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدل من (الكلمة) أي حق عليهم انتفاء الإيمان، أو حق عليهم كلمة الله أن إيمانهم غير كائن، أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب أنهم لا يؤمنون تعليل أي لأنهم لا يؤمنون.

.تفسير الآيات (34- 35):

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَؤُا الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إنما ذكر {ثم يعيده} وهم غير مقرين بالإعادة، لأنه لظهور برهانها جعل أمراً مسلماً على أن فيهم من يقر بالإعادة أو يحتمل إعادة غير البشر كإعادة الليل والنهار وإعادة الإنزال والنبات {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أمر نبيه بأن ينوب عنهم في الجواب يعني أنهم لا تدعهم مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلهم عنهم {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن قصد السبيل.
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق} يرشد إليه {قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى} يقال هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين ويقال هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى، ومنه قراءة حمزة وعلي {أمن لا يهدي} بمعنى يهتدي {لا يَهّدىِ} بفتح الياء والهاء وتشديد الدال: مكي وشامي وورش، وبإشمام الهاء فتحة: أبو عمرو، وبكسر الهاء وفتح الياء: عاصم غير يحيى، والأصل {يهتدي} وهي قراءة عبد الله فأدغمت التاء في الدال وفتحت الهاء بحركة التاء وكسرت لالتقاء الساكنين، وبكسر الياء والهاء وتشديد الدال: يحيى لاتباع ما بعدها وبسكون الهاء وتشديد الدال مدني غير ورش، والمعنى أن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما وفقهم وألهمهم ووقفهم على الشرائع بإرسال الرسل، فهل من شركائكم- الذين جعلتم أنداداً لله- أحد يهدي إلى الحق مثل هداية الله؟ ثم قال: {أفمن يهدي إلى الحق أحق} بالاتباع أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه أولا يهدي غيره إلا أن يهديه الله. وقيل: معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدي إلا أن ينقل، أولا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حياً ناطقاً فيهديه {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد الله.