فصل: تفسير الآيات (36- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (36- 39):

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} في قولهم للأصنام إنها آلهة وإنها شفعاء عند الله والمراد بالأكثر الجميع {إِلاَّ ظَنّا} بغير دليل وهو اقتداؤهم بأسلافهم ظناً منهم إنهم مصيبون {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق} وهو العلم {شَيْئاً} في موضع المصدر أي إغناء {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من اتباع الظن وترك الحق.
{وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله} أي افتراء من دون الله، والمعنى وما صح وما استقام أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى {ولكن} كان {تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة {وَتَفْصِيلَ الكتاب} وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع من قوله {كتاب الله عليكم} [النساء: 24] {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين} داخل في حيز الاستدراك كأنه قال: ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين، ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك، فيكون {من رب العالمين} متعلقاً ب {تصديق} و{تفصيل} ويكون {لا ريب فيه} اعتراضًاً كما تقول: (زيد لا شك فيه كريم) {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} بل أيقولون اختلقه {قُلْ} إن كان الأمر كما تزعمون {فَأتُواْ} أنتم على وجه الافتراء {بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله {إِن كُنتُمْ صادقين} أنه افتراء {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. ومعنى التوقع في {ولما يأتهم تأويله} أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي وجربوا قواهم في المعارضة وعرفوا عجزهم عن مثله فكذبوا به بغياً وحسداً.
{كذلك} مثل ذلك التكذيب {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم الماضية كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم وقبل تدبرها عناداً وتقليداً للآباء، ويجوز أن يكون معنى {ولما يأتهم تأويله} ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني أنه كتاب معجز من جهتين من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين}

.تفسير الآيات (40- 42):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}
{وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} بالنبي أو بالقرآن أي يصدق به فيه نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند بالتكذيب {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} لا يصدق به ويشك فيه، أو يكون للاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} بالمعاندين أو المصرين {وَإِن كَذَّبُوكَ} وإن تمّوا على تكذيبك ويئست من إجابتهم {فَقُل لّي عَمَلِي} جزاء عملي {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} جزاء أعمالكم {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ} فكل مؤاخد بعمله {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعملت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون فهم كالصم {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد تم الأمر.

.تفسير الآيات (43- 46):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)}
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون {أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلىّ فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} {ولكنِ الناس} حمزة وعلي. أي لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال حيث عبدوا جماداً وهم أحياء {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} وبالياء: حفص {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو في قبورهم لهول ما يرون {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وذلك عند خروجهم من القبور، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم {كأن لم يلبثوا} حال من {هم} أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبثوا إلا ساعة. و{كأن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنهم. و{يتعارفون بينهم} حال بعد حال، أو مستأنف على تقديرهم يتعارفون بينهم {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله على خسرانهم، والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} للتجارة عارفين بها وهو استئناف فهي معنى التعجب كأنه قيل ما أخسرهم {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل عذابهم {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} جواب {نتوفينك} وجواب {نرينك} محذوف أي وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب كأنه قيل: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقيل: {ثم} هنا بمعنى (الواو).

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق {فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه {قُضِىَ بَيْنَهُمْ} بين النبي ومكذبيه {بالقسط} بالعدل فأنجى الرسول وعذب المكذبين، أو لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بالقسط {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يعذب أحد بغير ذنبه. ولما قال: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} أي من العذاب استعجلوا لما وعدوا من العذاب نزل {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي وعد العذاب {إِن كُنتُمْ صادقين} أن العذاب نازل وهو خطاب منهم للنبي والمؤمنين {قُلْ} يا محمد {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا} من مرض أو فقر {وَلاَ نَفْعاً} من صحة أو غنى {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} لكل أمة وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح فإذا جاء وقت عذابهم لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلوا {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} الذي تستعجلونه {بَيَاتًا} نصب على الظرف أي وقت بيات وهو الليل وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون {أَوْ نَهَارًا} وأنتم مشتغلون بطلب المعاش والكسب {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} أي من العذاب، والمعنى أن العذاب كله مكروه موجب للنفور فأي شيء تستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ والاستفهام في {ماذا} يتعلق ب {أرأيتم} لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون. وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. ولم يقل (ماذا يستعجلون منه) لأنه أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، أو {ماذا يستعجل منه المجرمون} جواب الشرط نحو: (إن أتيتك ماذا تطعمني) ثم تتعلق الجملة ب {أرأيتم} أو:

.تفسير الآيات (51- 54):

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} العذاب {ءَامنتُم بِهِ} جواب الشرط و{ماذا يستعجل منه المجرمون} اعتراض. والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. ودخول حرف الاستفهام على {ثم} كدخوله على (الواو) و(الفاء) في {أفأمن أهل القرى} {أو أمن أهل القرى} {الآن} على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} َأي بالعذاب تكذيباً واستهزاء. {آلان} بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام: نافع {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطف على {قيل} المضمر قبل {الآن} {ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} أي الدوام {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} من الشرك والتكذيب.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} ويستخبرونك فيقولون {أَحَقٌّ هُوَ} وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء والضمير للعذاب الموعود {قُلْ} يا محمد {إِى وَرَبّي} نعم والله {إِنَّهُ لَحَقٌّ} إن العذاب كائن لا محالة {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين العذاب وهو لاحق بكم لا محالة {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} كفرت وأشركت وهو صفة ل {نفس} أي ولو أن لكل نفس ظالمة {مَّا في الأرض} في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها {لاَفْتَدَتْ بِهِ} لجعلته فدية لها. يقال فداه فافتدى، ويقال افتداه أيضاً بمعنى فداه {وَأَسرُّوا الندامةَ لما رأؤا العذاب} وأظهروها من قولهم (أسر الشيء) إذا أظهره، أو أخفوها عجزاً عن النطق لشدة الأمر فأسر من الأضداد {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط} بين الظالمين والمظلومين دل عل ذلك ذكر الظلم {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ثم أتبع ذلك الإعلام بأن له الملك كله بقوله:

.تفسير الآيات (55- 58):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السماوات والأرض} فكيف يقبل الفداء، وأنه المثيب المعاقب وما وعده من الثواب أو العقاب فهو حق لقوله: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} بالثواب أو بالعذاب {حَقّ} كائن {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ} هو القادر على الإحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيره {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإلى حسابه وجزائه المرجع فيخاف ويرجى {ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد، والموعظة التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب، فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب إذ الأمر يقتضي حسن المأمور به فيكون مرغوباً هو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح وعلى هذا النهي {وَشِفَاء لِمَا في الصدور} أي صدوركم من العقائد الفاسدة {وهدى} من الضلالة {وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} لمن آمن به منكم.
{قُلْ} يا محمد {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكيد، والتقدير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، أو بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا وهما كتاب الله والإسلام. في الحديث: «من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه» وقرأ الآية {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} وبالتاء شامي، {فلتفرحوا} يعقوب.

.تفسير الآيات (59- 60):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}
{قُلْ أَرَءيْتُمْ} أخبروني {مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} {ما} منصوب ب {أنزل} أو ب {أرأيتم} أي أخبرونيه {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} فبعضتموه وقلتم هذا حلال وهذا حرام كقوله {ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} [الأنعام: 139] نعم الأرزاق تخرج من الأرض ولكن لما نيطت أسبابها بالسماء نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات، والشمس التي بها النضج وينع الثمار، أضيف إنزالها إلى السماء {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} متعلق ب {أرأيتم} و{قل} تكرير للتوكيد، والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أم أنتم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه، أو الهمزة للإنكار و{أم} منقطعة بمعنى بل أتفترون على الله تقريراً للإفتراء. والآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} ينسبون ذلك إليه {يَوْمُ القيامة} منصوب بالظن وهو ظن واقع فيه أي أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} حيث أنعم عليهم بالعمل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.

.تفسير الآيات (61- 64):

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}
{وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ} {ما} نافية والخطاب للنيي صلى الله عليه وسلم والشأن الأمر {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} من التنزيل كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل {مِن قُرْءانٍ} لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له أو من الله عز وجل: {وَلاَ تَعْمَلُونَ} أنتم جميعاً {مِنْ عَمَلٍ} أي عمل {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} شاهدين رقباء نحصي عليكم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تخوضون من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} وما يبعد وما يغيب، وبكسر الزاي: على حيث كان {مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} وزن نملة صغيرة {فِي الأرض وَلاَ في السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} رفعهما حمزة على الابتداء والخبر {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} يعني اللوح المحفوظ، ونصبهما غيره على نفي الجنس، وقدمت الأرض على السماء هنا وفي (سبأ) قدمت السماوات، لأن العطف بالواو وحكمه حكم التثنية {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله} هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، أو هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان الذي آتاهم فتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه، أو هم المتحابون في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، أوهم المؤمنون المتقون بدليل الآية الثانية {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إذا خاف الناس {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزن الناس {الذين ءَامَنُواْ} منصوب بإضمار أعني أو لأنه صفة لأولياء، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك والمعاصي {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير موضع من كتابه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» وعنه عليه السلام: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة» وهذا لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة، وكان في ستة أشهر منها يؤمر في النوم بالإنذار، وستة أشهر من ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً، أو هي محبة الناس له والذكر الحسن، أولهم البشرى عند النزع بأن يرى مكانه في الجنة {وَفِي الآخرة} هي الجنة {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده {ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين {هُوَ الفوز العظيم} وكلتا الجملتين اعتراض، ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام كما تقول (فلان ينطق بالحق والحق أبلج) وتسكت.