فصل: تفسير الآيات (2- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (2- 4):

{وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
{وَآتَيْنَا مُوَسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب وهو التوراة {هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا} أي لا تتخذوا. وبالياء: أبو عمرو أي لئلا يتخذوا {مِن دُونِي وَكِيلاً} رباً تكلون إليه أموركم {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نصب على الاختصاص أو على النداء فيمن قرأ {لا تتخذوا} بالتاء على النهي أي قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح {إِنَّهُ} إن نوحاً عليه السلام {كَانَ عَبْداً شَكُوراً} في السراء والضراء، والشكر مقابلة النعمة بالثناء على المنعم، وروي أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم، وآية رشد الأبناء صحة الاقتداء بسنة الآباء وقد عرفتم حال الآباء هنالك فكونوا أيها الأبناء كذلك.
{وقضينا إلى بني إِسْرَآءِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} وأوحينا إليهم وحياً مقضياً أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة. والكتاب التوراة، ولتفسدن جواب محذوف أو جرى القضاء المبتوت مجرى القسم فيكون {لتفسدن} جواباً له كأنه قال وأقسمنا لتفسدن في الأرض {مَرَّتَيْنِ} أولاهما قتل زكرياء عليه السلام وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله، والأخرى قتل يحيى بن زكرياء عليهما السلام وقصد قتل عيسى عليه السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوَّاً كَبِيراً} ولتستكبرن عن طاعة الله من قوله {إِن فرعون علا في الأَرض} [القصص: 4] والمراد به البغي والظلم وغلبة المفسدين على المصلحين.

.تفسير الآيات (5- 7):

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي وعد الله عقاب أولاهما {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} سلطنا عليكم {عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدِ} أشداء في القتال يعني سنجاريب وجنوده أو بختنصر أو جالوت، قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} ترددوا للغارة فيها. قال الزجاج: الجوس طلب الشيء بالاستقصاء {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} وكان وعد العقاب وعداً لابد أن يفعل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} أي الدولة والغلبة {عَلَيْهِمْ} على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل: هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم. وقيل أعدنا لكم الدولة بملك طالوت وقتل داود جالوت {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} مما كنتم وهو تمييز جمع نفر وهو من ينفر مع الرجل من قومه.
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قيل اللام بمعنى (على) كقوله: {وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] والصحيح أنها على بابها لأن اللام للاختصاص والعامل مختص بجزاء عمله، حسنة كانت أو سيئة يعني أن الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن علي رضي الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} وعد المرة الآخرة بعثناهم {لِيَسوؤوا} أي هؤلاء {وُجُوهَكُمْ} وحذف لدلالة ذكره أولاً عليه أي ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها كقوله {سيئت وجوه الذين كفروا} [الملك: 27] {ليسوء} شامي وحمزة وأبو بكر، والضمير لله عز وجل أو للوعد أو للبعث. {لنسوء} علي. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} {ما علوا} مفعول ل {يتبروا} أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه، أو بمعنى مدة علوهم.

.تفسير الآيات (8- 14):

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
{عسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي {وَإِنْ عُدتُّمُ} مرة ثالثة {عُدْنَا} إلى عقوبتكم وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سلط عليهم المؤمنون إلى يوم القيامة {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} محبساً. يقال: للسجن محصر وحصير.
{إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها وهي توحيد الله والإيمان برسله والعمل بطاعته أو للملة أو للطريقة {ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} ويَبْشر حمزة وعلي {أَنَّ لَهُمْ} بأن لهم {أَجْراً كَبِيراً} أي الجنة {وَأَنَّ الَّذِينَ} وبأن الذين {لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا} أي أعددنا قلبت تاء {لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يعني النار. والآية ترد القول بالمنزلة بين المنزلتين حيث ذكر المؤمنين وجزاءهم، والكافرين وجزاءهم، ولم يذكر الفسقة {وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ} أي ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله وولده كما يدعو لهم بالخير، أو يطلب النفع العاجل وإن قل بالضرر الآجل وإن جل {وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً} يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله لا يتأنى فيه تأني المتبصر، أو أريد بالإنسان الكافر وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة، {وكان الإنسان عجولاً} يعني أن العذاب آتيه لا محالة فما هذا الاستعجال؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث قال: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [الأنفال: 32] الآية. فأجيب فضربت عنقه صبراً. وسقوط الواو من {يدع} في الخط على موافقة اللفظ {وَجَعَلْنَا الَّليْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّليْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود أي فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة أو جعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر. فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم نخلق له شعاعاً كشعاع الشمس فترى الأشياء به رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء {لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في معايشكم {وَلِتَعْلَمُوا} باختلاف الجديدين {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} يعني حساب الآجال ومواسم الأعمال، ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار {وَكُلَّ شَيْءٍ} مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بيناه بياناً غير ملتبس فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا.
{وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} عمله {فِي عُنُقِهِ} يعني أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل للعنق لا يفك عنه {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ} هو صفة ل {كتابا} ً.
يُلقَّاه شامي {مَنْشوراً} حال من {يلقاه} يعني غير مطوي ليمكنه قراءته أو هما صفتان للكتاب ونقول له {اقْرَأْ كِتَابَكَ} أي كتاب أعمالك وكلٌّ يُبعث قارئاً {كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ} الباء زائدة أي كفى نفسك {حَسِيباً} تمييز وهو بمعنى حاسب وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي. وضع موضع الشهيد فعدي(بعلى) لأن الشاهد يكفي المدعى ما أهمه، وإنما ذكر حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير إذا الغالب أن يتولى هذه الأمور الرجال فكأنه قيل: كفى نفسك رجلاً حسيباً، أو تؤوّل النفس بالشخص.

.تفسير الآيات (15- 18):

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}
{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فلها ثواب الاهتداء وعليها وبال الضلال {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي كل نفس حاملة وزراً فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى {وَمَا وَكُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} وما صح منا أن نعذب قوماً عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نرسل إليهم رسولاً يلزمهم الحجة {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} أي أهل قرية {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} متنعميها وجبابرتها بالطاعة عن أبي عمرو والزجاج {فَفَسَقُوا فِيهَا} أي خرجوا عن الأمر كقولك (أمرته فعصى) أو {أمرنا} كثرنا، دليله قراءة يعقوب أمرنا ومنه الحديث: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النسل {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} فوجب عليها الوعيد {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فأهلكناها إهلاكاً {وَكَمْ} مفعول {أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} بيان لكم {مِن بَعْدِ نُوحٍ} يعني عاداً وثموداً وغيرهما {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خِبِيراً} وإن أخفوها في الصدور {بَصِيراً} وإن أرخوا عليها الستور.
{مَن كَانَ يُريدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشآءُ} لا ما يشاء {لِمَن نُّرِيدُ} بدل من {له} بإعادة الجار وهو بدل البعض من الكل إذ الضمير يرجع إلى {من} أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد المعجل بمشيئته والمعجل له بإرادته وهكذا الحال، ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه، وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأما المؤمن التقي فقد اختار غنى الآخرة فإن أوتي حظاً من الدنيا فبها، وإلا فربما كان الفقر خيراً له {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} في الآخرة {يَصْلاهَا} يدخلها {مَذْمُوماً} ممقوتاً {مَّدْحُوراً} مطروداً من رحمة الله.

.تفسير الآيات (19- 23):

{وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}
{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسعى لَهَا سَعْيَهَا} هو مفعول به أو حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مصدق لله في وعده ووعيده {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} مقبولاً عند الله مثاباً عليه. عن بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا الآية: فإنه شرط فيها ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً: إرادة الآخرة والسعي فيما كلف والإيمان الثابت {كُلاً} كل واحد من الفريقين والتنوين عوض عن المضاف إليه وهو منصوب بقوله {نُّمِدُّ هَؤُلآءِ} بدل من {كلاً} أي نمد هؤلاء {وهؤلآء} أي من أراد العاجلة ومن أراد الآخرة {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} رزقه و{من} تتعلق بـ {نمد} والعطاء اسم للمعطي أي نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} ممنوعاً عن عباده وإن عصوا {انظُرْ} بعين الاعتبار {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في المال والجاه والسعة والكمال {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} روي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا. إنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر.
{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} فتصير جامعاً على نفسك الذم والخذلان. وقيل: مشتوماً بالإهانة محروماً عن الإعانة، إذ الخذلان ضد النصر والعون. دليله قوله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} [آل عمران: 160] حيث ذكر الخذلان بمقابلة النصر.
{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمراً مقطوعاً به {أَلاَّ تَعْبُدُوآ إِلاَّ إِيَّاهُ} (أن) مفسرة و{لا تعبدوا} نهي أو بأن لا تعبدوا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأحسنوا بالوالدين إحساناً أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} (إما) هي (أن) الشرطية زيد عليها (ما) تأكيداً لها ولذا دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت (إن) لم يصح دخولها لا تقول. (إن تكرمن زيداً يكرمك) ولكن (إما تكرمنه) {أَحَدُهُمَآ} فاعل {يبلغن} وهو في قراءة حمزة وعليّ {يبلغان} بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين {أَوْ كِلاهُمَا} عطف على {أحدهما} فاعلاً وبدلاً {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} مدني وحفص. {أفّ} َ مكي وشامي. {أفّ} ُ غيرهم. وهو صوت يدل على تضجر فالكسر على أصل التقاء الساكنين والفتح للتخفيف، والتنوين لإرادة التنكير أي أتضجر تضجراً، وتركه لقصد التعريف أي أتضجر التضجر المعلوم {وَلا تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر أخوان {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلاً كَرِيماً} جميلاً ليناً كما يقتضيه حسنِ الأدب أو هو أن يقول: يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: نحلني أبو بكر كذا، وفائدة {عندك} إنهما إذا صارا كلاً على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما (أف) فضلاً عما يزيد عليه، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها.

.تفسير الآيات (24- 25):

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} أي اخفض لهما جناحك كما قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} [الحجر: 88] فأضافه إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل {مِنَ الرَّحْمَةِ} من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. وقال الزجاج: وألن جانبك متذللاً لهما من مبالغتك في الرحمة لهما {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء، لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. والمراد بالخطاب غيره عليه السلام، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين، وقيل: إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» وروي: «يفعل البار ما شاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة» وعنه عليه السلام: «إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين» {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفِوسِكُمْ} بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما {إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ} قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة فجاز أن يكون هذا عاماً لكل من فرطت منه جناية، ثم تاب منها ويندرج تحت الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره.