فصل: ذكر أقول الأئمة الأربعة، وطبقاتهم، ومشايخهم، رحمهم الله تعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


ذكر أقول الأئمة الأربعة، وطبقاتهم، ومشايخهم، رحمهم الله تعالى

قال مالك بن أنس الإمام رحمه الله تعالى‏:‏ الناس ينظرون إلى ربهم عز وجل يوم القيامة بأعينهم‏.‏ وسئل رحمه الله عن قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏، ‏(‏القيامة 23‏)‏، أتنظر إلى الله عز وجل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال أشهب‏:‏ فقلت إن أقواما يقولون تنظر ما عنده‏.‏ قال‏:‏ بل تنظر إليه نظرا، وقد قال موسى‏:‏ ‏(‏رب أرني أنظر إليك قال لن تراني‏)‏، ‏(‏الأعراف 143‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏‏.‏ وذكر الطبراني وغيره أنه قيل لمالك‏:‏ إنهم يزعمون أن الله لا يرى، فقال مالك‏:‏ السيف السيف‏.‏ وقال أبو صالح كاتب الليث‏:‏ أملى علي عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وسألته عما جحدت الجهمية، فقال‏:‏ لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏، فقالوا‏:‏ لا يراه أحد يوم القيامة فجحدوا، والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم ‏(‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏)‏، ‏(‏القمر 25‏)‏، فورب السماء والأرض ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثوابا؛ لينضر بها وجوههم دون المجرمين، وتفلج بها حجتهم على الجاحدين، وهم ‏(‏عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ لا يرونه، كما يزعمون أنه لا يرى، ولا يكلمهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم‏.‏

وقال الأوزاعي- رحمه الله تعالى‏:‏ إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهما وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده الله أولياءه، حين يقول‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏ فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده الله تعالى أولياءه‏.‏ وقال الوليد بن مسلم‏:‏ سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤيا، فقالوا‏:‏ تمر بلا كيف‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ من لم يقل إن القرآن كلام الله، وأن الله يرى في الجنة، فهو جهمي‏.‏ ذكره الطبري، وذكر عنه ابن أبي حاتم أنه قال‏:‏ لا يصلي خلف الجهمي، والجهمي الذي يقول لا يرى ربه يوم القيامة‏.‏ وذكر ابن أبي حاتم، عن جرير بن عبد الحميد أنه ذكر حديث ابن سابط في الزيادة أنها النظر إلى وجه الله عز وجل، فأنكره رجل، فصاح به وأخرجه من مجلسه‏.‏

وذكر أيضا عن ابن المبارك أن رجلا من الجهمية قال له‏:‏ يا أبا عبد الرحمن ‏"‏ خدارا بآن جهان جون بيند ‏"‏ ومعناه كيف يرى الله يوم القيامة‏؟‏ فقال‏:‏ بالعين‏.‏ وقال وكيع بن الجراح- رحمه الله‏:‏ يراه تبارك وتعالى المؤمنون في الجنة، ولا يراه إلا المؤمنون‏.‏ وقال قتيبة بن سعيد- رحمه الله تعالى‏:‏ قول الأئمة المأخوذ به في الإسلام والسنة‏:‏ الايمان بالرؤية، والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية‏.‏

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد ذكرت عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية‏:‏ هي عندنا حق، رواها الثقات عن الثقات إلى أن صارت إلينا، إلا أنا إذا قيل لنا فسروها لنا، قلنا‏:‏ لا نفسر منها شيئا، ولكن نمضيها كما جاءت‏.‏ وقال عبد الوهاب الوراق‏:‏ سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال‏:‏ أحلف عليها أنها حق‏.‏ وقال محمد بن إدريس الشافعي- رحمه الله تعالى‏:‏ وقد جاءته رقعة من الصعيد، فيها‏:‏ ما تقول في قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ فقال الشافعي- رحمه الله تعالى‏:‏ لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا، قال الربيع‏:‏ فقلت يا أبا عبد الله، وبه تقول‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وبه أدين الله عز وجل‏.‏ ولو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله، لما عبد الله عز وجل‏.‏ رواه الحاكم، عن الربيع عنه، وروى الطبراني، وغيره، عن المزني قال‏:‏ سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏‏:‏ فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم تبارك وتعالى ويوم القيامة‏.‏

وقال محمد بن عبد الله بن الحكم‏:‏ سئل الشافعي رحمه الله تعالى عن الرؤية، فقال‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن الله عز وجل‏.‏ رواه أبو زرعة الرازي‏.‏

ولابن بطة عنه رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ دلالة على أن أولياء الله يرونه يوم القيامة بأبصارهم ووجوههم‏.‏ وقال إسحاق بن منصور‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ أليس ربنا تبارك وتعالى يراه أهل الجنة‏؟‏ أليس تقول بهذه الأحاديث‏؟‏ قال أحمد‏:‏ صحيح‏.‏ وقال الفضل بن زياد‏:‏ سمعت أبا عبد الله- وقيل له تقول بالرؤية- فقال‏:‏ من لم يقل بالرؤية فهو جهمي‏.‏ وقال‏:‏ سمعت أبا عبد الله، وبلغه عن رجل أنه قال‏:‏ إن الله لا يرى في الآخرة، فغضب غضبا شديدا، ثم قال‏:‏ من قال إن الله لا يرى في الآخرة، فقد كفر، عليه لعنة الله وغضبه من كان من الناس، أليس يقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ سمعت أحمد رحمه الله تعالى وذكر له عن رجل شيء في الرؤية، فغضب وقال‏:‏ من قال إن الله لا يرى فهو كافر، وقال أيضا‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقيل له في رجل يحدث بحديث، عن رجل، عن أبي العطوف أن الله لا يرى في الآخرة، فقال‏:‏ لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال‏:‏ أخزى الله هذا‏.‏ وقال أبو بكر المروزي‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ تعرف عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ إن استقر الجبل فسوف تراني، وإن لم يستقر فلا تراني في الدنيا ولا في الآخرة‏؟‏ فغضب أبو عبد الله غضبا شديدا حتى تبين في وجهه، وكان قاعدا والناس حوله، فأخذ نعله وانتعل، وقال‏:‏ أخزى الله هذا، هذا لا ينبغي أن يكتب‏.‏ ودفع أن يكون يزيد بن هارون رواه أو حدث به، وقال‏:‏ هذا جهمي كافر، خالف ما قاله الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏، أخزى الله هذا الخبيث‏؟‏ قال أبو عبد الله‏:‏ ومن زعم أن الله لا يرى في الآخرة، فقد كفر‏.‏

وقال أبو طالب‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة‏)‏، ‏(‏البقرة 210‏)‏، ‏(‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏)‏ فمن قال إن الله لا يرى، فقد كفر‏.‏ وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ من لم يؤمن بالرؤية، فهو جهمي، والجهمي كافر‏.‏

وقال يوسف بن موسى بن محمد القطان‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ أهل الجنة ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويكلمونه ويكلمهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ينظر إليهم، وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه، كيف شاءوا إذا شاءوا‏.‏ وقال حنبل بن إسحاق‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ القوم يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، ينكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم‏.‏ قال حنبل‏:‏ وسمعت أبا عبد الله، يقول‏:‏ من زعم أن الله لا يرى في الآخرة، فهو جهمي، فقد كفر ورد على الله وعلى الرسول، ومن زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، فقد كفر، ورد على الله قوله‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ فنحن نؤمن بهذه الأحاديث ونقر بها، ونمرها كما جاءت‏.‏ وقال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول‏:‏ فأما من يقول إن الله لا يرى في الآخرة، فهو جهمي‏.‏ قال أبو عبد الله‏:‏ وإنما تكلم من تكلم في رؤية الدنيا‏.‏ وقال إبراهيم بن زياد الصائغ‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يقول‏:‏ الرؤية من كذب بها، فهو زنديق‏.‏ وقال حنبل يقول‏:‏ الرؤية من كذب بها، فهو زنديق‏.‏ وقال حنبل‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ أدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئا، أحاديث الرؤية، وكانوا يحدثون بها على الجملة، يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين‏.‏

وقال أبو عبد الله- رحمه الله تعالى‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، وكلم الله موسى من وراء حجاب، فقال‏:‏ ‏(‏رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني‏)‏ فأخبر الله عز وجل أن موسى يراه في الآخرة، وقال‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ ولا يكون حجاب إلا لرؤية، أخبر الله- سبحانه وتعالى- أن من شاء الله ومن أراد يراه، والكفار لا يرونه‏.‏

قال حنبل‏:‏ وسمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏، والأحاديث التي تروى في النظر إلى الله تعالى حديث جابر بن عبد الله، وغيره‏:‏ تنظرون إلى ربكم، أحاديث صحاح‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏)‏ النظر إلى وجه الله عز وجل‏.‏ قال أبو عبد الله‏:‏ نؤمن بها، ونعلم أنها حق أحاديث الرؤية، ونؤمن بأن الله يرى، نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب‏.‏

قال‏:‏ وسمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ من زعم أن الله لا يرى في الآخرة، فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على الله أمره، يستتاب فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ قال حنبل‏:‏ قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية، قال‏:‏ هذه صحاح نؤمن بها، ونقر بها، وكل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أقررنا به‏.‏ قال أبو عبد الله‏:‏ إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ودفعناه، رددنا على الله أمره، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏)‏، ‏(‏الحشر 7‏)‏‏.‏

وقال عبد الله بن طاهر أمير خراسان لإسحاق بن راهويه‏:‏ يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي يروونها في النزول والرؤية، ما هن‏؟‏ فقال‏:‏ رواها من روى الطهارة، والغسل، والصلاة، والأحكام، وذكر أشياء، فإن يكونوا في هذا عدولا، وإلا فقد ارتفعت الأحكام، وبطل الشرع‏.‏ فقال‏:‏ شفاك الله كما شفيتني، أو كما قال‏.‏ ذكره الحاكم، وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه‏:‏ إن المؤمنين لم يختلفوا أن المؤمنين يرون خالقهم يوم القيامة، ومن أنكر ذلك، فليس بمؤمن عند المؤمنين‏.‏

وقال نعيم بن حماد للمزني‏:‏ ما تقول في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ أقول إنه كلام الله‏.‏ فقال‏:‏ غير مخلوق‏؟‏ فقال‏:‏ غير مخلوق‏.‏ قال‏:‏ وتقول أن الله يرى يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فلما افترق الناس قام إليه المزني، فقال‏:‏ يا أبا عبد الله، شهرتني على رءوس الناس‏.‏ فقال‏:‏ إن الناس قد أكثروا فيك، فأردت أن أبرئك‏.‏ وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام‏)‏، ‏(‏الأحزاب 44‏)‏‏:‏ أجمع أهل اللغة على أن اللقاء ها هنا لا يكون إلا معاينة ونظرا بالأبصار‏.‏ قلت‏:‏ واللقاء ثابت بنص القرآن هذه الآية وغيرها، وبالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل أحاديث اللقاء صحيحة، كحديث أنس في قصة بئر معونة‏:‏ إنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا‏.‏ وحديث عبادة، وعائشة، وأبي هريرة، وابن مسعود رضي الله عنهم‏:‏ من أحب لقاء الله أحب لقاءه‏.‏ وحديث أنس‏:‏ إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي ذر رضي الله عنه‏:‏ لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة‏.‏ وحديث أبي موسى‏:‏ من لقي الله لا يشرك به شيئا، دخل الجنة‏.‏ وغير ذلك من أحاديث اللقاء التي اطردت كلها بلفظ واحد‏.‏

فهذا كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة، وهذه أقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الهدى، كلها مجتمعة على أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى في الجنة، ويتلذذون بالنظر إلى وجهه الكريم، وذلك غاية النعيم، وأعلى الكرامات، وأفضل فضيلة، ولذا يذهلون بالنظر إليه عن كل ما هم فيه من النعيم، فنحن نؤمن بذلك كله، ونشهد الله تعالى، وملائكته، وأنبياءه، ورسله، والمؤمنين على ذلك، ونضرع إلى الله تعالى وندعوه بأسمائه الحسنى أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه تعالى في جنة عدن، وأن لا يحجبنا عنه فنكون من الذين أخبر عنهم أنهم عنه يومئذ لمحجوبون، نعوذ بالله من ذلك‏.‏

ومن جحد الرؤية، فهو كاذب على الله تعالى، مكذب بالصدق إذ جاءه، راد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مخالف لجماعة المؤمنين، كافر بلقاء الله عز وجل، متبع غير سبيل المؤمنين، وسيوليه الله ما تولى، ويصليه جهنم إن مات مصرا على جحوده، أليس في جهنم مثوى للكافرين‏؟‏ وقد وعد الله عز وجل أن المكذبين محجوبون عنه يوم القيامة فقال تعالى‏:‏ ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏)‏، وتقدم تفسير ابن المبارك قوله‏:‏ ‏(‏تكذبون‏)‏ بالرؤية‏.‏ وقد ورد حديث في وعيد منكري اللقاء، وهو متناول منكر الرؤية بلا شك ولا مرية‏.‏

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست فيها سحابة‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس فيه سحابة‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فوالذي نفس محمد بيده، لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، فيلقى العبد، فيقول‏:‏ أي + فل ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وترفع‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ فيقول‏:‏ أفظننت أنك ملاقي‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول‏:‏ أي فل ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس وترفع‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، أي رب‏.‏ فيقول‏:‏ أفظننت أنك ملاقي‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول‏:‏ يارب، آمنت بك، وبكتابك ورسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول‏:‏ ها هنا إذا، ثم يقال‏:‏ الآن نبعث شاهدا عليك، فيتفكر في نفسه من الذي يشهد علي، فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه‏.‏

ومن تراجم أئمة السنة على هذا الحديث‏:‏ باب وعيد منكري الرؤية، والدلالة منه واضحة منطوقا ومفهوما، ولله الحمد، ولا خلاف في ثبوت رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في دار الآخرة‏.‏

وكذا لا خلاف بينهم في أنه لا يراه أحد قبل الموت، وإنما وقع الخلاف بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم في ثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، كما سيأتي إن شاء الله بحث ذلك في موضعه، وبالله التوفيق‏.‏

وجوب الإيمان بالصفات الواردة في القرآن وصحيح السنة، وإقرارها كما أتت‏.‏

وكل ما له من الصفات *** أثبتها في محكم الآيات

أو صح في ما قاله الرسول *** فحقه التسليم والقبول‏.‏

‏(‏وكل ما‏)‏ ثبت ‏(‏له‏)‏ أي لله عز وجل ‏(‏من الصفات‏)‏ الثابتة التي ‏(‏أثبتها‏)‏ هو- سبحانه وتعالى- لنفسه، وأخبرنا باتصافه بها ‏(‏في محكم الآيات‏)‏ من كتابه العزيز مما ذكرناه فيما تقدم، ومما لم نذكر كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏)‏، ‏(‏البقرة 115‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏كل شيء هالك إلا وجهه‏)‏، ‏(‏القصص 88‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏)‏، ‏(‏الرحمن 26- 27‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‏)‏، ‏(‏الروم 39‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‏)‏، ‏(‏الليل 19‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا‏)‏، ‏(‏الإنسان 9‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏)‏، ‏(‏الكهف 21‏)‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏واصطنعتك لنفسي‏)‏، ‏(‏طه 41‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏)‏، ‏(‏آل عمران 28‏)‏، وقوله عن عيسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب‏)‏، ‏(‏المائدة 116‏)‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولتصنع على عيني‏)‏، ‏(‏طه 39‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏)‏، ‏(‏الطور 48‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا‏)‏، ‏(‏القمر 13‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏)‏، ‏(‏ص 75‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏بل يداه مبسوطتان‏)‏، ‏(‏المائدة 64‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه‏)‏، ‏(‏الزمر 67‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء‏)‏، ‏(‏الأعراف 145‏)‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والله يحب المتقين‏)‏، ‏(‏إن الله يحب المحسنين‏)‏، ‏(‏إن الله يحب الصابرين‏)‏، ‏(‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص‏)‏، ‏(‏الصف 4‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏والله لا يحب الظالمين‏)‏، ‏(‏والله لا يحب الفساد‏)‏، ‏(‏البقرة 205‏)‏، ‏(‏والله لا يحب كل مختال كفور‏)‏، ‏(‏لقمان 18‏)‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لقد رضي الله عن المؤمنين‏)‏، ‏(‏الفتح 18‏)‏، ‏(‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏)‏، ‏(‏البينة 8‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏)‏، ‏(‏التوبة 96‏)‏، ‏(‏ولا يرضى لعباده الكفر‏)‏، ‏(‏الزمر 7‏)‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏سخط الله عليهم‏)‏، ‏(‏المائدة 80‏)‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏كره الله انبعاثهم‏)‏، ‏(‏التوبة 46‏)‏، وقوله في اليهود‏:‏ ‏(‏غضب الله عليهم‏)‏، ‏(‏الممتحنة 13‏)‏، وفي قاتل النفس المحرمة‏:‏ ‏(‏فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه‏)‏، ‏(‏النساء 93‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى‏)‏، ‏(‏طه 81‏)‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ورحمتي وسعت كل شيء‏)‏، ‏(‏الأعراف 156‏)‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‏)‏، ‏(‏غافر 7‏)‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏، ‏(‏الأنعام 54‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وهو الغفور الرحيم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏فبما رحمة من الله لنت لهم‏)‏، ‏(‏آل عمران 159‏)‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏وهو القوي العزيز‏)‏، وقوله عن إبليس‏:‏ ‏(‏فبعزتك لأغوينهم أجمعين‏)‏، ‏(‏ص 82‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين‏)‏، ‏(‏الصافات 180‏)‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏الله نور السماوات والأرض‏)‏، ‏(‏النور 35‏)‏ الآية، وكقوله‏:‏ ‏(‏إن الله عزيز ذو انتقام‏)‏، ‏(‏المائدة 95‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنا من المجرمين منتقمون‏)‏، ‏(‏السجدة 22‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏فلما آسفونا انتقمنا منهم‏)‏، ‏(‏آل عمران 4‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون‏)‏، ‏(‏الحشر 23‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ملك الناس‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب‏)‏، ‏(‏آل عمران 26- 27‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم‏)‏، ‏(‏الأنعام 19‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء‏)‏، ‏(‏الحديد 4‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا‏)‏، ‏(‏مريم 64- 65‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم‏)‏، ‏(‏الحجر 49- 50‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير‏)‏، ‏(‏غافر 2‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏والله يقبض ويبسط‏)‏، ‏(‏البقرة 245‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏)‏، ‏(‏الأنعام 110‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وهو شديد المحال‏)‏، ‏(‏الرعد 13‏)‏، وغير ذلك من آيات الأسماء والصفات، صفات ذاته تعالى وأفعاله عز وجل‏.‏

‏(‏أو صح في ما قاله الرسول‏)‏ من الأحاديث النبوية الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم ، عن ربه عز وجل يقول الله تعالى‏:‏ أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سبحان الله العظيم وبحمده، عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه‏.‏ رواه مسلم والأربعة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وعن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏(‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم‏)‏، ‏(‏الأنعام 65‏)‏، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعوذ بوجهك، قال‏:‏ أو من تحت أرجلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعوذ بوجهك، قال‏:‏ أو يلبسكم شيعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا أيسر‏.‏ رواه البخاري، وغيره‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبي حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏.‏ رواه محمد بن إسحاق في سيرته‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأسألك لذة النظر إلى وجهك‏.‏ الحديث تقدم في الرؤية‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مثل المجاهد في سبيل الله ابتغاء وجه الله، مثل القائم المصلي حتى يرجع المجاهد‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص‏:‏ إنك لن تخلف بعدي، فتعمل عملا تريد وجه الله تعالى، إلا ازددت به رفعة ودرجة‏.‏ رواه البخاري وغيره من حديثه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا، فإن الله يقبل بوجهه إلى وجه عبده‏.‏ رواه ابن خزيمة والبيهقي من حديث الحارث الأشعري‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في صفة الدجال‏:‏ ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور‏.‏ الحديث متفق عليه من حديث أنس وابن عمر وغيرهما‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة‏:‏ يقول الناس لآدم‏:‏ أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده‏.‏ الحديث متفق عليه، عن أنس رضي الله عنهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يد الله ملأى لا تغضيها نفقة، سحاء الليل والنهار‏.‏ وقال‏:‏ أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه‏.‏ قال‏:‏ وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك‏.‏ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري‏.‏ وتصديقه صلى الله عليه وسلم اليهودي الذي قال له‏:‏ يا محمد، إن الله تعالى يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول‏:‏ أنا الملك‏.‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له‏.‏ متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما خلق الله الخلق، كتب بيده على نفسه‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى يفتح أبواب السماء في ثلث الليل الباقي، فيبسط يديه فيقول‏:‏ ألا عبد يسألني فأعطيه‏؟‏ الحديث تقدمت ألفاظه في إثبات النزول‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوة، حتى تكون مثل الجبل‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى، فقال آدم‏:‏ يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده‏.‏ الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل أسفل من ذلك‏.‏ رواه ابن خزيمة من حديث حكيم بن حزام، وأصله في الصحيح‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة خلق آدم‏:‏ فقال الله تبارك وتعالى ويداه مقبوضتان‏:‏ اختر أيهما شئت‏.‏ قال‏:‏ اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته‏.‏ الحديث أخرجه ابن خزيمة، والبيهقي من حديث أبي هريرة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة سؤال موسى عليه السلام ربه عز وجل عن منازل أهل الجنة، قال‏:‏ يا رب، فأخبرني بأعلاهم منزلة‏.‏ قال‏:‏ هذا أردت فسوف أخبرك‏.‏ قال‏:‏ غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث رواه البيهقي، وابن خزيمة من حديث المغيرة بن شعبة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يكفأها الجبار بيده‏.‏ الحديث متفق عليه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها‏.‏ رواه مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أحب الله العبد نادى جبريل‏:‏ إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء‏:‏ إن الله يحب فلانا فأحبوه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم‏.‏ رواه البخاري، عن أبي موسى رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب خيره‏.‏ الحديث‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل‏.‏ رواه أحمد، والبخاري من حديث ابن مسعود‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة‏.‏ متفق عليه من حديث أبي هريرة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة‏:‏ إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا بعده مثله‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أعان على خصومة في باطل، فقد باء بغضب من الله‏.‏ رواه أبو داود بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏ وفي رواية‏:‏ من خاصم في باطل، لم يزل في سخط الله حتى ينزع‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها زوجها‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإذا أبغض عبدا، دعا جبرائيل فيقول‏:‏ إني أبغض فلانا فأبغضه، قال‏:‏ فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء‏:‏ إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال‏:‏ فيبغضونه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض‏.‏ رواه مسلم‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏.‏ رواه مسلم، عن أنس رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب بئر معونة‏:‏ بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا‏.‏ وهو في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه، وهو من التنزيل المنسوخ تلاوة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة سبي هوازن‏:‏ الله أرحم بعباده من هذه بولدها‏.‏ أخرجاه من حديث عمر رضي الله عنه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، ونزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه‏.‏ أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

ولمسلم معناه من حديث سلمان رضي الله عنه، وفيه‏:‏ كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فإذا كان يوم القيامة، كملها بهذه الرحمة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون‏.‏ أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم ، عن أيوب عليه السلام‏:‏ وعزتك لا غنى بي عن بركتك‏.‏ أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن‏.‏ أخرجاه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك‏.‏ لمسلم والأربعة، عن عائشة‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يفلته‏.‏ قال‏:‏ ثم قرأ ‏(‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد‏)‏، ‏(‏هود 102‏)‏ أخرجاه من حديث أبي موسى رضي الله عنه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإن الله لم يك لينسى شيئا، وما كان ربك نسيا‏.‏ رواه البزار، وابن أبي حاتم، والطبراني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حلفه‏:‏ لا ومقلب القلوب‏.‏ أخرجاه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من قلب إلا وهو بين اصبعين من أصابع الرحمن، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه‏.‏ رواه أحمد، والشيخان، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها‏.‏ وفي صدره‏:‏ يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنة والنار‏:‏ لا يزال يلقى فيها- يعني‏:‏ النار- وتقول‏:‏ هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول‏:‏ قد قد بعزتك وكرمك‏.‏ وفي رواية ‏"‏ قط قط ‏"‏ بالطاء، أخرجاه من حديث أنس‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا شخص أغير من الله‏.‏ علقها البخاري بلفظ الترجمة، ووصلها الدارمي في مسنده‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة‏.‏ رواه البخاري من حديث المغيرة بن شعبة في الترجمة السابقة، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، يحتاج استقصاؤها إلى بسط طويل، وفيما ذكرنا كفاية، وما أشبه فسبيله سبيله‏.‏

‏(‏فحقه التسليم‏)‏ له ‏(‏والقبول‏)‏ الفاء واقعة في جواب كل ما، فنقول في ذلك‏:‏ ما ذكره الله تعالى عن الراسخين في العلم حيث قال‏:‏ ‏(‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏)‏، ‏(‏آل عمران 7- 8‏)‏، ولا نضرب كتاب الله بعضه ببعض، فنتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما يفعله الذين في قلوبهم زيغ، أعاذنا الله وعصمنا من ذلك بمنه وكرمه وفضله، إنه سميع مجيب‏.‏

نمرها صريحة كما أتت *** مع اعتقادنا لما له اقتضت

من غير تحريف ولا تعطيل *** وغير تكييف ولا تمثيل

بل قولنا قول أئمة الهدى *** طوبى لمن بهديهم قد اهتدى‏.‏

أي جميع الآيات والصفات وأحاديثها ‏(‏نمرها صريحة‏)‏ أي على ظواهرها ‏(‏كما أتت‏)‏ عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم- بنقل العدل عن العدل متصلا إلينا، كالشمس في وقت الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب، ‏(‏مع اعتقادنا‏)‏ إيمانا وتسليما ‏(‏لما له اقتضت‏)‏ من أسماء ربنا تبارك وتعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله كما يليق بعظمته وعلى الوجه الذي ذكره وأراده ‏(‏من غير تحريف‏)‏ لألفاظها كمن قال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وكلم الله موسى تكليما‏)‏، ‏(‏النساء 164‏)‏ أن التكليم من موسى، وأن لفظ الجلاله منصوب على المفعولية فرارا من إثبات الكلام، كما فعله بعض الجهمية والمعتزلة، وقد عرض ذلك على أبي بكر بن عياش، فقال أبو بكر‏:‏ ما قرأ هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وكلم الله موسى تكليما‏)‏ يعني برفع لفظ الجلالة على الفاعلية، وهو مجمع عليه بين القراء، روى ذلك بن مردويه، عن عبد الجبار بن عبد الله، عن ابن عياش- رحمه الله تعالى‏.‏

وروى ابن كثير أن بعض المعتزلة قرأ على بعض المشايخ‏:‏ ‏(‏وكلم الله موسى تكليما‏)‏، فقال له‏:‏ يا ابن اللخناء، كيف تصنع بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه‏)‏، ‏(‏الأعراف 143‏)‏ يعني أن هذا لا يقبل التحريف، ولا التأويل‏.‏

وكما قال جهم بن صفوان- لعنه الله- في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الرحمن على العرش استوى‏)‏، ‏(‏طه 5‏)‏ حيث قال‏:‏ لو وجدت سبيلا إلى حكها لحككتها، ولأبدلتها استولى‏.‏ وله في ذلك سلف اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه، حيث قال تعالى لهم‏:‏ ‏(‏وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة‏)‏، ‏(‏البقرة 58‏)‏، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا‏:‏ حنطة، فخالفوا ما أمرهم الله به من الدخول سجدا، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فكان جزاؤهم ما ذكره الله تعالى حيث يقول‏:‏ ‏(‏فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون‏)‏، ‏(‏البقرة 59‏)‏، وجعلهم الله عبرة لمن بعدهم، فمن فعل كمن فعلوا، فسبيله سبيلهم، كما مضت سنة الله بذلك‏:‏ ‏(‏أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر‏)‏، ‏(‏القمر 43‏)‏‏.‏

و‏(‏من غير تحريف‏)‏ لمعانيها كما فعله الزنادقة أيضا، كتأويلهم نفسه تعالى بالغير، وأن إضافتها إليه كإضافة بيت الله وناقة الله، فعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏)‏، ‏(‏آل عمران 28‏)‏ أي غيره، وقوله‏:‏ ‏(‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏، ‏(‏الأنعام 54‏)‏ أي على غيره، ويكون قوله تعالى عن عيسى ‏(‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏)‏، ‏(‏المائدة 116‏)‏ أي ولا أعلم ما في غيرك، ويكون قوله تعالى لموسى‏:‏ ‏(‏واصطنعتك لنفسي‏)‏، ‏(‏طه 41‏)‏ أراد واصطنعتك لغيري، وهذا لا يقوله عاقل، بل ولا يتوهمه ولا يقوله إلا كافر‏.‏

وكتأويلهم وجهه تعالى بالنفس مع جحودهم لها كما تقدم، فانظر لتناقضهم البين، وهذا يكفي حكايته عن رده، أما من أثبت النفس وأول الوجه بذلك، فيقال له‏:‏ إن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏)‏، ‏(‏الرحمن 27‏)‏، فذكر الوجه مرفرعا على الفاعلية، ولفظ رب مجرور بالإضافة، وذكر ذو مرفوعا بالتبعية نعتا لوجه، فلو كان الوجه هو الذات، لكانت القراءة ‏"‏ ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام ‏"‏ بالياء لا بالواو، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام‏)‏، ‏(‏الرحمن 78‏)‏، فخفضه لما كان صفة للرب، فلما كانت القراءة في الآية الأولى بالرفع إجماعا، تبين أن الوجه صفة للذات ليس هو الذات، ولما رأى آخرون منهم فساد تأويلهم بالذات أو الغير، لجئوا إلى طاغوت المجاز، فعدلوا إلى تأويله به أولى، وأنه كما يقال‏:‏ وجه الكلام، ووجه الدار، ووجه الثوب، ونحو ذلك، فتكلفوا الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم كل التكلف، ثم نكسوا على رءوسهم، فوقعوا فيما فروا منه‏.‏

فيقال لهم‏:‏ أليس الثوب والدار والكلام مخلوقات كلها، وقد شبهتم وجه الله تعالى بذلك‏؟‏ فأين الفكاك والخلاص، ولات حين مناص‏:‏ ‏(‏وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين‏)‏، ‏(‏فصلت 23‏)‏، وكما أولوا اليد بالنعمة، واستشهدوا بقول العرب‏:‏ لك يد عندي، أي نعمة، فعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى‏:‏ ‏(‏بل يداه مبسوطتان‏)‏، ‏(‏المائدة 64‏)‏ يعني نعمتاه، فلم يثبتوا لله إلا نعمتين، والله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏ألم تروا أن الله سخر لكم ما السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏)‏، ‏(‏لقمان 20‏)‏، ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏، ‏(‏ص 75‏)‏ أراد بنعمتي، فأي فضيلة لآدم على غيره على هذا التأويل، وهل من أحد لم يخلقه الله بنعمته‏؟‏ ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه‏)‏، ‏(‏الزمر 67‏)‏ أراد مطويات بنعمته، فهل يقول هذا عاقل‏؟‏

وقال آخرون منهم ‏"‏ بقوته ‏"‏ استشهادا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والسماء بنيناها بأيد‏)‏، ‏(‏الذاريات 147‏)‏ أي بقوة، فيقال لهم‏:‏ أليس كل مخلوق خلقه الله بقوة‏؟‏ فعلى هذا ما معنى قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏)‏ وأي فضل لآدم على إبليس إذ كل منهما خلقه الله بقوته‏؟‏ وما معنى قوله تعالى للملائكة‏:‏ لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان‏.‏ أفلم يخلق الملائكة بقوته، وأي فضل لآدم عليهم إن لم يكن خلقه الله بيده التي هي صفته، نبئوني بعلم إن كنتم صادقين‏.‏

وكما تألوا الاستواء بالاستيلاء، واستشهدوا ببيت مجهول مروي على خلاف وجهه، وهو ما ينسب إلى الأخطل النصراني‏:‏ قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق‏.‏

فعدلوا عن أكثر من ألف دليل من التنزيل إلى بيت ينسب إلى بعض العلوج، ليس على دين الإسلام، ولا على لغة العرب، فطفق أهل الأهواء يفسرون به كلام الله عز وجل ويحملونه عليه مع إنكار عامة أهل اللغة لذلك، وأن الاستواء لا يكون بمعنى الاستيلاء بوجه من الوجوه البتة‏.‏

وقد سئل ابن الأعرابي، وهو إمام أهل اللغة في زمانه، فقال‏:‏ العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل استولى، والله سبحانه لا مغالب له‏.‏ اهـ‏.‏ وقد فسر السلف الاستواء بعدة معان بحسب أداته المقترنة به، وبحسب تجريده عن الأداء، ولم يذكر أحد منهم أنه يأتي بمعنى الاستيلاء حتى انتحل ذلك أهل الأهواء والبدع، لا باشتقاق صغير ولا كبير، بل باستنباط مختلق وافق الهوى المتبع‏.‏

وقد بسط القول في رد ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الصواعق، وبين بطلانه من نيف وأربعين وجها، فليراجع‏.‏ وكما أولوا أحاديث النزول إلى سماء الدنيا بأنه ينزل أمره، فيقال لهم‏:‏ أليس أمر الله تعالى نازلا في كل وقت وحين، فماذا يخص السحر بذلك‏؟‏ وقال آخرون‏:‏ ينزل ملك بأمره، فنسب النزول إليه تعالى مجازا‏.‏ فيقال لهم‏:‏ فهل يجوز على الله تعالى أن يرسل من يدعو ربوبيته‏؟‏ وهل يمكن للملك أن يقول‏:‏ لا أسأل عن عبادي غيري‏؟‏ من ذا الذي يسألني فأعطيه‏؟‏ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له‏؟‏ وهل قصرت عبارة النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقول‏:‏ ينزل ملك بأمر الله، فيقول‏:‏ إن الله تعالى يقول لكم كذا، أو أمرني أن أقول لكم كذا، حتى جاء بلفظ مجمل يوهم بزعمكم ربوبية الملك، لقد ظننتم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ظن السوء، وكنتم قوما بورا‏.‏

وكما أولوا المجيء لفصل القضاء بالمجاز، فقالوا‏:‏ يجيء أمره، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك‏)‏، ‏(‏النحل 33‏)‏، فقالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله‏)‏، ‏(‏البقرة 210‏)‏، فقالوا‏:‏ هو من مجاز الحذف، والتقدير يأتي أمر الله‏.‏ فيقال لهم‏:‏ أليس قد اتضح ذلك غاية الاتضاح أن مجيء ربنا عز وجل غير مجيء أمره وملائكته، وأنه يجيء حقيقة، ومجيء أمره حقيقة، ومجيء ملائكته حقيقة، وقد فصل تعالى ذلك، وقسمه ونوعه تنويعا يمتنع معه الحمل على المجاز، فذكر تعالى في آية البقرة مجيئه ومجيء الملائكة، وكذا في آية الفجر، وذكر في النحل مجيء ملائكته ومجيء أمره، وذكر في آية الأنعام إتيانه، وإتيان ملائكته، وإتيان بعض آياته التي هي من أمره، ثم يقال‏:‏ ما الذي يخص إتيان أمره بيوم القيامة‏؟‏ أليس أمره آتيا في كل وقت، متنزلا بين السماء والأرض بتدبير أمور خلقه في كل نفس ولحظة‏:‏ ‏(‏يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن‏)‏ ‏(‏الرحمن 29‏)‏‏.‏

وتأولوا النظر إلى الله عز وجل في الدار الآخرة بالانتظار، قالوا‏:‏ إنه كقوله ‏(‏انظرونا نقتبس من نوركم‏)‏، ‏(‏الحديد 13‏)‏، فيقال لهم‏:‏ أليس إذا كان بمعنى الانتظار تعدى بنفسه لا يحتاج إلى أداة، كما في قوله‏:‏ انظرونا، ألم يضف الله تعالى النظر إلى الوجوه التي فيها الإبصار، ويعده بإلى التي تفيد المعاينة بالبصر عند جميع أهل اللغة ‏(‏قل أأنتم أعلم أم الله‏)‏، أولم يفسره النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤية الجلية عيانا بالأبصار في أكثر من خمسين حديثا صحيحا، حتى شبه تلك الرؤية برؤيتنا الشمس صحوا، ليس دونها سحاب، تشبيها للرؤية بالرؤية، لا للمرئى بالمرئي، ولم يزل الصحابة مؤمنين بذلك، ويحدثون به من بعدهم من التابعين، وينقله التابعون إلى من بعدهم، وهلم جرا، فنحن أخذنا ديننا عن حملة الشريعة، عن الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنتم عمن أخذتم‏؟‏ ومن شبهاتهم في نفي الرؤية استدلالهم بقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏لا تدركه الأبصار‏)‏، ‏(‏الأنعام 113‏)‏، وهذه الآية فيها عن الصحابة تفسيران‏:‏

أولهما‏:‏ لا يرى في الدنيا، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها، وبذلك نفت أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج‏.‏

ثانيهما‏:‏ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏لا تدركه‏)‏ أي لا تحيط به، فالنفي للإحاطة لا للرؤية، وهذا عام في الدنيا والآخرة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة من طريق صحيح، ولا ضعيف أنه أراد بذلك نفي الرؤية في الآخرة، فهذا تفسير الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل الكتاب، هل بينهم من أحد فسر الآية بما افتريتموه‏؟‏ ومن إفكهم ادعاؤهم معنى التأبيد في نفي ‏(‏لن تراني‏)‏، ‏(‏الأعراف 143‏)‏ حتى كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مختلقا لفظه‏:‏ لن تراني في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏ وهو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أئمة الحديث والسنة، ولم يقل أحد من أئمة اللغة العربية إن نفي ‏"‏ لن ‏"‏ للتأبيد مطلقا إلا الزمخشري من المتأخرين، قال ذلك ترويجا لمذهبه في الاعتزال وجحود صفات الخالق، جل وعلا‏.‏

وقد رده عليه أئمة التفسير كابن كثير، وغيره، ورده ابن مالك في الكافية حيث قال‏:‏ ومن يرى النفي بلن مؤبدا *** فقوله اردد وسواه فاعضدا‏.‏

والقائل لموسى ‏(‏لن تراني‏)‏ هو المتجلي للجبل حتى اندك، وهو الذي وعد المؤمنين ‏(‏الحسنى وزيادة‏)‏، وهو الذي قال‏:‏ ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏ فاتضح بذلك أن قوله لموسى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن تراني‏)‏ إنما أراد عدم استطاعته رؤية الله تعالى في هذه الدار؛ لضعف القوى البشرية فيها عن ذلك كما قرر تعالى ذلك بقوله- جل جلاله‏:‏ ‏(‏ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا‏)‏، ‏(‏الأعراف 143‏)‏ الآية، فإذا لم يثبت الجبل لتجلي الله تعالى فكيف يثبت موسى لذلك، وهو بشر خلق من ضعف‏؟‏ وأما في الآخرة فيخلق الله تعالى في أوليائه قوة مستعدة للنظر إلى وجهه عز وجل‏.‏

وبهذا تجتمع نصوص الكتاب والسنة، وتأتلف كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأما من اتبع هواه بغير هدى من الله، ونصب الخصام أو الجدال والمعارضة بين نصوص الكتاب والسنة، واتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، وضرب كتاب الله بعضه ببعض، وآمن ببعض وكفر ببعض، وشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله‏؟‏ أعاذنا الله وجميع المؤمنين من ذلك‏.‏

ولا يتأتي لأحد من أهل التأويل مراده، ولا يستقيم له تأويله إلا بدفع النصوص بعضها ببعض لا محالة ولا بد، فإن كتاب الله تعالى يصدق بعضه بعضا، لا يكذبه كما هو مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم تبين الكتاب وتوضحه وتفسره، وتدل عليه وترشد إليه، ولا يشك في ذلك ولا يرتاب فيه إلا من اتخذ إلهه هواه، وأدلى بشبهاته لغرض شهواته ‏(‏بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط‏)‏، ‏(‏البروج‏:‏ 19- 20‏)‏، وهذا دأبهم في جميع نصوص الأسماء والصفات، وإنما ذكرنا هذه الجملة مثالا وتنبيها على ما وراء ذلك، فمن عوفي فليحمد الله، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ‏(‏ولاتعطيل‏)‏ أي للنصوص بنفي ما اقتضته من صفات كمال الله تعالى ونعوت جلاله، فإن نفي ذلك من لازمه نفي الذات، ووصفه بالعدم المحض، إذ ما لا يوصف بصفة هو العدم، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في الجهمية‏:‏ إنهم يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله يعبد، وذلك لجحودهم صفات كماله، ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يتضمن التكذيب بالكتاب والسنة، والافتراء على الله كذبا ‏(‏فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم كذلك جزاء المحسنين ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون‏)‏، ‏(‏الزمر 32- 35‏)‏‏.‏

‏(‏وغير تكييف‏)‏ تفسير لكنه شيء من صفات ربنا تعالى كأن يقال استوى على هيئة كذا، أو ينزل إلى السماء بصفة كذا، أو تكلم بالقرآن على كيفية كذا، ونحو ذلك من الغلو في الدين، والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم يأذن به الله، ولا يليق بجلاله وعظمته، ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبا من العباد في الشريعة لبينه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بينه ووضحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علمهم كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏)‏، ‏(‏البقرة 254‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما‏)‏، ‏(‏البقرة 255‏)‏ فليؤمن العبد بما علمه الله تعالى، وليقف معه كهذه الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، وليمسك عما جهله، وليكل معناه إلى عالمه ككيفيتها ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏)‏، ‏(‏الحشر 7‏)‏‏.‏

‏(‏ولا تمثيل‏)‏ أي ومن غير تشبيه لشيء من صفات الله بصفات خلقه، فكما أنا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له ما أثبت لنفسه من الأسماء والصفات، ونعتقد تنزهه وتقدسه عن مماثلة المخلوقات ‏(‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏، ‏(‏الشورى 11‏)‏، وإذا كان القول على الله بلا علم في أحكام الشريعة، هو أقبح المحرمات كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركروا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏)‏، ‏(‏الأعراف 33‏)‏ فكيف بالقول على الله بلا علم في إلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته من تشبيه خلقه به أو تشبيهه لخلقه في اتخاذ الأنداد معه، وصرف العبادة لهم، وإن اعتقاد تصرفهم في شيء من ملكوته تشبيه للمخلوق بالخالق، كما أن تمثيل صفاته تعالى بصفات خلقه تشبيه للخالق بالمخلوق، وكلا التشبيهين كفر بالله عز وجل أقبح الكفر، وقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك كله في كتابه، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا‏)‏، ‏(‏مريم 65‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم‏)‏، ‏(‏النحل 60‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فلا تضربوا الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏)‏، ‏(‏النحل 74‏)‏، وغير ذلك من الآيات، بل جميع القرآن من أوله إلى خاتمته في هذا المعنى، بل لم يرسل الله تعالى رسله، ولم ينزل كتبه إلا بذلك ‏(‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏)‏، ‏(‏الأحزاب 4‏)‏‏.‏

‏(‏بل قولنا‏)‏ الذي نقوله ونعتقده، وندين الله به هو ‏(‏قول أئمة الهدى‏)‏ من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة كأبي حنيفة ومالك، والأوزاعي، والثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الأمهات الست، وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف وبلا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله عز وجل، فإن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة تفسيرها قراءتها، وقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمهما الله تعالى‏:‏ من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه مما وردت به الآيات الصريحة، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم مما ورد في الأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله وعظمته، ونفى عن الله النقائض، فقد سلك سبيل الهدى‏.‏

وقال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى‏:‏ آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وقال أيضا- رحمه الله‏:‏ لله تعالى أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه، فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وتثبت هذه الصفات وينفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه تعالى فقال سبحانه‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد- رحمه الله‏:‏ ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال‏:‏ فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصف بما وصف به نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضعه كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله- سبحانه وتعالى- يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة، ولا حد إلا ما وصف به نفسه‏:‏ سميع، بصير، لم يزل متكلما، عالما، غفورا، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب‏.‏

فهذه صفات وصف بها نفسه، لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏ثم استوى على العرش‏)‏ كيف شاء المشيئة إليه، والاستطاعة إليه ليس كمثله شيء، وهو خالق كل شيء، وهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، لا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة‏.‏ قلت له‏:‏ والمشبه ما يقول‏؟‏ قال‏:‏ من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله تعالى بخلقه، انتهى‏.‏

وكلام أئمة السنة في هذا الباب يطول، وقد تقدم كثير منه في الاستواء، والكلام، والنزول، والرؤية، وغير ذلك‏.‏

‏(‏طوبى لمن بهديهم قد اهتدى‏)‏ إذ هم خير القرون، وأعلم الأمة بشريعة الإسلام، وأولاهم باتباع الكتاب والسنة، واقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهم حفظ الله الدين على من بعدهم، فرحمهم الله، ورضي عنهم وأرضاهم، وألحقنا بهم سالمين غير مفتونين، إنه سميع الدعاء‏.‏

وسم ذا النوع من التوحيد *** توحيد إثبات بلا ترديد

قد أفصح الوحي المبين عنه *** فالتمس الهدى المنير منه‏.‏

‏(‏وسم ذا النوع‏)‏ والإشارة بذا إلى ما تقدم من قوله ‏(‏إثبات ذات الرب‏)‏ إلى هنا وما يدخل في ذلك من معاني الربوبية والأسماء والصفات ‏(‏من‏)‏ نوعي ‏(‏التوحيد‏)‏ المشار إليهما بقول‏:‏ وهو نوعان ‏(‏توحيد إثبات‏)‏ لاشتماله على إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء والمرسلين من معاني ربوبيته، ومقتضى أسمائه وصفاته، ونفي ما يناقض ذلك كما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى‏.‏ فنؤمن بالله تعالى، وبما أخبر به عن نفسه- سبحانه- على ألسنة رسله من صفات كماله، ونعوت جلاله بلا تكييف ولا تمثيل، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته، فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأبين دليلا من غيره، وقد عكس الزنادقة الأمر فنفوا عنه ما أثبته تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأثبتوا له ما نزه نفسه عنه من أضداد ما تقتضي أسماؤه وصفاته، وكذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فبعدا لقوم لا يؤمنون‏.‏

فائدة‏:‏ ‏[‏في الأسماء والصفات‏]‏

قال الحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى‏:‏ المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدا سبقهم بها، قالوا‏:‏ هذه الصفات تمر كما جاءت، ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران‏:‏ أحدهما أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف الصالح‏:‏ الاستواء معلوم، وكما قال سفيان وغيره‏:‏ قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف، وهذا هو مبدأ السلف مع اتفاقهم أيضا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته‏.‏

الثاني أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد، فإن الله تعالى فرد صمد، ليس له نظير، وإن تعددت صفاته، فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا، ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا، كيف سمع موسى كلامه‏؟‏ واللهِ إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة إلى بارئها، وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله، وكيف حياة النبيين الآن، وكيف شاهد النبي أخاه موسى يصلي في قبره قائما، ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار إليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته، وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق، وبأن اللوم بعد التوبة، وقبولها لا فائدة فيه، وكذلك نعجز عن وصف هيئتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني، فالله أعلى وأعظم، وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له أصلا ‏(‏آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون‏)‏ ‏(‏آل عمران 52‏)‏‏.‏ انتهى كلامه بحروفه‏.‏

قلت‏:‏ قوله من ذا الذي عاينه فنعته، هذا لا معنى له، فإن المؤمنين يرونه تعالى في الجنة عيانا بأبصارهم، ولا يستطيع أحد منهم نعته تعالى ‏(‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار‏)‏، ‏(‏ولا يحيطون به علما‏)‏، وكان حقه أن يقول‏:‏ من ذا الذي أحاط به علما فنعته‏.‏

وقوله الثاني أن ظاهرها الذي يتشكل في الخيال‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، قد قدمنا أن هذا التصور الفاسد هو الذي يعمل جهلة النفاة على ما صنعوا من النفي حين لم يفهموا من ظاهرها إلا ما يقوم بالمخلوق، ولم يتدبروا من هو الموصوف، فأساءوا الظن بالوحي، ثم قاسوا وشبهوا بعد أن فكروا وقدروا، ثم نفوا وعطلوا، فسحقا لأصحاب السعير‏.‏

‏(‏قد أفصح الوحي المبين‏)‏ من الكتاب والسنة، وكذلك الصحف الأولى عنه غاية الإفصاح، وشرحه الله تبارك وتعالى أكثر من شرح بقية الأحكام لعظم شأن متعلقه، ‏(‏فالتمس‏)‏ اطلب ‏(‏الهدي المنير‏)‏ أي من الوحي المبين؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا منه، ومن خرج عن الوحي مثقال ذرة، ضل وغوى ولابد، فإنا لا نعلم من علم الله- سبحانه- إلا ما علمنا هو، فنصدق بما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به رسله عنه، كما ننقاد ونسلم، ونمتثل لما أمر، ونجتنب ما نهى عنه وزجر، بل إن تأويل الأمر والنهي أخف جرما من تأويل معاني الربوبية والأسماء والصفات، والتكذيب بالبعث والنشور، والوعد والوعيد دون التكذيب بما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأخبرت عنه به رسله من ذلك مع أن جرم كل منهما عظيم‏.‏ أعاذنا الله وجميع المسلمين من الزيغ والضلال، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون‏.‏

لا تتبع أقوال كل مارد *** غاو مضل مارق معاند

فليس بعد رد ذا التبيان *** مثقال ذرة من الإيمان‏.‏

‏(‏لا تتبع‏)‏ أيها العبد ‏(‏أقوال كل مارد‏)‏ على بدعته وزندقته واتباع هواه ‏(‏غاو‏)‏ زائغ في دينه، مفتون في عقيدته ‏(‏مضل‏)‏ لغيره ‏(‏مارق‏)‏ من الإسلام ‏(‏معاند‏)‏ لنصوص الكتاب والسنة وما دلت عليه، مكذب بالكتاب وبما أرسل إليه به رسله، ‏(‏فليس‏)‏ لله يبقى ‏(‏بعد رد ذا التبيان‏)‏ الذي جاء في الكتاب والسنة من الآيات المحكمة الصريحة، والأحاديث الثابتة الصحيحة ‏(‏مثقال ذرة من الإيمان‏)‏ في قلب من رد ذلك؛ لأن الله تعالى هو الحق، وقوله الحق ‏(‏وماذا بعد الحق إلا الضلال‏)‏، ‏(‏يونس 32‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا‏)‏، ‏(‏الأنعام 48‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏)‏، ‏(‏غافر 4‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏)‏، ‏(‏فصلت 40‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون‏)‏، ‏(‏النمل 83- 85‏)‏، وهذه الآيات يدخل فيها كل مكذب بأي شيء من الكتاب، فكيف إذا كذب بصفات منزل الكتاب، بل جحد أن يكون الله تعالى تكلم بالكتاب، ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏

فصل‏:‏ الملاحدة خمس طوائف في توحيد المعرفة والإثبات

والملاحدة في توحيد المعرفة والإثبات فرق كثيرة وأشياع متفرقة، ولكن رءوسهم خمس طوائف‏:‏

الأولى سلبية محضا، يثبتون إثباتا هو عين النفي، ويصفون الباري تعالى بصفات العدم المحض الذي ليس هو بشيء البتة، وليس له عندهم حقيقة غير أنهم يقولون هو موجود، لا داخل العالم ولا خارجا عنه، ولا مباينا له ولا محايثا، وليس على العرش ولا غيره، ولا يثبتون له ذاتا ولا اسما، ولا صفة ولا فعلا، بل ذلك عندهم هو عين الشرك، وهذا هو الذي صرح به غلاة الجهمية، وقد كان قدماؤهم يتحاشون عنه ويتسترون منه، وكان السلف من أئمة الحديث يتفرسون فيهم ذلك، وأنهم يبطنونه ولا يبوحون به، وقد قدمنا عن جماعة من السلف قولهم في الجهمية‏:‏ إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله يعبد، ويقول بعضهم‏:‏ إنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء، ولكنه لم يصرح بذلك ويظهره، إلا ابن سينا صاحب الإشارات تلميذ الفارابي، وهو منسوب إلى أرسطو اليوناني، وهو يرجع إلى مذهب الدهرية الطبائعية في المعنى، وهو الذي نصره الملحد الكبير نصير الشرك الطواسي وأشباهه، قبحهم الله تعالى‏.‏

الطائفة الثانية‏:‏ الحلولية الذين يزعمون أن معبودهم في كل مكان بذاته، وينزهونه عن استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، ولم يصونوه عن أقبح الأماكن وأقذرها، وهؤلاء هم قدماء الجهمية الذين تصدى للرد عليهم أئمة الحديث كأحمد بن حنبل وغيره، ولهذا قال جهم بن صفوان لما ناظره السمنية في ربه وحار في ذلك، ففكر وقدر فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، فقال‏:‏ هو هذا الهواء الذي هو في كل مكان، وكذلك كان يقول كثير من أتباعه، ولم يكن ولا هم يريدون ذلك، وإنما كانوا يتوسلون به إلى السلب المحض والتعطيل الصرف، كما فهمه منهم أئمة الإسلام- رحمهم الله- كلما أفصحوا به من نفي أسماء الباري وصفاته وكلامه، ورؤيته في الدنيا والآخرة، وأفعاله وحكمته، وغير ذلك كما تقدم حكايته عنهم قريبا، ورد شبهاتهم الداحضة‏.‏

الطائفة الثالثة‏:‏ الاتحادية وهم القائلون‏:‏ إن الوجود بأسره هو الحق، وأن الكثرة وهم، بل جميع الأضداد المتقابلة، والأشياء المتعارضة، الكل شيء واحد، هو معبودهم في زعمهم، وهم طائفة ابن عربي الطائي صاحب الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وغيرهما مما حرف فيه الكلم عن مواضعه، وتلاعب فيه بمعاني الآيات، وأتى بكفر لا يشبه كفر اليهود الذين قالوا‏:‏ عزير ابن الله، ولا النصارى الذين قالوا‏:‏ المسيح ابن الله، وقالوا هو الله، وقالوا ثالث ثلاثة، فإن النصارى وأشباههم خصوا الحلول والاتحاد بشخص معين، وهؤلاء جعلوا الوجود بأسره على اختلاف أنواعه وتقابل أضداده مما لا يسوغ التلفظ بحكايته هو المعبود، فلم يكفر هذا الكفر أحد الناس، وكان هذا المذهب الذي انتحله ابن عربي، ونظمه ابن الفارض في تائيته ‏(‏نظم السلوك‏)‏، وأصل هذا المذهب الملعون انتحله ابن سبعين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولد له الإلحاد من ذلك وصنف فيه، وكان يعرف السيمياء، ويلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويعلم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب البدو، وكتاب الهو‏.‏ وقد أقام بمكة، واستحوذ على عقل صاحبها أبي نمى، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء يرتجي فيه الوحي أن ينزل عليه كما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة إن كان مات على ذلك، وكان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل من طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله، وقد نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، توفي يوم ثمانية وعشرين من شوال سنة تسع وستين وستمائة‏.‏

الطائفة الرابعة‏:‏ نفاة القدر، وهم فرقتان‏:‏

فرقة نفت تقدير الخير والشر بالكلية، وجعلت العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها، ولازم هذا القول أنهم هم الخالقون لأنفسهم؛ لأن في قولهم نفي تصرف الله في عباده، وإخراج أفعالهم عن خلقه وتقديره، فيكون تكونهم من التراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى آخر أطوار التخليق، هم بأنفسهم تطوروا، وبطبيعتهم تخلقوا، وهذا راجع إلى مذهب الطبائعية الدهرية الذين لم يثبتوا خالقا أصلا، كما قدمنا مناظرة أبي حنيفة لبعضهم، فأسلموا على يديه‏.‏ وفرقة نفت تقدير الشر دون الخير، فجعلوا الخير من الله، وجعلوا الشر من العبد، ثم منهم من ينفي تقدير الشر من أعمال العباد دون تقديره في المصائب، ومنهم من غلا فنفى تقدير الشر من المصائب والمعايب، وعلى كل حال فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقا، بل جعلوا العباد معه خالقين كلهم، ونفوا أن يكون الله هو المتفرد بالتصرف في ملكوته، وهذا راجع إلى مذهب المجوس الثنوية الذين أثبتوا خالقين‏:‏ خالقا للخير، وخالقا للشر، قبحهم الله تعالى‏.‏

الطائفة الخامسة‏:‏ الجبرية الذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا، ولا فعل له أصلا، بل إثبات الفعل للعبد هو عين الشرك عندهم، بل هو كالهاوي من أعلى إلى أسفل، وكالسعفة تحركها الريح لم يعمل باختياره طاعة ولا معصية، ولم يكلفه الله وسعه، بل حمله ما لا طاقة له به، ولم يخلق فيه اختيارا لأفعاله، ولا قدرة له عليها، بل الطاعة والعصيان من الأقوال والأعمال، هي عندهم عين فعل الله عز وجل، فرفعوا اللوم عن كل كافر، وفاسق وعاص، وأنه يعذبهم على نفس فعله لا على أعمالهم القبيحة، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات؛ لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا، بل لم يثبتوا الإرادة الشرعية البتة، ومن يثبتها منهم يقول في الطاعات أطعنا الإرادة الشرعية، وفي المعاصي التي سماها الله معاصي أطعنا الإرادة الكونية، وأما هم فلم يثبتوا معصية أصلا، بل أفعالهم جميعها حسنها، وقبيحها كلها عندهم طاعات على أصلهم هذا الفاسد، وفي ذلك رد منهم على الله تعالى أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفرضه على عباده جهاد الكفار وإقامة الحدود، بل في إرساله الرسل وإنزاله الكتب، فيجب عندهم تعطيل الشرائع بالكلية، والاحتجاج على نفيها بالقدر الكوني، ومحاربتها به، وإثبات الحجة على الله لكل كافر وفاسق وعاص، وهذا كفر لم يسبقهم إليه غير إمامهم إبليس اللعين، إذ يحتج على الله تعالى بحجتهم هذه فقال‏:‏ ‏(‏فبما أغويتني‏)‏، والعجب أن هذا المذهب المخذول موروث عن جهم بن صفوان مع تناقضه في إثبات أفعال الله عز وجل، فإنه لا يثبت لله تعالى فعلا يقوم بذاته أصلا، بل أفعاله خارجة عنه قائمة بغيره من المخلوقات، ثم ينقض ذلك بجعله أفعال العباد أفعال الله، وهذا تناقض بين لكل عاقل، فإن الفعل إنما يضاف إلى من قام به، والقول إلى من قاله، وكذا السمع والبصر والقدرة، وغيرها محال أن تضاف إلى غير من قامت به، ومحال أن يسمى فاعلا بدون فعل يقوم به، ولو ذهبنا نعد تشعب الفرق من هذه الطوائف ولوازم كل قول مما انتحلوه، لاحتاج إلى كتاب مفرد، وقد أفرد ذلك بالتصنيف غير واحد من الأئمة، وقد قدمنا البعض من ذلك، وذكرنا أمثلة من تحريفهم النصوص، وسيأتي الكلام على الدهرية في الإيمان بالبعث، وعلى نفاة القدر والغلاة فيه في باب القدر، والكلام على الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، وأشباههم في باب الإيمان والدين، والكلام على الروافض، والنواصب في باب ذكر الصحابة، وهذه الطوائف التي خالفت في توحيد المعرفة والإثبات مرجعها إلى ثلاث‏:‏ فالحلولية، والإتحادية، والسلبية، ومن في معناهم مرجعهم إلى الطبائعية الدهرية، والقدرية النفاة بجميع فرقهم مرجعهم إلى المجوس الثنوية، والجبرية الغلاة مرجعهم إلى النزعة الجهمية الإبليسية، وقد قدمنا قول المؤمنين أتباع الرسل مبسوطا بما فيه كفاية‏.‏

فصل‏:‏ والمخالفون لأهل السنة في القرآن سبع طوائف

ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج، وابن القيم في الصواعق، وهذا نصه‏:‏

قال رحمه الله تعالى‏:‏ فصل، اختلف أهل الأرض في كلام الله تعالى، فذهب ‏(‏الاتحادية‏)‏ القائلون بوحدة الوجود أن كل كلام في الوجود كلام الله نظمه ونثره، وحقه وباطله، سحره وكفره، والسب والشتم، والهجر والفحش، وأضداده كله عين كلام الله تعالى القائم به كما قال عارفهم‏:‏

وكل كلام في الوجود كلامه *** سواء علينا نثره ونظامه‏.‏

وهذا المذهب مبني على أصلهم الذي أصلوه، وهو أن الله- سبحانه- هو عين هذا الوجود، فصفاته هي صفات الله، وكلامه هو كلام الله، وأصل هذا المذهب إنكار مسألة المباينة والعلو، فإنهم لما أصلوا أن الله تعالى غير مباين لهذا العالم المحسوس، صاروا بين أمرين لا ثالث لهما إلا المكابرة‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه معدوم لا وجود له، إذ لو كان موجودا لكان إما داخل العالم، وإما خارجا عنه، وهذا معلوم بالضرورة، فإنه إذا كان قائما بنفسه، فإما أن يكون مباينا للعالم أو محايثا له، إما داخلا فيه وإما خارجا عنه‏.‏

الأمر الثاني‏:‏ أن يكون هو عين هذا العالم، فإنه يصح أن يقال فيه حينئذ أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينا له ولا حالا فيه، إذ هو عينه، والشيء لا يباين نفسه ولا يحايثها، فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده، والحكم عليه بأنه معدوم، ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا مباين له ولا محايث، ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا خلفه ولا أمامه فرارا إلى ما لا يسيغه عقل، ولا تقبله فطرة، ولا تأتي به شريعة، ولا يمكن أن يقر برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون ساريا فيه حالا فيه، فهو في كل مكان بذاته، وهو قول جميع الجهمية الأقدمين‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يكون وجوده في الذهن لا في الخارج، فيكون، وجوده- سبحانه- وجودا عقليا، إذ لو كان موجودا في الأعيان، لكان إما عين هذا العالم أو غيره، ولو كان غيره لكان إما بائنا عنه أو حالا فيه، وكلاهما باطل، فثبت أنه عين هذا العالم، فله حينئذ كل اسم حسن وقبيح، وكل صفة كمال ونقص، وكل كلام حق وباطل، نعوذ بالله من ذلك‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ مذهب ‏(‏الفلاسفة‏)‏ المتأخرين أتباع أرسطو، وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم‏:‏ إن كلام الله فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى‏:‏ قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير‏.‏ فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عن غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس، فتتصور المعقول صورا نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان، وهو عندهم كلام الله، ولا حقيقة له في الخارج، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية‏.‏

قالوا‏:‏ وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها، وتشكيل تلك الصورة العقلية لعين الرائي، فيرى الملائكة ويسمع خطابهم، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج، فهذا أصل هؤلاء في إثبات كلام الرب، وملائكته، ورسله، وأنبيائه، والأصل الذي قادهم إلى هذا عدم الإقرار بالرب الذي عرفت به الرسل ودعت إليه، وهو القائم بنفسه المباين لخلقه العالي فوق سمواته فوق عرشه الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته العالم بجميع المعلومات القادر على كل شيء، فهم أنكروا ذلك كله‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ مذهب ‏(‏الجهمية‏)‏ النفاة لصفات الرب تعالى القائلين‏:‏ إن كلامه مخلوق ومن بعض مخلوقاته، فلم يقم بذاته- سبحانه، فاتفقوا على هذا الأصل، واختلفوا في فروعه‏.‏

قال الأشعري في كتاب المقالات‏:‏ اختلفت المعتزلة في كلام الله تعالى هل هو جسم أو ليس بجسم، وفي خلقه على ستة أقاويل‏:‏ فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن كلام الله جسم، وأنه مخلوق، وأنه لا شيء إلا جسم‏.‏

والفرقة الثانية‏:‏ زعموا أن كلام الخلق عرض، وهو حركة؛ لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة، وأن كلام الخالق جسم، وأن ذلك الجسم صوت منقطع مؤلف مسموع، وهو فعل الله وخلقه، وهذا قول أبي الهذيل وأصحابه، وأحال النظام أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو مكانين في وقت واحد، وزعم أنه في المكان الذي خلق فيه‏.‏

والفرقة الثالثة من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق لله، وأنه عرض، وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد إذا تلاه تال، فهو يوجد مع تلاوته، وإذا كتبه وجد مع كتابته، وإذا حفظه وجد مع حفظه، وهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ، والكتابة، ولا يجوز عليه الانتقال والزوال‏.‏

والفرقة الرابعة يزعمون أن كلام الله عز وجل عرض، وأنه مخلوق، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعموا أن المكان الذي خلقه الله تعالى فيه محال انتقاله وزواله منه ووجوده في غيره، وهذا قول جعفر بن حرب وأكثر البغداديين‏.‏

الفرقة الخامسة أصحاب معمر يزعمون أن القرآن عرض، والأعراض عندهم قسمان‏:‏ قسم منهما يفعله الأحياء، وقسم منهما يفعله الأموات، ومحال أن يكون ما يفعله الأموات فعلا للأحياء، والقرآن مفعول، وهو عرض، ومحال أن يكون الله فعله في الحقيقة؛ لأنهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله، وزعموا أن القران فعل للمحل الذي يسمع منه إذا سمع من الشجرة فهو فعل لها، وحيث سمع فهو فعل المحل الذي حل فيه‏.‏

الفرقة السادسة يزعمون أن كلام الله عرض مخلوق، وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد، وهذا قول الإسكافي‏.‏ واختلفت المعتزلة في كلام الله هل يبقى‏؟‏ فقالت فرقة منهم‏:‏ يبقى بعد خلقه‏.‏ وقالت فرقة أخرى‏:‏ لا يبقى، وإنما يوجد في الوقت الذي خلقه الله ثم يعدم بعد ذلك‏.‏ وهذا المذهب هو من فروع ذلك الأصل الباطل المخالف لجميع كتب الله ورسله، ولصريح المعقول والفطر من جحد صفات الرب وتعطيل حقائق أسمائه وصفاته، ونفي قيام الأفعال به، فلما أصلوا أنه لا يقوم به وصف ولا فعل، كان من فروع هذا الأصل أنه لم يتكلم بالقرآن ولا بغيره، وأن القرآن مخلوق، وطرد ذلك إنكار ربوبيته وإلهيته، فإن ربوبيته- سبحانه- إنما تتحقق بكونه فعالا مدبرا متصرفا في خلقه، يعلم ويقرر، ويريد ويسمع ويبصر، فإذا انتفت عنه صفة الكلام، انتفى الأمر والنهي ولوازمهما، وذلك ينفي حقيقة الإلهية، فطرد ما أصلوه أن الله- سبحانه- ليس برب العالمين ولا إله، فضلا عن أن يكون لا رب غيره، ولا إله سواه‏.‏

المذهب الرابع مذهب ‏(‏الكلابية‏)‏ أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب أن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة، وأنه لازم لذات الرب كلزوم الحياة والعلم، وأنه لا يسمع على الحقيقة، والحروف والأصوات حكاية له دالة عليه، وهي مخلوقة، وهي أربعة معاني في نفسه‏:‏ الأمر، والنهي، والخبر، والاستفهام، فهي أنواع لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع، وذلك المعنى هو المتلو المقروء، وهو غير مخلوق، والأصوات والحروف هي تلاوة العباد، وهي مخلوقة‏.‏ وهذا المذهب أول من يعرف أنه قال به ابن كلاب، وبناه على أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم، والحروف والأصوات حادثة، فلا يمكن أن تقوم بذات الرب تعالى لأنه ليس محلا للحوادث، فهي مخلوقة منفصلة عن الرب، والقرآن اسم لذلك المعنى، وهو غير مخلوق‏.‏

المذهب الخامس مذهب ‏(‏الأشعري‏)‏ ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب تعالى؛ لأنه ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا له أبعاض، ولا له أجزاء، وهو عين الأمر، وعين النهي، وعين الخبر، وعين الاستخبار، الكل واحد، وهو عين التوراة، وعين الإنجيل، والقرآن والزبور، وكونه أمرا ونهيا، وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد لا أنواع له، فإنه لا ينقسم بنوع ولا جزء، وكونه قرآنا وتوراة وإنجيلا تقسيم للعبارات عنه لا لذاته، بل إذا عبر عن ذلك المعنى بالعربية، كان قرآنا، وإذا عبر عنه بالعبرانية، كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، والمعنى واحد، وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا يسميها حكاية، وهي خلق من المخلوقات، وعنده لم يتكلم الله بهذا الكلام العربي، ولا سمع من الله، وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة، ويجوز أن يرى ويشم ويذاق ويلمس، ويدرك بالحواس الخمس، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود، فكل وجود يصح تعلق الإدراكات كلها به كما قرره في مسألة رؤية من ليس في جهة الرائي، وأنه يرى حقيقة، وليس مقابلا للرائي‏.‏ هذا قولهم في الرؤية، وذلك قولهم في الكلام‏.‏

والبلية العظمى نسبة ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه جاء بهذا، ودعا إليه الأمة، وأنهم أهل الحق، ومن عداهم أهل الباطل، وجمهور العقلاء يقولون‏:‏ إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه، وهو لا يتصور إلا كما تتصور المستحيلات الممتنعات، وهذا المذهب مبني على مسألة إنكار قيام الأفعال، والأمور الإختيارية بالرب تعالى، ويسمونها مسألة حلول الحوادث، وحقيقتها إنكار أفعاله وربوبيته وإرادته ومشيئته‏.‏

التنبيه إلى أن الأشعرية غير الأشعري

وأقول والحق يقال‏:‏ لا نشك أن ابن القيم هذا، وشيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى من أعلم من صنف في المقالات والملل والنحل، وأدراهم بمواردها ومصادرها، وأبصرهم برد الباطل منها وإدحاضه، وأوفاهم تقريرا لمذهب السلف أهل السنة والجماعة، وأشدهم تمسكا به ونصرة له، وأكملهم تحريرا لبراهينه عقلا ونقلا، وأكثرهم اشتغالا بهذا الباب وتنقيبا عن عامل البدع فيه، واجتثاثا لأصولها، ولكن هذا الذي ذكره- رحمه الله تعالى، عن الأشعري في مسألة القرآن هو الذي وجدناه عمن ينتسب إلى الأشعري، ويسمون أنفسهم أهل الحق، ويقرون ذلك ويكررونه في كتبهم، ويناظرون عليه‏.‏

وأما أبو الحسن الأشعري نفسه رحمه الله تعالى فالذي قرره في كتابه ‏(‏الإبانة‏)‏ الذي هو من آخر ما صنف هو قول أهل الحديث ساقه بحروفه، وجاء به برمته، واحتج فيه ببراهينهم العقلية والنقلية، ثم نقل أقوال الأئمة في ذلك كأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، والشافعي، وأصحابه، والحمادين، والسفيانين، وعبد العزيز بن الماجشون، والليث بن سعد، وهشام، وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، وسعد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي بكر بن عياش، ووكيع، وأبي عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر بن المفضل، وعبد الله بن داود، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، وعلى بن عاصم، وأحمد بن يونس، وأبي نعيم، وقبيصة بن عقبة، وسليمان بن داود، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم، ولولا خوف الإطالة لسقنا فصول كاملة بحروفه، فإنه وإن أخطأ في تأويل بعض الآيات، وأجمل في بعض المواضع، فكلامه يدل على أنه مخالف للمنتسبين إليه من المتكلمين في مسألة القرآن، كما هو مخالف لهم في إثباته الاستواء والنزول، والرؤية والوجه، واليدين، والغضب والرضا، وغير ذلك، وقد صرح في مقالاته بأنه قائل بما قال الإمام أحمد بن حنبل وأئمة الحديث، معتقد ما هم عليه، مثبت لما أثبتوه، محرم ما أحدث المتكلمون من تحريف الكلم عن مواضعه، وصرف اللفظ عن ظاهره، وإخراجه عن حقيقته، وبالجملة فبينه وبين المنتسبين إليه بون بعيد، بل هو بريء منهم، وهم منه برآء، والموعد الله، وكفى بالله حسيبا، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال ابن القيم- رحمه الله تعالى‏:‏ المذهب السادس مذهب ‏(‏الكرامية‏)‏، وهو أنه متعلق بالمشيئة والقدرة، قائم بذات الرب تعالى، وهو حروف وأصوات مسموعة، وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو عندهم متكلم بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فاعلا، كما ألزموا به الكرامية في مسألة الكلام، فهو لازم لهم في مسألة الفعل، والكرامية أقرب إلى الصواب منهم، فإنهم أثبتوا كلاما وفعلا حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل، وجعلوا لها أولا فرارا من القول بحوادث لا أول لها، ومنازعوهم أبطلوا حقيقة الكلام والفعل، وقالوا لم يقم به فعل ولا كلام البتة، وأما من أثبت منهم معنى قائما بنفسه- سبحانه- فلو كان ما أثبته مفعولا، لكان من جنس الإرادة والعلم لم يكن شيئا خارجا عنهما، فهم لم يثبتوا لله كلاما ولا فعلا، وأما الكرامية فإنهم جعلوه متكلما بعد أن لم يكن متكلما، كما جعله خصومهم فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا‏.‏

المذهب السابع مذهب ‏(‏السالمية‏)‏ ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة، وأهل الحديث أنه صفة قديمة قائمة بذات الرب تعالى لم يزل ولا يزال، لا يتعلق بقدرته ومشيئته، ومع ذلك هو حروف وأصوات، وسور وآيات، سمعه جبريل منه، وسمعه موسى بلا واسطة، ويسمعه- سبحانه- من يشاء، وإسماعه نوعان‏:‏ بواسطة، وبلا واسطة، ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضا، بل هي مقترنة الباء مع السين مع الميم في آن واحد، ثم لم تكن معدومة في وقت من الأوقات، ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته- سبحانه- قيام صفة الحياة والسمع والبصر، وجمهور العقلاء قالوا‏:‏ إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه، والبراهين العقلية، والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها، وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل، والعجب أنها هي الدائرة بين فضلاء العالم، لا يكادون يعرفون غيرها‏.‏

ثم ذكر رحمه الله تعالى قول أتباع الرسل، وأطال على ذلك، ثم مسألة تكلم العباد بالقرآن، وساق فيه كثيرا من كلام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وفي كتاب خلق أفعال العباد؛ لأنه من أحسن الأئمة توضيحا وتفصيلا في هذه المسألة، لما جرى عليه من المحنة في شأنها، ثم ذكر الكلام على حروف المعجم، وساق فيه أقوال الأئمة، ثم ذكر اللفظية في أثناء ذلك والواقفة، ثم ذكر فصلا في الكتابة له في الرق وغيره، ثم فصلا في السماع، ثم فصلا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أول من أظهر إنكار أن الله- سبحانه- يتكلم بصوت في أثناء المئة الثالثة ابن كلاب، وأنكر عليه ذلك أئمة الحديث كأحمد والبخاري وغيرهما، وفي غضون هذه الفصول أبحاث نفسية لا يستغنى عنها فلتراجع منه‏.‏

ثم قال- رحمه الله تعالى‏:‏ ‏(‏فصل‏)‏ منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب تعالى هل يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته‏؟‏ على قولين، فقالت طائفة‏:‏ كلامه بغير مشيئته واختياره، ثم انقسم هؤلاء أربع فرق‏.‏ قالت فرقة‏:‏ هو فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة، فتكلمت به كما يقول ابن سينا وأتباعه، وينسبونه إلى أرسطو‏.‏

وفرقة قالت‏:‏ بل هو معنى قائم بذات الرب تعالى هو به متكلم، وهو قول الكلابية ومن تبعهم، وانقسم هؤلاء فرقتين‏:‏ فرقة قالت‏:‏ هو معان متعددة في أنفسها أمر ونهي، وخبر واستخبار، ومعنى جامع لهذه الأربعة‏.‏ وفرقة قالت‏:‏ بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض، وفرقة قالت‏:‏ كلامه هو هذه الحروف، والأصوات خلقها خارجة عن ذاته، فصار بها متكلما، وهذا قول المعتزلة، وهو في الأصل قول الجهمية، تلقاه عنهم أهل الإعتزال فنسب إليهم‏.‏ وفرقة قالت‏:‏ يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته- سبحانه- كما يقوم به سائر أفعاله لكنه حادث النوع، وعندهم أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما، كما قاله من لم نصفهم من المتكلمين أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا، فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك في الفعل المنفصل، وهذا قول الكرامية‏.‏

وفرقة قالت‏:‏ يتكلم بمشيئته، وكلامه- سبحانه- هو الذي يتكلم به الناس كله، حقه وباطله، وصدقه وكذبه كما يقوله طوائف الاتحادية‏.‏ وقال أهل الحديث والسنة‏:‏ إنه لم يزل- سبحانه- متكلما إذا شاء، ويتكلم بمشيئته، ولم تتحدد له هذه الصفة، بل كونه متكلما بمشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة، وهو بائن عن خلقه بذاته وصفاته وكلامه، ليس متحدا بهم ولا حالا فيهم، واختلفت الفرق هل يسمع كلام الله على الحقيقة‏؟‏ + فقالت فرقة‏:‏ لا يسمع كلامه على الحقيقة، إنما تسمع حكايته والعبارة عنه، وهذا قول الكلابية ومن تبعهم، وقالت بقية الطوائف‏:‏ بل يسمع كلامه حقيقة‏.‏ ثم اختلفوا، فقالت فرقة‏:‏ يسمعه كل أحد من الله تعالى، وهذا قول الإتحادية‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل لا يسمع إلا من غيره، وعندهم أن موسى لم يسمع كلام الله منه، فهذا قول الجهمية والمعتزلة، وقال أهل السنة والحديث‏:‏ يسمع كلامه- سبحانه- منه تارة بلا واسطة كما سمعه موسى وجبريل وغيرهما، وكما يكلم عباده يوم القيامة، ويكلم أهل الجنة، ويكلم الأنبياء في الموقف، ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من جبريل تبليغا عنه، وكما سمع الصحابة القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ، وكذلك نسمع نحن بواسطة التالي، فإذا قيل المسموع مخلوق أو غير مخلوق‏؟‏ قيل‏:‏ إن أردت المسموع عن الله تعالى فهو كلامه غير مخلوق، وإن أردت المسموع من المبلغ، ففيه تفصيل إن سألت عن الصوت الذي روي به كلام الله، فهو مخلوق، وإن سألت عن الكلام المؤدى بذلك الصوت، فهو غير مخلوق‏.‏

والذين قالوا إن الله يتكلم بصوت أربع فرق‏:‏

فرقة قالت‏:‏ يتكلم بصوت مخلوق منفصل عنه، وهم المعتزلة، وفرقة قالت‏:‏ يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال، وهم السالمية والاقترانية‏.‏ وفرقة قالت‏:‏ يتكلم بصوت حادث في ذاته بعد أن لم يكن، وهم الكرامية‏.‏ وقال أهل السنة والحديث‏:‏ لم يزل الله تعالى متكلما بصوت إذا شاء‏.‏

والذين قالوا لا يتكلم بصوت فرقتان‏:‏ أصحاب الفيض، والقائلون إن الكلام معنى قائم بالنفس‏.‏ انتهى ما أردنا إيراده من كلامه رحمه الله تعالى وقد أودع هذه الأقوال وغيرها في مسألة القرآن وغيرها في نونيته الشافية الكافية، وأما مذهب أتباع الرسل فقد قدمنا فيه الشفاء الكافي من نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة بما لا يحتاج معه إلى غيره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏