فصل: حديث الهجرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


حديث الهجرة

وبعد أعوام ثلاثة مضت *** من بعد معراج النبي وانقضت

أوذن بالهجرة نحو يثربا *** مع كل مسلم له قد صحبا

‏(‏وبعد أعوام ثلاثة‏)‏ وقيل خمسة، وقيل أقل من ذلك وقيل أكثر، وهذا الذي في المتن هو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في الثلاثة الأصول، وله فيه سلف، وليست مسألة التاريخ اعتقادية في هذا الباب، والإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا تأثير لاختلاف أهل السير في تاريخه وتعيين سنته ووقته‏.‏ غير أن الراجح فيه كونه بين عاشر البعثة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعلى قول من يقول‏:‏ إن خديجة رضي الله عنها- أدركت فريضة الصلوات، فالمعراج في سنة عشر أو قبلها، والله أعلم؛ لأنها توفيت هي وأبو طالب في ذلك العام‏.‏

‏(‏أوذن بالهجرة‏)‏ أمره الله عز وجل بها ‏(‏نحو يثرب‏)‏ وهي المدينة المنورة ‏(‏مع كل مسلم‏)‏ في ذاك الزمن ‏(‏له قد صحبا‏)‏ على الإسلام، وكانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة‏.‏

قال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا هشام، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين‏.‏

وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسير قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏)‏، ‏(‏الأنفال 30‏)‏‏:‏ وهذه الآية معطوفة على قوله ‏(‏واذكروا إذ أنتم قليل‏)‏ واذكر ‏(‏إذ يمكر بك الذين كفروا‏)‏، ‏(‏وإذا قالوا اللهم‏)‏ وأن هذه السورة مدنية، وهذا المكر والقول إنما كان بمكة، ولكن الله ذكرهم بالمدينة كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا تنصروه فقد نصره الله‏)‏، ‏(‏التوبة 40‏)‏، وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير أن قريشا فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة؛ ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رءوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو سفيان والمطعم بن عدي وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه بن الحجاج وأمية بن خلف، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ، فلما رأوه، قالوا‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا‏.‏ قالوا‏:‏ ادخل فدخل‏.‏ فقال أبو البختري‏:‏ أما أنا فأري أن تأخذوا محمد وتحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه، كما هلك من قبله من الشعراء‏.‏ قال‏:‏ فصرخ عدو الله الشيخ النجدي، وقال‏:‏ بئس الرأي رأيتم، والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم‏.‏ قالوا‏:‏ صدق الشيخ النجدي‏.‏ فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي‏:‏ أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع، وإلى أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه‏.‏ فقال إبليس- لعنه الله‏:‏ ما هذا لكم برأي تعتمدونه، تعمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم، فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وحلاوه لسانه، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ذلك، ليذهبن وليستميلن قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم‏.‏ قالوا‏:‏ صدق الشيخ النجدي‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ والله، لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسيطا فتيا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه بين القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، فتؤدي قريش ديته‏.‏ فقال إبليس- لعنه الله‏:‏ صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأيا، القول ما قال، لا أرى رأيا غيره‏.‏ فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي يبيت فيه، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه، وقال له‏:‏ اتشح ببردتي هذه، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه‏.‏

ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله أبصارهم عنه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ ‏(‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فهم لا يبصرون‏)‏، ‏(‏يس 8‏)‏، ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر، وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون عليا في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ساروا إليه، فرأوا عليا رضي الله عنه فقالوا‏:‏ أين صاحبك‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا‏:‏ لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثا، ثم قدم المدينة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏)‏، ‏(‏الأنفال 30‏)‏، وبسط حديث الهجرة ما ساقه البخاري رحمه الله تعالى قال‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير قال‏:‏ حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكره وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال‏:‏ أين تريريا أبا بكر‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ أخرجني قومي، فأريد أن أسبح في الأرض وأعبد ربي‏.‏ قال ابن الدغنة‏:‏ فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على النوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك‏.‏ فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم‏:‏ إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، تخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق‏؟‏‏!‏ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة‏:‏ مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا‏.‏ فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بمكة يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره‏.‏

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا‏:‏ إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه فان أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره، فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال‏:‏ قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى اخفرت رجلا عقدت له، فقال أبو بكر‏:‏ فأنا أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين‏:‏ إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين‏.‏ وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ وهل ترجو ذلك بأبي أنت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فحبس أبو يكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ قال عروة‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فبينما نحن في يوم جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر‏:‏ هذا رسول الله متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر‏:‏ فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر‏.‏ قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ أخرج من عندك‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ فإني قد أذن لي في الخروج‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بالثمن‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فجهزناهما احث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطته على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق‏.‏

قالت‏:‏ ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليالي، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهم حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل ‏,‏ وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث‏.‏

واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحليتهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن جعشم يقول‏:‏ جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال‏:‏ يا سراقة، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه‏.‏ قال سراقة‏:‏ فعرفت أنهم هم، فقلت له‏:‏ إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي، فركبتها فرفعتها، تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أأضرهم أم لا‏؟‏ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له‏:‏ إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال‏:‏ اخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم‏.‏

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته‏:‏ يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته‏:‏ هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا، فقالا‏:‏ لا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن‏:‏

هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربنا وأطهر‏.‏

ويقول‏:‏

اللهم إن الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجرة‏.‏

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام إلا هذا البيت‏.‏

وهذا الكلام كما ترى ليس من باب الشعر، ولا هو في شيء من بحوره وأوزانه، وإنما هو كلام منتثر، اتفقت تقفيته لا عن قصد كما يقع كثيرا‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني محمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف‏.‏ قال‏:‏ فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول‏:‏ يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك‏؟‏ فيقول‏:‏ هذا الرجل يهديني السبيل‏.‏ قال‏:‏ فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير‏.‏ فالتفت أبو بكر، فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اللهم اصرعه‏.‏ فصرعه الفرس، ثم قامت تحمحم، فقال‏:‏ يا نبي الله، مرني بما شئت‏.‏ قال‏:‏ فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا‏.‏ قال‏:‏ فكان أول النهار جاهدا على نبي الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة له‏.‏

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلموا عليهما وقالوا‏:‏ اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وحفوا بهما بالسلاح، فقيل في المدينة‏:‏ جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فأشرفوا ينظرون ويقولون‏:‏ جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يسير حتى نزل دار أبي أيوب، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها‏.‏

فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي بيوت أهلنا أقرب‏؟‏ فقال أبو أيوب‏:‏ أنا يا نبي الله- صلى الله عليك وسلم- هذه داري وهذا بابي‏.‏ قال‏:‏ فانطلق فهيء لنا مقيلا‏.‏ قال‏:‏ قوما على بركة الله تعالى‏.‏ فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام، فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الله، وإنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت، قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا‏.‏ قالوا‏:‏ ما نعلمه‏.‏ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار‏.‏ قال‏:‏ فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام‏؟‏ قالوا‏:‏ ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا‏.‏ قال‏:‏ أفرأيتم إن أسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ حاشا لله، ما كان ليسلم‏.‏ قال‏:‏ أفرأيتم إن أسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ حاشا لله، ما كان ليسلم‏.‏ قال‏:‏ أفرأيتم إن أسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ حاشا لله، ما كان ليسلم‏.‏ قال‏:‏ يا ابن سلام، اخرج إليهم‏.‏ فخرج فقال‏:‏ يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق‏.‏ فقالوا‏:‏ كذبت‏.‏ فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وقال- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي اسحاق قال‏:‏ سمعت البراء يحدث، قال‏:‏ ابتاع أبو بكر من عازب رحلا فحملته معه، قال‏:‏ فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة أتيناها، ولها شيء من ظل، قال‏:‏ ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت أنفض ما حوله فإذا أنا براع قد أقبل في غنمه، يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته لمن أنت يا غلام‏؟‏ فقال‏:‏ أنا لفلان، فقلت‏:‏ هل في غنمك من لبن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت له‏:‏ هل أنت حالب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأخذ شاة من غنمه، فقلت له‏:‏ انفض الضرع‏.‏ قال‏:‏ فحلب كثبة من اللبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في إثرنا‏.‏ قال البراء‏:‏ فدخلت مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها أقبل، وقال‏:‏ كيف أنت يا بنية‏؟‏ وقال‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال‏:‏ أول ما قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرؤون الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قدم حتى قرأت ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى‏)‏، ‏(‏الأعلى 1‏)‏ في سور من المفصل‏.‏

الإذن بالقتال

وبعدها كلف بالقتال *** لشيعة الكفران والضلال

حتى أتوا للدين منقادينا *** ودخلوا في السلم مذعنينا‏.‏

‏(‏وبعدها‏)‏ أي بعد الهجرة ‏(‏كلف‏)‏ أى أمر ‏(‏بالقتال‏)‏ في سبيل الله عز وجل- ‏(‏لشيعة‏)‏ أعوان ‏(‏الكفر‏)‏ بالله وما أرسل الله به رسله ونزل به كتبه ‏(‏والضلال‏)‏ عن صراطه المستقيم‏.‏ وكان الجهاد بمكة بإقامة الحجة والبيان بما يتلوه عليهم من القرآن من حين أنزل عليه صلى الله عليه وسلم- ‏(‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏)‏، ‏(‏المدثر 1‏)‏ الآيات، وهي أول ما نزل بعد فترة الوحي، وبينها وبين نزول الآيات من صدر سورة العلق ثلاث سنين، فيما ذكر ابن اسحاق رحمه الله وذلك مدة الفترة، وسمى الله تعالى تلاوة القرآن على المشركين جهادا لهم، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم- ‏(‏ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثرالناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا‏)‏، ‏(‏الفرقان 51- 52‏)‏‏.‏

وأما الجهاد المحسوس بالسيف، فلم يكن بمكة مأمورا إلا بالعفو أو الإعراض عن الجاهلين، والصبر على أذاهم واحتمال ما يلقى منهم كقوله تعالى- ‏(‏خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين‏)‏، ‏(‏الأعراف 199‏)‏ الآيات، وقوله ‏(‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين‏)‏، ‏(‏الحجر 94‏)‏ الآيات وغيرها‏.‏

ولهذا قال أئمة التفسير‏:‏ إن آيات الإعراض عن المشركين نسختها آيات السيف، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وصارت لهم دار منعة، وإخوان صدق، وأنصار حق، أذن الله تعالى لهم في الجهاد، فقال عز وجل‏:‏ ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور‏)‏، ‏(‏الحج 39- 41‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث تقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين‏)‏، ‏(‏البقرة 190- 193‏)‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض‏)‏ الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعملوا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير‏)‏، ‏(‏الأنفال 38- 40‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين‏)‏، ‏(‏التوبة 111- 112‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص‏)‏، ‏(‏الصف 4‏)‏ إلى أن قال عز وجل‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله‏)‏، ‏(‏الصف 10- 14‏)‏ الآية‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له بأن يقولوا لا إله إلا الله، أو كما قال، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

والآيات والأحاديث في الجهاد أكثر من أن تحصى، وقد أفردت لها مصنفات مستقلات، والجهاد ذروة سنام الإسلام، ولا يقوم إلا به، كما أن بيان شرائعه لا تقوم إلا بالكتاب، ولهذا قرن الله تعالى بينهما فقال‏:‏ ‏(‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد في بأس شديد‏)‏، ‏(‏الحديد 25‏)‏، فالكتاب لبيان الحق والهداية إليه، والحديد لحمل الناس على الحق وأطرهم عليه‏.‏

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أذن الله له بالقتال وأمره به، شمر عن ساعد الاجتهاد في شأنه، وكان بينه وبين المشركين ما كان من الوقائع المشهورة والغزوات المذكورة، كبدر وأحد والخندق والفتح، وغيرها فوق عشرين غزوة وفوق أربعين سرية، ونصره الله بالرعب في قلوب أعدائه مسافة شهر، حتى فتح الله به وبكتابه وأنصاره البلاد والقلوب وعمرها، ففتح البلاد بالسيف والقلوب بالإيمان، وعمر البللاد بالعدل والقلوب بالعلم، فلله الحمد والمنة‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف‏:‏ سيف للمشركين ‏(‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏)‏، ‏(‏البقرة 191‏)‏، وسيف للمنافقين ‏(‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏)‏، ‏(‏التوبة 73‏)‏، وسيف لأهل الكتاب ‏(‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏)‏، ‏(‏التوبة 29‏)‏، وسيف للبغاة ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏)‏، ‏(‏الحجرات 9‏)‏‏.‏

وقد بذل المهاجرون والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، كما وصفهم الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون‏)‏، ‏(‏الحجرات 15‏)‏‏.‏

وبذل المشركون جهدهم ومجهودهم في عداوته وقتاله وألبوا وتحزبوا، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون‏)‏، ‏(‏الأنفال 36‏)‏، الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏)‏، ‏(‏الصف 8‏)‏، فقد فعل تبارك وتعالى- ‏(‏حتى أتوا للدين‏)‏ دين الإسلام ‏(‏منقادينا‏)‏- الألف للإطلاق- طوعا وكرها، ‏(‏ودخلوا في السلم‏)‏ أى الإسلام ‏(‏مذعنينا‏)‏ مستسلمين‏.‏

وكان معظم ظهوره بعد الفتح؛ لأن الناس كانوا ينتظرون بإسلامهم قريشا؛ لأنهم في الجاهلية هم سادة العرب وقادتها، وكذلك هم في الإسلام، فلما أسلموا بادر كل قوم بإسلامهم، وتواترت الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فج عميق، وانتشر الإسلام وجرت أحكامه، وانتشرت أعلامه في كل جزيرة العرب، والنبي صلى الله عليه وسلم حي‏.‏

وأنزل الله عز وجل عليه‏:‏ ‏(‏إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏)‏، ‏(‏النصر 1- 3‏)‏، ولهذا علم هو أصحابه أن ذلك أجله، أعلمه الله به، كما قال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال‏:‏ لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله‏؟‏ فقال عمر‏:‏ إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رويت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال‏:‏ ما تقولون في قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏إذا جاء نصر الله والفتح‏)‏، ‏(‏النصر 1‏)‏‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا‏.‏ وسكت بعضهم، فلم يقل شيئا، فقال لي‏:‏ أكذاك تقول يا ابن عباس‏؟‏ فقلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فما تقول‏؟‏ هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه، قال‏:‏ ‏(‏إذا جاء نصر الله والفتح‏)‏، ‏(‏النصر 1‏)‏، وذلك علامة أجلك ‏(‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏)‏، ‏(‏النصر 3‏)‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تقول‏.‏

وفرض الله عليه بعد الهجرة جميع الفرائض التي لم تفرض من قبل، فالجهاد في السنة الأولى، وأتمت صلاة السفر في الأولى، وشرع الأذان والصيام وزكاة الفطر وزكاة النصب وتحويل القبلة إلى الكعبة كلها في الثانية، وشرع التيمم سنة ست، وصلاة الخوف سنة سبع، والحج في السادسة، وقيل في التاسعة وقيل في العاشرة، وفيها حج صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل عليه وهو واقف بعرفة يوم الجمعة ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏، ‏(‏المائدة 3‏)‏، كما قدمنا الحديث في الصحيحين‏.‏

وفاته صلوات الله وسلامه عليه

وبعد أن قد بلغ الرسالة *** واستنفذ الخلق من الجهالة

وأكمل الله له الإسلاما *** وقام دين الحق واستقاما

قبضه الله العلي الأعلى *** سبحانه إلى الرفيق الأعلى

‏(‏وبعد أن قد بلغ‏)‏ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم- ‏(‏الرسالة‏)‏ من القرآن وبيانه أمرا ونهيا وخبرا ووعدا ووعيدا وقصصا ‏(‏واستنفذ الخلق‏)‏ حتى أنقذهم الله به ‏(‏من الجهالة‏)‏ من الشرك وما دونه ‏(‏وأكمل الله له الإسلاما‏)‏ بجمع شرائعه ظاهرها وباطنها، ‏(‏وقام‏)‏ ظهر ‏(‏دين الحق‏)‏ الذي بعثه الله ليظهره على الدين كله، ‏(‏واستقاما‏)‏ اعتدل فلم يبق عليه غبار ولا عنه معدل، وذهبت عنه غياهب الشرك وظلم الغي وطغاية الشبهات، وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ‏(‏وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا‏)‏، ‏(‏الأسراء 81‏)‏، ‏(‏قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد‏)‏، ‏(‏سبأ 49‏)‏، وتبين الرشد من الغي، والشرك من التوحيد، والصدق من النفاق، واليقين من الشك، وسبيل النجاة من سبل الشك، وطريق الجنة من طريق جهنم؛ ‏(‏ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون‏)‏، ‏(‏الأنفال 37‏)‏، ولم يبق من خير آجل ولا عاجل إلا دل الأمة عليه، ولا شر عاجل ولا آجل إلا وحذرهم منه ونهاهم عنه، حتى ترك أمته على الحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، وترك فيهم مالم يضلوا إن تمسكوا به كتاب الله، وبعد هذا ‏(‏قبضه الله العلي‏)‏ بجميع معالي العلو ذاتا وقهرا وقدرا ‏(‏الأعلى‏)‏ بكل تلك المعاني، فلا شيء أعلى منه عز وجل- ‏(‏سبحانه‏)‏، وكان قبضه إياه ‏(‏إلى الرفيق الأعلى‏)‏، وهي أعلى عليين، وهي الوسيلة التي هي أعلى درجة في الجنة، ولا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرنا أن نسأل الله له ذلك، اللهم آت نبينا محمدا الوسيلة والفضيلة، آمين‏.‏

وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، نهار الاثنين بعد حجة الوداع بفوق ثمانين ليلة‏.‏

قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين‏)‏، ‏(‏آل عمران 144- 145‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 34‏)‏، ‏(‏كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏)‏، ‏(‏آل عمران 185‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏)‏، ‏(‏الزمر 31‏)‏‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس‏:‏ يوم الخمس وما الخميس، اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، قال‏:‏ آتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا‏:‏ ما شأنه استفهموه‏.‏ فذهبوا يردون عليه، فقال‏:‏ دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث قال‏:‏ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالة أو قال‏:‏ فنسيتها‏.‏

وله عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك فقصمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا قط أحسن، فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه، ثم قال‏:‏ في الرفيق الأعلى ثلاثا، ثم قضى، وكانت تقول‏:‏ مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي، وفي رواية قالت‏:‏ وبين يديه ركوة، فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول‏:‏ لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول‏:‏ في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده‏.‏

وفي أخرى قالت‏:‏ فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة‏.‏ وفي الصحيحين، وهذا لفظ مسلم، عن عبيد الله بن عبد الله قال‏:‏ دخلت على عائشة رضي الله عنها- فقلت لها‏:‏ ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أصلى الناس‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال‏:‏ أصلى الناس‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ أصلى الناس‏؟‏ فقلنا‏:‏ لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال‏:‏ أصلى الناس‏؟‏ فقلنا‏:‏ لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله‏.‏ قال والناس عكوف في المسجد، ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، قالت‏:‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس‏.‏ فقال أبو بكر، وكان رجلا رقيقا‏:‏ يا عمر، صل بالناس‏.‏ قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ أنت أحق بذلك‏.‏ قالت‏:‏ فصلى أبو بكر بالناس تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب؛ ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما‏:‏ أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر‏.‏ وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم‏.‏

قال‏:‏ ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر، قال‏:‏ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك، وفي رواية قال‏:‏ لم يخرج إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فدفعه، فلما وضح لنا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا قط كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها- أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع عليك موتتين، أما الموته التي كتبت عليك، فقد متها‏.‏

قال الزهري‏:‏ وحدثني أبو سلمة، عن عبد الله بن عباس أن أبا بكر خرج، وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال‏:‏ اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس‏.‏ فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر‏:‏ أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ الشاكرين‏)‏، ‏(‏آل عمران 144- 145‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله تعالى أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها‏.‏

فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى لا تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته قالها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات‏.‏

تبليغه صلوات الله عليه رسالة الله

نشهد بالحق بلا ارتياب *** بأنه المرسل بالكتاب

وأنه بلغ ما قد أرسلا *** به وكل ما إليه أنزلا‏.‏

‏(‏نشهد بالحق‏)‏ بيقين وصدق ‏(‏بلا ارتياب‏)‏ بدون شك ‏(‏بأنه المرسل بالكتاب‏)‏ بالقرآن إلى كافة الناس من الجن والإنس بشيرا ونذيرا‏.‏ قال الله تبارك وتعالى ممتنا على عبادة المؤمنين ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏)‏، ‏(‏آل عمران 164‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏)‏، ‏(‏الجمعة 2- 4‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم‏)‏، ‏(‏التوبة 128‏)‏، يمتن تبارك وتعالى بأجل نعمه على عباده وأعظمها وأعلاها وأتمها وأكملها إرساله فيهم محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله تبارك وتعالى العلي العظيم، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، بكلامه الذي هو صفته، وهو كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ ليهديهم به من الضلالة، ويبصرهم به من العمى، وينقذهم به من دركات الردى، ويخرجهم به من الظلمات إلى النور بإذنه ‏(‏كتاب أنزلناه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏)‏، ‏(‏إبراهيم 1‏)‏، يالها نعمة ما أعظمها وأجلها، ومنه ما أكملها وأجزلها ‏(‏لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم‏)‏، ‏(‏آل عمران 164‏)‏، أكمل تلك النعمة وأتمها وزادها إجلالا بكون ذلك الرسول من أنفسهم، يعرفون شخصه ونسبه ورحمه، ما من أهل بيت من العرب إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم نسب ‏(‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏)‏، ‏(‏الشورى 23‏)‏، ثم جعل الرسالة بلسانهم الذي به يتحاورون، ومن جنس كلامهم الذي فيه يتفاخرون، معجزا بالفصاحة التي في ميدانها يتسابقون بأوضح المباني وأفصحها، وأكمل المعاني وأصحها، مع اتساق سياقه وسلاسة ألفاظه، وانتساق تراكيبه وملاحة مفرداته‏.‏

ثم مع هذا التالي له من أنفسهم رسول من عند ربهم، ثم هو صلى الله عليه وسلم مؤد لتلك الأمانة مبلغ كلام ربه، كما قال رب العزة، لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى فقط، بل كما قال‏:‏ عز وجل‏:‏ ‏(‏يتلو عليهم آياته‏)‏، الضمير لله عز وجل ليسمعوا لذيذ خطابه، ويتأملوا لطيف عتابه ‏(‏كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب‏)‏، ‏(‏ص 29‏)‏، ‏(‏ويزكيهم‏)‏ يطهرهم ظاهرا وباطنا حسا ومعنى لمن التزمه واتبعه، أما قلوبهم فيزكيها بالإيمان من دنس ورجس الشرك ورجزه، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور‏)‏، ‏(‏الحج 30‏)‏، و ‏(‏والرجز فاهجر‏)‏، ‏(‏المدثر 5‏)‏، وكذا يطهرهم بمحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة من مساوئها، وكذا يطهرهم من جميع الذنوب بالتوبة النصوح، وكذا يطهر ظواهرهم بما أمرهم به وأرشدهم إليه من الطهارات الحسية من الأحداث والأنجاس على اختلاف أضرابها، ‏(‏ويعلمهم الكتاب‏)‏ القرآن المجيد، ‏(‏والحكمة‏)‏ السنة النبوية التي هي تبيان القرآن وتفسيره وتوضيحه، وتدل كما قال تعالى- له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏)‏، ‏(‏النحل 44‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوتيت القرآن مثله- يعني‏:‏ السنة‏.‏

‏(‏وإن كانوا من قبل‏)‏ إرساله إليهم، وبعثه فيهم ‏(‏لفي ضلال مبين‏)‏ من الشرك وعبادة الأصنام وغير ذلك من السبل المضلة عن الصراط المستقيم، الموجبة لدخول جهنم، والخلود في عذابها الأليم المقيم، أجارنا الله منها، وذلك تأويل دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام إذ يقول فيما أخبر الله عنه‏:‏ ‏(‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم‏)‏، ‏(‏البقرة 129‏)‏، فاستجاب الله له تلك الدعوة المباركة، كما قضى الله عز وجل ذلك في الأزل، وسبق علمه وسطره في كتابه، وأخذ على رسله الميثاق في الإيمان به والقيام بنصره، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وإذ أخذ الله ميثاق النبين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏)‏، ‏(‏آل عمران 81- 82‏)‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الترمذي‏:‏ كنت نبيا وآدم منجدل في طينته‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ وآدم بين الروح والجسد- يعني‏:‏ وجبت له في الكتاب، ولأن السائل قال له‏:‏ متى وجبت لك النبوة‏؟‏ هذا معنى الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي‏.‏ أو كما قال، فأما دعوة إبراهيم فما في الآية السابقة، وأما بشرى عيسى فقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏)‏، ‏(‏الصف 6‏)‏ الآية‏.‏

وأما رؤيا أمه، فإنها رأت كأنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، الحديث‏.‏ وقد شهد الله تبارك وتعالى له بالرساة كما شهد لنفسه بالإلهية، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏والله يعلم إنك لرسوله‏)‏، ‏(‏المنافقون 63‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا‏)‏، ‏(‏النساء 166‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم‏)‏، ‏(‏البقرة 119‏)‏، الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 45‏)‏ الآيات‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا‏)‏، ‏(‏النساء 79‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وقال تبارك وتعالى في عموم رسالته إلى الأحمر والأسود والجن والإنس‏:‏ ‏(‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا‏)‏، ‏(‏سبأ 28‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏(‏ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون‏)‏، ‏(‏الأعراف 156- 158‏)‏، ومعنى كونه أميا‏:‏ لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك أمته أمية لا يقرؤون ولا يكتبون، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين‏)‏، ‏(‏القصص 86‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون‏)‏، ‏(‏العنكبوت 48‏)‏، الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا‏)‏، ‏(‏هود 49‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وقال تعالى أيضا في ذكر عموم رسالته إلى أهل الشرائع من قبله‏:‏ ‏(‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم‏)‏، ‏(‏المائدة 14- 16‏)‏ الآيات، ‏(‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏)‏، ‏(‏آل عمران 64‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولما جاءهم رسول من عند الله مصدقا لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون‏)‏، ‏(‏البقرة 101‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين‏)‏، ‏(‏البقرة 89‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة‏.‏

وفيه عنه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار‏.‏

وفي حديث الخصائص‏:‏ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏.‏ وهو في الصحيحين‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو كان موسى حيا واتبعتموه وتركتموني، لضللتم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لوكان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي‏.‏

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عيسى ينزل حكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يقيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ناسخ ولا مغير لشريعته، ولا يسع أحدا الخروج عنها، ولله الحمد والمنة‏.‏

اختصاصه صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة

والمقصود أن الله تبارك وتعالى اختصه بعموم الرسالة إلى الثقلين، ولم يقبل من أحد صرفا ولا عدلا إلا باتباعه، ولا يصل أحد دار السلام التي دعا الله إليها عباده إلا من طريقه، فهو صلى الله عليه وسلم أكرم الرسل، وأمته خير الأمم، وشريعته أكمل الشرائع، وكتابه مهيمن على كل كتاب أنزل، لا نسخ له بعده ولا تغيير، ولا تحويل ولا تبديل، وأيده الله تعالى بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة التي أعظمها هذا القرآن الذي تحدى الله به أفصح الأمم وأبلغها وأقدرها على المنطق وأكثرها فيه اتساعا وأطولها فيه باعا وأكملها على أضربه وأنواعه اطلاعا، مع عظم محادتهم له ومشاقتهم فيه، وشدة حرصهم على رده، وهو ينادي عليهم بأبلغ عبارة وأوجزها، وأمتنها وأجزلها ‏(‏أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين‏)‏، ‏(‏الطور 34‏)‏، ‏(‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات‏)‏، ‏(‏هود 13‏)‏، ‏(‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏)‏، ‏(‏البقرة 23‏)‏، ثم نادى عليهم بالعجز عن ذلك كله، فلا يقدر أحد منهم على شيء منه لا مجتمعين ولا متفرقين، لا في زمن واحد ولا في أزمان، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‏)‏، ‏(‏الإسراء 88‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

ولهذا لما أراد مسيلمة الكذاب معارضته مكابرة ومباهاته مع علمه أنه لا يقدر على شيء البتة، فلما فعل ذلك، جعل الله تعالى كلامه أسمج ما يسمع وأرك ما ينطق به، وصار أضحوكة للصبيان في كل زمان ومكان، حتى أنه لا يشبه كلام العقلاء ولا المجانين ولا النساء ولا المخنثين، وصار كذبه معلوما عند كل أحد، ووسمه الله عز وجل على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم باسم الكذاب، فلا يسمى إلا به، ولا يعرف إلا به، حتى صار أشهر من عليه العلم، بل لا علم له غيره أبدا، ويروى أن أصحاب الفيلسوف الكندي، قالوا له‏:‏ أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن‏.‏ فقال‏:‏ نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال‏:‏ والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا، قلت‏:‏ وهذا الذي قاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه، وإلا فبلاغة القرآن فوق ما يصف الواصفون، وكيف يقدر البشر أن يصفوا صفات من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏.‏

ومن ذلك انشقاق القمر، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏)‏، ‏(‏القمر 1‏)‏، الآيات‏.‏ وفي الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين‏:‏ فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشهدوا‏.‏ زاد في رواية‏:‏ ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

ومنها حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل‏:‏ يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يقوم الجمعة، دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال‏:‏ كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا من ذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت‏.‏

فيا حامدا معنى بصورة عاقل *** أمالك من القلب شهيد ولا سمع

يحن إليه الجذع شوقا وما لنا *** ألسنا بذاك الشوق أولى من الجدع‏.‏

ومنها تسبيح الطعام وتكثير القليل بإذن الله عز وجل، ونبع الماء من أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقل الماء فقال‏:‏ اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال‏:‏ حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏.‏

وعن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من أصابعه، فتوضأ القوم، قال‏:‏ وكانوا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة‏.‏

وعن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ عطش الناس يوم الحديبية، والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال‏:‏ ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ليس عندنا ما نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا‏.‏ قلت‏:‏ كم كنتم‏؟‏ قال‏:‏ لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة‏.‏ وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال‏:‏ كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير البئر، فدعا بماء، فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى روينا ورويت وأصدرت ركائبنا‏.‏ وعن أنس بن مالك قال‏:‏ قال أبو طلحة لأم سليم‏:‏ لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال‏:‏ فذهب به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرسلك أبو طلحة‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ بطعام‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه‏:‏ قوموا‏.‏ فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة‏:‏ يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت‏:‏ الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هلم يا أم سليم ما عندك‏.‏ فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال‏:‏ ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال‏:‏ ائذن لعشرة، فأكل القوم كلهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا‏.‏

وعن جابر رضي الله عنه أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إن أبي ترك دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر، فدعا ثم آخر، ثم جلس عليه فقال‏:‏ انزعوه، فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم‏.‏ وفي حديث أبي قتادة الطويل في تلك الغزوة‏:‏ ثم دعا بميضأة كانت معي، فيها شيء من من ماء، فتوضأ منها وضوءا دون وضوء، قال‏:‏ وبقي منها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة‏:‏ احفظ علينا ميضأتك، فسيكون لها نبأ‏.‏ الحديث، إلى أن قال‏:‏ فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء، وهم يقولون‏:‏ يا رسول الله، هلكنا عطشنا‏.‏ فقال‏:‏ لا هلك عليكم، ثم قال‏:‏ اطلقوا لي غمري‏.‏ قال‏:‏ ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول اللله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أحسنوا الملء، كلكم سيروى‏.‏ قال‏:‏ ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب ويسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فقال لي‏:‏ اشرب‏.‏ فقلت‏:‏ لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ إن ساقي القوم آخرهم شربا‏.‏ قال‏:‏ فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال‏:‏ فأتى الناس الماء جامين رواء‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول‏:‏ الله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال‏:‏ أبا هر‏.‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ الحق، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح، فقال‏:‏ من أين هذا اللبن‏؟‏ قالوا‏:‏ أهداه لك فلان أو فلانة‏.‏ قال‏:‏ أبا هر‏.‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ الحق إلى أهل الصفة، فادعهم لي‏.‏ قال‏:‏ وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت‏:‏ وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال‏:‏ أبا هر‏.‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ خذ فأعطهم‏.‏ قال‏:‏ فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطي الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال‏:‏ يا أبا هر‏.‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ بقيت أنا وأنت‏.‏ قلت‏:‏ صدقت يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت‏:‏ لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكا‏.‏ قال‏:‏ فأرني‏.‏ فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة‏.‏

وقال أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا سليمان بن داود المهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارفعوا أيديكم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة، فدعاها فقال لها‏:‏ أسممت هذه الشاة‏؟‏ قالت اليهودية‏:‏ من أخبرك‏؟‏ قال‏:‏ أخبرتني هذه التي في يدي، وهي الذراع‏.‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فما أردت بذلك‏؟‏ قالت‏:‏ قلت إن كنت نبيا، فلن تضرك، وإن لم تكن نبيا، استرحنا منك‏.‏ الحديث وهو في الصحيح البخاري، عن أبي هريرة في مواضع مختصرا ومطولا‏.‏

لكن الشاهد منه في هذه الرواية أصرح، وهو قوله‏:‏ أخبرتني هذه، للذراع‏.‏ وقد رواه جماعة من الصحابة في عامة الأمهات وغيرها، ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى في الأسفار، فضلا عن هذا المختصر، وقد جمعت فيها التصانيف المستقلات من المختصرات والمطولات، وبالله التوفيق‏.‏

وكذا قد صنف التصانيف في صفاته الخلقية والخلقية وسيرته وشمائله ومعاملاته مع الحق ومع الخلق، فلتراجع لها مصنفاتها‏.‏ وكذا خصائصه التي انفرد بها في الدنيا والآخرة عن غيره من الرسل السماويين والأرضيين، وقد تقدم التنبيه على مهمات من ذلك‏.‏

‏(‏و‏)‏ نشهد ‏(‏أنه بلغ‏)‏ إلى الناس كافة ‏(‏ما‏)‏ أي الذي ‏(‏قد أرسلا‏)‏ بالبناء للمفعول، والألف للاطلاق، ‏(‏به‏)‏ من ربه ‏(‏وكل ما إليه أنزلا‏)‏ من الكتاب والحكمة‏.‏