فصل: تفسير الآيات (54- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (54- 59):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} للذين عبدوا العجل. {ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} معبوداً {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت. وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم إبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة والبلادة {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} قيل: هو على الظاهر وهو البخع. وقيل: معناه قتل بعضهم بعضاً. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفاً. {ذلكم} التوبة والقتل {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} من الإصرار على المعصية. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب} المفضال بقبول التوبة وإن كثرت {الرحيم} يعفو الحوبة وإن كبرت. والفاء الأولى للتسبيب لأن الظلم سبب التوبة، والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم إذ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، والثالثة متعلقة بشرط محذوف كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم. {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} عياناً وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس، أو على الحال من {نرى} أي ذوي جهرة. {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} أي الموت. قيل: هي نار جاءت من السماء فأحرقتهم. روي أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له: نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة. فقال موسى: سألته ذلك فأباه عليّ. فقالوا: إنك رأيت الله تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم. وتعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت. قلنا: إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم: إنك رأيت الله فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم. ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة، والإيمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم. ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد. {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} إليها حين نزلت. {ثُمَّ بعثناكم} أحييناكم وأصله الإثارة {مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة البعث بعد الموت. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن} الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع. {والسلوى} كان يبعث الله عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه.
وقلنا لهم {كُلُواْ مِن طيبات} لذيذات أو حلالات {مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا} يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أنفسهم مفعول {يظلمون} وهو خبر (كان). {وَإِذْ قُلْنَا} لهم بعدما خرجوا من التيه. {ادخلوا هذه القرية} أي بيت المقدس أو أريحاء. والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق، أمروا بدخولها بعد التيه. {فَكُلُواْ مِنْهَا} من طعام القرية وثمارها. {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} واسعاً {وادخلوا الباب} باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلوا الباب في حياته ودخلوا بيت المقدس بعده. {سُجَّدًا}.
حال وهو جمع ساجد، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً له. {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} فعلة من الحط كالجلسة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة، والأصل النصب وقد قرئ به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات. وقيل: أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. وعن عليّ رضي الله عنه: وهو بسم الله الرحمن الرحيم. وعن عكرمة: هو لا إله إلا الله. {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} جمع خطيئة وهي الذنب. {يغفر}: مدني {تغفر}: شامي. {وَسَنَزِيدُ المحسنين} أي من كان محسناً منكم. كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة. {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم، ف {بدل} يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء، فالذي مع الباء متروك والذي بغير باء موجود، يعني وضعوا مكان حطة قولاً غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله. وقيل: قالوا مكان حطة حنطة. وقيل: قالوا بالنبطية حطا سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا} عذاباً. وفي تكرير {الذين ظلموا} زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بإنزال الرجز عليهم لظلمهم. {مِّنَ السماء} صفة لرجز {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم. روي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً وقيل سبعون ألفاً.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} موضع إذ نصب كأنه قيل: واذكروا إذا استسقى أي استدعي أن يسقي قومه. {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر. واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً، أو للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. {فانفجرت} الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أي سالت بكثرة، أو فإن ضربت فقد انفجرت وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} على عدد الأسباط وقرئ بكسر الشين وفتحها وهما لغتان، وعيناً تمييز. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} عينهم التي يشربون منها. وقلنا لهم {كُلُواْ} من المن والسلوى. {واشربوا} من ماء العيون. {مِن رّزْقِ الله} أي الكل مما رزقكم الله. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض} لا تفسدوا فيها. والعيث أشد الفساد {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة أي لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه. {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وإنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك {فادع لَنَا رَبَّكَ} سله وقل له أخرج لنا {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر لنا ويوجد {مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} هو ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس. {وَقِثَّآئِهَا} يعني الخيار {وَفُومِهَا} هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود و{ثومها} {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى} أقرب منزلة وأدون مقداراً والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار {بالذي هُوَ خَيْرٌ} أرفع وأجل. {اهبطوا مِصْرًا} من الأمصار أي انحدروا إليه من التيه. وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ، أو مصر فرعون. وإنما صرفه من وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لإرادة البلد، أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف {فَإِنَّ لَكُم} فيها {مَّا سَأَلْتُمْ} أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في التيه.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أي الهوان والفقر يعني جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه. فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة وفقر إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية. {عليهم الذلة}: حمزة وعلي وكذا كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة وبكسر الهاء والميم: أبو عمرو. وبكسر الهاء وضم الميم: غيرهم. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} من قولك (باء فلان بفلان) إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له. أي صاروا أحقاء بغضبه. وعن الكسائي حفوا {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب. {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين} بالهمزة: نافع وكذا بابه. أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء. وقد قتلت اليهود شعياء وزكريا ويحيى صلوات الله عليهم. والنبي من النبإ لأنه يخبر عن الله تعالى (فعيل) بمعنى (مفِعل) أو بمعنى (مفعَل). أو من نبا أي ارتفع، والنبوة المكان المرتفع. {بِغَيْرِ الحق} عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئاً يستحقون به القتل عندهم في التوراة. وهو في محل النصب على الحال من الضمير في {يقتلون} أي يقتلونهم مبطلين {ذلك} تكرار للإشارة. {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتلهم الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.

.تفسير الآيات (62- 67):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
{إِنَّ الذين ءَامَنُواْ} بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون. {والذين هَادُواْ} تهودوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود. {والنصارى} جمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامرأة نصرانة. والياء في نصراني للمبالغة كالتي في (أحمري) سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح. {والصابئين} الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. وقيل: هم يقرؤون الزبور. {مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الآخر} من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً {وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم {عِندَ رَبِّهِمْ} في الآخرة {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ومحل {من آمن} الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إن والمعطوف عليه. فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي، وفي الثاني {فلهم} والفاء لتضمن {من} معنى الشرط.
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} بقبول ما في التوراة. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم. {خُذُواْ مَا ءاتيناكم} من الكتاب أي التوراة {بِقُوَّةٍ} بجدٍ وعزيمة {واذكروا مَا فِيهِ} واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رجاء منكم أن تكونوا متقين. {ثمّ تولّيتم} ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به. {مِن بَعْدِ ذلك} من بعد القبول {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيقكم للتوبة. {لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} الهالكين في العذاب.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد {الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت} هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت. وقد اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ} بتكويننا إياكم {قِرَدَةً خاسئين} خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغاروالطرد. يعني المسخة {نكالا} عبرة تنكل من اعتبر بها أن تمنعه.
{لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} لما قبلها. {وَمَا خَلْفَهَا} وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} أي واذكروا إذ قال موسى، وهو معطوف على نعمتي في قوله {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] كأنه قال: اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى. وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي، واذكروا وقت إنجائنا إياكم، واذكروا وقت فرقنا، واذكروا نعمتي، واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه. والظروف التي تأتي إلى قوله {وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ} [البقرة: 124]. {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن} أي بأن {تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} قال المفسرون: أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى: {وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها}. وذلك أن رجلاً موسراً اسمه (عاميل) قتله بنو عمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بديته فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله. {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. {هزأً} بسكون الزاي والهمزة: حمزة، وبضمتين والواو: حفص. غيرهما بالتثقيل والهمزة. {قَالَ أَعُوذُ بالله} العياذ واللياذ من وادٍ واحد. {أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه، وفيه تعريض بهم أي أنتم جاهلون حيث نسبتموني إلى الاستهزاء.

.تفسير الآيات (68- 72):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
{قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عالمين بماهيتها، لأن (ما) وإن كانت سؤالاً عن الجنس، و(كيف) عن الوصف ولكن قد تقع (ما) موقع (كيف)، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشان، و{ما هي} خبر ومبتدأ. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. وارتفع {فارض} لأنه صفة ل {بقرة}، وقوله: {وَلاَ بِكْرٌ} فتية عطف عليه. {عَوَانٌ} نصف. {بَيْنَ ذلك} بين الفارض والبكر، ولم يقل بين ذينك مع أن {بين} يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

إن أردت الخطوط فقل كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك. {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير.
{قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} موضع {ما} رفع لأن معناه الاستفهام تقديره: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع، وهو توكيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل، ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها، وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده {تَسُرُّ الناظرين} لحسنها. والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. عن علي رضي الله عنه: من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى: {تسر الناظرين}، {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها، وعن النبي عليه السلام: «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم» والاستقصاء شؤم {إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا {وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ} إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل، و{إن شاء الله} اعتراض بين اسم {إن} وخبرها. وفي الحديث: «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» أي لو لم يقولوا إن شاء الله {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض} {لا ذلول} صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض {وَلاَ تَسْقِي الحرث} ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروق، و{لا} الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية {مُّسَلَّمَةٌ} عن العيوب وآثار العمل.
{لاَّ شِيَةَ فِيهَا} لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لون آخر. {قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق} أي بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها، {جئت} وبابه بغير همز: أبو عمرو {فَذَبَحُوهَا} فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل، روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وكان براً بوالديه. فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة، وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} بتقدير {واذكروا}، خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم. {فادرأتم فِيهَا} فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفع، أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح، أو لأن الطرح في نفسه دفع، وأصاله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة ليمكن الإدغام، ثم سكنوا الدال إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن، {فاداراتم} بغير همز: أبو عمر. {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً، وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ، وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم.