فصل: تفسير الآيات (98- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (98- 101):

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)}
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} أي يتقدمهم وهم على عقبه تفسيراً له وإيضاحاً أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى كما استعمل الغي في كل ما يذم ويقال قدَمه بمعنى تقدمه {فَأَوْرَدَهُمُ النار} أدخلهم. وجيء بلفظ الماضي لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به فكأنه قيل: يقدمهم فيوردهم النار لا محالة يعني كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه {وَبِئْسَ الورد} المورد و{المورود} الذي وردوه شبه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردة ثم قال: وبئس الورد المورود الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش والنار ضده {وَأُتْبِعُواْ في هذه} أي الدنيا {لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} أي يلعنون في الدنيا ويلعنون في الآخرة {بِئْسَ الرفد المرفود} رفدهم أي بئس العون المعان أو بئس العطاء المعطى {ذلك} مبتدأ {مِنْ أَنْبَاء القرى} خبر {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أبناء القرى المهلكة مقصوص عليك {مِنْهَا} من القرى {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب {وَمَا ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتكاب ما به أهلكوا {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ} فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله {التى يَدْعُونَ} يعبدون وهي حكاية حال ماضية {مِن دُونِ الله مِن شَئ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} عذابه و{لما} منصوب ب {ما أغنت} {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} تخسير. يقال: تب إذا خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران يعني وما أفادتهم عبادة غير الله شيئاً بل أهلكتهم.

.تفسير الآيات (102- 105):

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}
{وكذلك} محل الكاف الرفع أي ومثل ذلك الأخذ {أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلها {وَهِىَ ظالمة} حال من {القرى} {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} مؤلم شديد صعب على المأخوذ وهذا تحذير لكل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها فعلى كل ظالم أن يبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال {إِنَّ في ذَلِكَ} فيما قص الله من قصص الأمم الهالكة {لآيَةً} لعبرة {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} أي اعتقد صحته ووجوده {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة لأن عذاب الآخرة دل عليه {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} وهو مرفوع بمجموع كما يرفع فعله إذا قلت يجمع له الناس. وإنما آثر اسم المفعول على فعله لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم. وإنه أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه يجمعون للحساب والثواب والعقاب {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد.
{وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي اليوم المذكور. الأجل يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، والعد إنما هو للمدة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله {وما نؤخره} {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف، أو ما نؤخر هذا اليوم إلا لتنتهي المدة التي ضربناها لبقاء الدنيا {يَوْمَ يَأْتِ} وبالياء مكي، وافقه أبو عمرو ونافع وعلي في الوصل، وإثبات الياء هو الأصل إذ لا علة توجب حذفها، وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونظيره {مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] وفاعل {يأت} ضمير يرجع إلى قوله {يوم مجموع له الناس} لا اليوم المضاف إلى {يأت} و{يوم} منصوب باذكر أو بقوله {لاَ تَكَلَّمُ} أي لا تتكلم {نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي لا يشفع أحد إلا بإذن الله، {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] {فَمِنْهُمْ} الضمير لأهل الموقف لدلالة {لا تكلم نفس} عليه وقد مر ذكر الناس في قوله {مجموع له الناس} {شَقِيٌّ} معذب {وَسَعِيدٌ} أي ومنهم سعيد أي منعم.

.تفسير الآيات (106- 108):

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو أول نهيق الحمار {وَشَهِيقٌ} هو آخره، أو هما إخراج النفس ورده، والجملة في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار الذي في النار {خالدين فِيهَا} حال مقدرة {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} في موضع النصب أي مدة دوام السماوات والأرض، والمراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سماوات وأرضاً قوله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقيل: ما دام فوق وتحت ولأنه لابد لأهله الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء أو عرش وكل ما أظلك فهو سماء، أو هو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: ما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} هو استثناء من الخلود في عذاب النار، وذلك لأن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وأنواع من العذاب سوى عذاب النار، أو ب {ما شاء} بمعنى من شاء وهم قوم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيقال لهم الجهنميون وهم المستثنون من أهل الجنة أيضاً لمفارقتهم إياها بكونهم في النار أياماً، فهؤلاء لم يشقوا شقاوة من يدخل النار على التأبيد، ولا سعدوا سعادة من لا تمسه النار، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة رضي الله عنهم {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} بالشقي والسعيد {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} {سُعدوا} حمزة وعلي وحفص. سَعد لازم وسعَده يسعَده متعد {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} هو استثناء من الخلود في نعيم الجنة وذلك أن لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وهو رؤية الله تعالى ورضوانه، أو معناه إلا من شاء أن يعذبه بقدر ذنبه قبل أن يدخله الجنة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الاستثناء في الآيتين لأهل الجنة» ومعناه ما ذكرنا أنه لا يكون للمسلم العاصي الذي دخل النار خلود في النار حيث يخرج منها، ولا يكون له أيضاً خلود في الجنة لأنه لم يدخل الجنة ابتداء، والمعتزلة لما لم يروا خروج العصاة من النار ردوا الأحاديث المروية في هذا الباب {وكفى به إثماً مبيناً} [النساء: 50] {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: 25] وهو نصب على المصدر أي أعطوا عطاء. قيل: كفرت الجهمية بأربع آيات {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] لما قص الله قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحل بهم من نقمه وما أعد لهم من عذابه قال:

.تفسير الآية رقم (109):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}
{فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي فلا تشك بعدما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم ووعيداً. لهم ثم قال: {ما يعبدون إلاّ كَما يَعبدُ ءَابآؤهم من قَبلُ} يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلن بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية و{ما} في {مما} و{كما} مصدرية أو موصولة أي من عبادتهم وكعبادتهم، أو مما يعبدون من الأوثان ومثل ما يعبدون منها {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال من {نصيبهم} أي كاملاً.

.تفسير الآيات (110- 111):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة {فاختلف فِيهِ} آمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف في القرآن وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} إنه لا يعاجلهم بالعذاب {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين قوم موسى أو قومك بالعذاب المستأصل {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن أو من العذاب {مُرِيبٍ} من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي {وَإِنَّ كُلاًّ} التنوين عوض عن المضاف إليه يعني وإن كلهم أي وإن جميع المختلفين فيه {وإن} مشددة {لَّمّاً} مخفف: بصري وعلي، {ما} مزيدة جيء بها ليفصل بها بين لام {إن} ولام {لَيُوَفّيَنَّهُمْ} وهو جواب قسم محذوف، واللام في {لما} موطئة للقسم والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم {رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح. بعكس الأولى: أبو بكر، مخففان: مكي ونافع على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل، ولأن {إن} تشبه الفعل والفعل يعمل قبل الحذف وبعده نحو (لم يكن) (ولم يك) فكذا المشبه به مشددتان غيرهم وهو مشكل. وأحسن ما قيل فيه أنه من لممت الشيء جمعته لمَّا، ثم وقف فصار (لما) ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وجاز أن يكون مثل الدعوى والثروى وما نفيه ألف التأنيث من المصادر. وقرأ الزهري {وإن كلا لما} بالتنوين كقوله: {أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] وهو يؤيد ما ذكرنا والمعنى، وإن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل: وإن كلاً جميعاً كقوله {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقال صاحب الإيجاز: (لما) فيه معنى الظرف وقد دخل في الكلام اختصار كأنه قيل: وإن كلاً لما بعثوا ليوفينهم ربك أعمالهم. وقال الكسائي: ليس لي بتشديد (لما) علم. {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

.تفسير الآيات (112- 113):

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}
{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها {وَمَن تَابَ مَعَكَ} معطوف على المستتر في {استقم} وجاز للفاصل يعني فاستقم أنت وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصاً {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تخرجوا عن حدود الله {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو مجازيكم فاتقوه. قيل: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانت أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال: «شيبتني هود» {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} ولا تميلوا. قال الشيخ رحمه الله: هذا خطاب لأتباع الكفرة أي لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه {فَتَمَسَّكُمُ النار} وقيل: الركون إليهم الرضا بكفرهم. وقال قتادة: ولا تلحقوا بالمشركين. وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه فلما أفاق قيل له فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم! وعن الحسن جعل الله الدين بين لاءين {ولا تطغوا} {ولا تركنوا} وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّية هل يسقى شربة ماء فقال: لا، فقيل له: يموت قال: دعه يموت {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} حال من قوله {فتمسكم النار} أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة، ومعناه وما لكم من دون الله من أولياء يقدرون على منعكم من عذابه ولا يقدر على منعكم منه غيره {ثم لا تنصرون} ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم. ومعنى {ثم} الاستبعاد أي النصرة من الله مستبعدة.

.تفسير الآيات (114- 115):

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} غدوة وعشية {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} وساعات من الليل جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه. وصلاة الغدوة الفجر، وصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء، وانتصاب {طرفي النهار} على الظرف لأنهما مضافان إلى الوقت كقولك (أقمت عنده جميع النهار وأتيته نصف النهار وأوله وآخره). تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه {إِنَّ الحسنات يُذْهِبنَ السيئات} إن الصلوات الخمس يذهبن الذنوب وفي الحديث: «إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب» أو الطاعات. قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر {ذلك} إشارة إلى {فاستقم} فما بعده أو القرآن {ذكرى لِلذكِرِينَ} عظة للمتعظين. نزلت في عمرو بن غزية الأنصاري بائع التمر قال لامرأة: في البيت تمر أجود فدخلت فقبلها فندم فجاءه حاكياً باكياً فنزلت فقال عليه السلام: «هل شهدت معنا العصر» قال: نعم. قال: «هي كفارة لك» فقيل: أله خاصة؟ قال: «بل للناس عامة» {واصبر} على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} جاء بما هو مشتمل على جميع الأوامر والنواهي من قوله {فاستقم} إلى قوله {واصبر} وغير ذلك من الحسنات.

.تفسير الآيات (116- 118):

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)}
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} فهلا كان وهو موضوع للتحضيض ومخصوص بالفعل {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أولوا فضل وخير، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ومنه قولهم: (في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا) {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض} عجب محمداً عليه السلام وأمته أن لم يكن في الأمم التي ذكر الله إهلاكهم في هذه السورة جماعة من أولىِ العقل والدين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع أي ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. و(من) في {ممن أنجينا} للبيان لا للتبعيض لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} [الأعراف: 165] {واتبع الذين ظَلَمُواْ} أي التاركون للنهي عن المنكر، وهو عطف على مضمر أي قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على (نهوا) {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والترفه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونبذوه وراء ظهورهم {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} اعتراض وحكم عليهم بأنهم قوم مجرمون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} اللام لتأكيد النفي {بِظُلْمٍ} حال من الفاعل أي لا يصح أن يهلك الله القرى ظالماً لها {وَأَهْلُهَا} قوم {مُصْلِحُونَ} تنزيهًا لذاته عن الظلم. وقيل: الظلم الشرك أي لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً آخر {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي متفقين على الإيمان والطاعات عن اختيار ولكن لم يشأ ذلك. وقالت المعتزلة: وهي مشيئة قسر، وذلك رافع للابتداء فلا يجوز {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الكفر والإيمان أي ولكن شاء أن يكونوا مختلفين لما علم منهم اختيار ذلك.