فصل: تفسير الآيات (60- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (60- 62):

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وهو الغني عن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين {وَهُوَ العزيز} الغالب في تنفيذ ما أراد {الحكيم} في إمهال العباد {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض {مِن دَآبَّةٍ} قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين. عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما. {من دابة} من مشرك يدب {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} أي أجل كل أحد أو وقت تقتضيه الحكمة أو القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} مع ذلك أي ويقولون الكذب {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] و{أن لهم الحسنى} بدل من {الكذب} {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} {مفرِطون} نافع {مفرِّطون} أبو جعفر. فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلاناً وفرطته في طلب الماء إذا قدمته، أو منسيون متروكون من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته. والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي، والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها.

.تفسير الآيات (63- 66):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} أي أرسلنا رسلاً إلى من تقدمك من الأمم {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} من الكفر والتكذيب بالرسل {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} أي قرينهم في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور، أو الضمير لمشركي قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم، أو هو على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في القيامة {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} للناس {الذى اختلفوا فِيهِ} هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به {وَهُدًى وَرَحْمَةً} معطوفان على محل {لتبين} إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخلت اللام على {لتبيين} لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ في ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع. {وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهِ} وبفتح النون: نافع وشامي وأبو بكر. فال الزجاج: سقيته وأسقيته بمعنى واحد. ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة (المؤمنين) فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقال: {نسقيكم مما في بطونه} {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله. قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في الحلق، ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. و(من) الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها، والثانية لابتداء الغاية.

.تفسير الآيات (67- 68):

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)}
ويتعلق {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة {نسقيكم} قبله عليه وقوله {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء، أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، والضمير في {منه} يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير، والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً. ثم فيه وجهان: أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة، وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة. وقيل: السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر، ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام: «الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب» وبأخبار جمة {وَرِزْقًا حَسَنًا} هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك {إِنَّ في ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} وألهم {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا} هي (أن) المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول. قال الزجاج: واحد النحل نحلة كنخل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا، و{من} في {من الجبال} {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في {يعرشون} للناس، وبضم الراء: شامي وأبو بكر.

.تفسير الآية رقم (69):

{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} أي ابني البيوت ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها {فاسلكى سُبُلَ رَبِّكِ} فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها {ذُلُلاً} جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها، أو من الضمير في {فاسلكي} أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} لأنه من جملة الأدوية النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل. وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك، وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص، وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام: «اسقه عسلاً» فجاءه وقال: زاده شراً فقال عليه السلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً» فسقاه فصح. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل، ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه. وعن بعضهم أن رجلاً قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم. فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي، وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عجيب أمرها فيعلمون أن الله أودعها علماً بذلك وفطنها كما أعطى أولي العقول عقولهم.

.تفسير الآيات (70- 71):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
{والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم} بقبض أرواحكم من أبدانكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون {لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء {قَدِيرٌ} على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ في الرزق} أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم {فَمَا الذين فُضِّلُواْ} في الرزق يعني الملاك {بِرَآدِّي} بمعطي {رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق، وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم: أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟ {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} وبالتاء: أبو بكر، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة.

.تفسير الآيات (72- 75):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي من جنسكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً} جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت: «وإليك نسعى ونحفد».
واختلف فيه فقيل: هم الأختان على البنات وقيل: أولاد الأولاد. والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدماً يحفدون في مصالحكم ويعينونكم {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها {وَبِنعْمَتِ اللهِ} أي الإسلام {هُمْ يَكْفُرُونَ} أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السماوات والأرض شَيْئًا} أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئاً، فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به {شيئاً} أي لا يملك أن يرزق شيئاً، وإن أردت المرزوق كان {شيئًا} بدلاً منه أي قليلاً، و{من السماوات والأرض} صلة للرزق إن كان مصدراً أي لا يرزق من السماوات مطراً ولا من الأرض نباتاً، وصفة إن كان اسماً لما يرزق، والضمير في {ولاَ يَسْتَطِيعُونَ} لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ، والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} فلا تجعلوا لله مثلًا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء {أَنَّ الله يَعْلَمُ} أنه لا مثل له من الخلق {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول. ثم ضرب المثل فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا} هو بدل من {مثلاً} {مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَئ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرَّا وَجَهْرًا} مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه ما شاء. وقيد بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً إذ هما من عباد الله وب {لا يقدر على شيء} ليمتاز من المكاتب والمأذون فيهما يقدران على التصرف. و{من} موصوفة أي وحراً رزقناه ليطابق عبداً، أو موصولة {هَلْ يَسْتَوُونَ} جمع الضمير لإرادة الجمع أي لا يستوي القبيلان {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} بأن الحمد والعبادة لله ثم زاد في البيان فقال:

.تفسير الآيات (76- 77):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَئ} الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير {وَهُوَ} في نفسه {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} على سيرة صالحة ودين قويم، وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه، أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم {وَمَآ أَمْرُ الساعة} في قرب كونها وسرعة قيامها {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} كرجع طرف، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه {أَوْ هُوَ} أي الأمر {أَقْرَبُ} وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى، كونوا في كونها على هذا الاعتبار. وقيل: بل هو أقرب {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم دل على قدرته بما بعده فقال:

.تفسير الآيات (78- 80):

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)}
{والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم} وبكسر الألف وفتح الميم: عليّ اتباعاً لكسرة النون وبكسرهما: حمزة، والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في (أراق) فقيل (أهراق) وشذت زيادتها في الواحدة {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} حال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه، واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه. والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها {أَلَمْ يَرَوْاْ} وبالتاء: شامي وحمزة {إلى الطير مسخرات} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك {فِى جَوِّ السمآء} هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في قبضهن وبسطهن ووقوفهن {إِلاَّ الله} بقدرته، وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية {إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأن الخلق لا غنى به عن الخالق {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} هي قباب الأدم {تَسْتَخِفُّونَهَا} ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} بسكون العين: كوفي وشامي، وبفتح العين: غيرهم. والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال {وَيَوْمَ إقامتكم} قراركم في منازلكم، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر على أن اليوم بمعنى الوقت {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أي أصواف الضأن {وَأَوْبَارِهَا} وأوبار الإبل {وَأَشْعَارِهَآ} وأشعار المعز {أَثَاثاً} متاع البيت {ومتاعا} وشيئاً ينتفع به {إلى حِينٍ} مدة من الزمان.