فصل: تفسير الآيات (92- 94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (92- 94):

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
{فاليوم نُنَجّيكَ} نلقيك بنجوة من الأرض فرماه الماء إلى الساحل كأنه ثور {بِبَدَنِكَ} في موضع الحال أي الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عرياناً لست إلا بدنا من غير لباس، أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه {بأبدانك} وهو مثل قولهم هو (بأجرامه) أي ببدنك كله وافياً بأجزائه، أو بدروعك لأنه ظاهر بينها {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً} لمن وراءك من الناس علامة وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه. وقيل: {لمن خلفك} لمن يأتي بعدك من القرون ومعنى كونه آية أن يظهر للناس عبوديته وأن ما كان يدعيه من الربوبية محال، وأنه مع ما كان عليه من عظم الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه فما الظن بغيره {وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ولقد بوأنا بني اسرائيل مبوأ صدق} منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات فَمَا اختلفوا} في دينهم {حتى جَاءهُمُ العلم} أي التوراة وهم اختلفوا في تأويلها كما اختلف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأويل الآيات من القرآن أو المراد العلم بمحمد واختلاف بني إسرائيل وهم أهل الكتاب اختلافهم في صفته أنه هو أم ليس هو بعد ما جاءهم العلم أنه هو {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يميز الحق من المبطل ويجزي كلا جزاءه.
{فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} لما قدم ذكر بني إسرائيل- وهم قراء الكتاب- ووصفهم بأن العلم قد جاءهم لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وبصحة نبوته صلى الله عليه وسلم ويبالغ في ذلك فقال: فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً، وسبيل من خالجته شبهة أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته أو بمباحثة العلماء فسل علماء أهل الكتاب فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك. فالمراد وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشك فيه ثم قال: {لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ} أي ثبت عندك بالآيات الواضحة والبراهين اللائحة أن ما أتاك هو الحق الذي لا مجال فيه للشك {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكين ولا وقف عليه للعطف.

.تفسير الآيات (95- 96):

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)}
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله أو هو على طريقة التهييج والإلهاب كقوله {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} [القصص: 86] {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص: 87] ولزيادة التثبيت والعصمة ولذلك قال عليه السلام عند نزوله: «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق» أوخوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أي وإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم كقوله {وأنزلنا إليكم نوراً مبينا} [النساء: 174] أو الخطاب لكل سامع يجوز عليه الشك كقول العرب (إذا عز أخوك فهن) أو {إن} للنفي أي فما كنت في شك فاسأل أي لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. فإن قلت: إنما يجيء {إن} للنفي إذا كان بعده {إلا} كقوله: {إِنِ الكافرون إِلاَّ في غُرُورٍ} [الملك: 20] قلت: ذاك غير لازم ألا ترى إلى قوله {إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41] فإن للنفي وليس بعده (إلا)
{إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبّكَ} ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً أو قوله {لأملأن جهنم} الآية ولا وقف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} لأن:

.تفسير الآيات (97- 98):

{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)}
{وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} تتعلق بما قبلها {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي عند اليأس فيؤمنون ولا ينفعهم، أو عند القيامة ولا يقبل منهم {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ} فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بختفه {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبل الله منها بوقوعه في وقت الاختيار {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس، أو متصل والجملة في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء {لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} إلى آجالهم. رُوي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح كلهم وعجوا أربعين ليلة وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان والدواب وأولادها، فحن بعضهم إلى بعض وأظهروا الإيمان والتوبة، فرحمهم وكشف عنهم- وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة- وبلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل كان يقلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنيايه فيرده. وقيل: خرجوا لما نزل بهم العذاب إلى شيخ من بقية علمائهم فقال لهم: قولوا ياحي حين لا حي، وياحي محيي الموتى، وياحي لا إله إلا أنت. فقالوها فكشف الله عنهم. وعن الفضيل قدس الله روحه قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.

.تفسير الآيات (99- 101):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ} على وجه الإحاطة والشمول {جَمِيعاً} مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه، أخبر عن كمال قدرته ونفوذ مشيئته أنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم ولكنه شاء أن يؤمن به من علم منه اختيار الإيمان به، وشاء الكفر ممن علم أنه يحتار الكفر ولا يؤمن به. وقول المعتزلة: المراد بالمشيئة مشيئة القسر والإلجاء أي لو خلق فيهم الإيمان جبراً لآمنوا لكن قد شاء أن يؤمنوا اختياراً فلم يؤمنوا دليله {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}- أي ليس إليك مشيئة الإكراه والجبر في الإيمان إنما ذلك إليّ- فاسد لأن الإيمان فعل العبد وفعله ما يحصل بقدرته ولا يتحقق ذلك بدون الاختيار. وتأويله عندنا أن الله تعالى لطفاً لو أعطاهم لآمنوا كلهم عن اختيار ولكن علم منهم أنهم لا يؤمنون فلم يعطهم ذلك وهو التوفيق. والاستفهام في {أفأنت} بمعنى النفي أي لا تملك أنت يا محمد أن تكرههم على الإيمان لأنه يكون بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بمشيئته أو بقضائه أو بتوفيقه وتسهيله أو بعلمه {وَيَجْعَلُ الرجس} أي العذاب أو السخط أو الشيطان أي ويسلط الشيطان {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} لا ينتفعون بعقولهم، {ونجعل} حماد ويحيى {قُلِ انظروا} نظر استدلال واعتبار {مَاذَا في السماوات والأرض} من الآيات والعبر باختلاف الليل والنهار وخروج الزروع والثمار {وَمَا تُغْنِى الآيات} {ما} نافيه {والنذر} والرسل المنذورون أو الانذارات {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} لا يتوقع إيمانهم وهم الذين لا يعقلون.

.تفسير الآيات (102- 105):

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} يعني وقائع الله فيهم كما يقال أيام العرب لوقائعها {قُلْ فانتظروا إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجّى رُسُلُنَا} معطوف على كلام محذوف يدل عليه {إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على حكاية الأحوال الماضية {والذين ءامَنُواْ} ومن آمن معهم {كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين و{حقاً علينا} اعتراض أي حق ذلك علينا حقاً. {ننجي} بالتخفيف: علي وحفص.
{قُلْ ياأيها الناس} يا أهل مكة {إِن كُنتُمْ في شَكّ مّن دِينِى} وصحته وسداده فهذا ديني فاستمعوا وصفه، ثم وصف دينه قال: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي الأصنام {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} يميتكم، وصفه بالتوفي ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي ويعبدون دون ما لا يقدر على شيء {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي بأن أكون يعني أن الله أمرني بذلك بما ركب فيّ من العقل وبما أوحى إليّ في كتابه {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} أي وأوحى إليّ أن أقم ليشاكل قوله أي استقم مقبلا بوجهك على ما أمرك الله، أو استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا {حَنِيفاً} حال من الدين أو الوجه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}

.تفسير الآيات (106- 108):

{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}
{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَالاً يَنفَعُكَ} إن دعوته {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن خذلته {فَإِن فَعَلْتَ} فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فكنى عنه بالفعل إيجازاً {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} {إذا} جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجعل {من الظالمين} لأنه لا ظلم أعظم من الشرك.
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله} يصبك {بِضُرّ} مرض {فَلاَ كاشف لَهُ} لذلك الضر {إِلاَّ هُوَ} إلاَّ الله {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} عافية {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} فلا رادَّ لمراده {يُصَيبُ بِهِ} بالخير {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} قطع بهذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه والاعتماد إلا عليه {وَهُوَ الغفور} المكفر بالبلاء {الرحيم} المعافي بالعطاء، أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر أن الله هو الضار النافع الذي إن أصابك بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟ وكذا إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من الفضل والإحسان فكيف بالأوثان؟ وهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها وهو أبلغ من قوله {إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] وإنما ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر كأنه أراد أن يذكر الأمرين: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لاراد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الآخر ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله {يصيب به من يشاء من عباده} {قُلْ يا أَيُّهَا الناس} يا أهل مكة {قَدْ جَاءكُمُ الحق} القرآن أو الرسول {مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ اهتدى} اختار الهدى واتبع الحق {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} فما نفع باختياره إلا لنفسه {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ودل اللام و{على} على معنى النفع والضرر {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ موكول إلى أمركم إنما أنا بشير ونذير.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
{واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر} على تكذيبهم وإيذائهم {حتى يَحْكُمَ الله} لك بالنصر عليهم والغلبة {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} لأنه المطلع على السرائر فلا يحتاج إلى بينة وشهود.

.سورة هود:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
{الر كِتَابٌ} أي هذا كتاب فهو خبر مبتدأ محذوف {أُحكمت ءاياته} صفة له أي نظمت نظماً رصيناً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم {ثُمَّ فُصّلَتْ} كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد أي بين ولخص. وليس معنى {ثم} التراخي في الوقت ولكن في الحال {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة أخرى ل {كتاب} أو خبر بعد خبر أوصلة ل {أحكمت} و{فصلت} أي من عنده أحكامها وتفصيلها {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعول له أي لئلا تعبدوا أو {أن} مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل قال: لا تعبدوا إلا الله أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي من الله {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} أي أمركم بالتوحيد والاستغفار {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من عيشة واسعة ونعمة متتابعة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى أن يتوفاكم {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه شيئاً {وَإِن تَوَلَّوْاْ} وإن تتولوا {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يوم القيامة.

.تفسير الآيات (4- 8):

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
{إلى الله مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} فكان قادراً على إعادتكم {أَلآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يزورّون عن الحق وينحرفون عنه لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ومن أزورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} ليطلبوا الخفاء من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ازورارهم {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يتغطون بها أي يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام {جَعَلُواْ أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ} {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم فلا وجه لتوصلهم لي ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ونفاقهم غير نافق عنده قيل نزلت في المنافقين {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بما فيها.
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} تفضلاً لا وجوباً {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} مكانه من الأرض ومسكنه {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث كان مودعاً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة {كُلٌّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح يعني ذكرها مكتوب فيه مبين {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} وما بينهما {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من الأحد إلى الجمعة تعليماً للتأني {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي فوقه يعني ما كان تحته خلق قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض. قيل بدأه بخلق يا قوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ثم خلق ريحاً فأقر الماء على متنه ثم وضع عرشه على الماء وفي وقوف العرش على الماء أعظم اعتبار لأهل الأفكار {لِيَبْلُوَكُمْ} أي خلق السماوات والأرض وما بينهما للمتحن فيهما ولم يخلق هذه الأشياء لأنفسها {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أكثر شكراً وعنه عليه السلام: «أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فمن شكر وأطاع أثابه ومن كفر وعصى عاقبه» ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: {ليبلوكم} أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أشار بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث فإذا جعلوا سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره {ساحر} حمزة وعلي يريدون الرسول والساحر كاذب مبطل {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب} عذاب الآخرة أو عذاب يوم بدر {إلى أُمَّةٍ} إلى جماعة من الأوقات {مَّعْدُودَةً} معلومة أو قلائل والمعنى إلى حين معلوم {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَّيْسَ} العذاب {مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} ويوم منصوب ب {مصروفاً} أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم {وَحَاقَ بِهِم} وأحاط بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} العذاب الذي كانوا به يستعجلون وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء.