فصل: خلافة الصديق رضي الله عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


خلافة الصديق رضي الله عنه

وبعده الخليفة الشفيق *** نعم نقيب الأمة الصديق

ذاك رفيق المصطفى في الغار *** شيخ المهاجرين والأنصار

وهو الذي بنفسه تولى *** جهاد من عن الهدى تولى‏.‏

‏(‏وبعده‏)‏ أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- ‏(‏الخليفة‏)‏ له في أمته ‏(‏الشفيق‏)‏ بهم وعليهم ‏(‏نعم‏)‏ فعل مدح ‏(‏نقيب‏)‏ فاعل نعم، والنقيب عريف القوم وأفضلهم ‏(‏الصديق‏)‏ هو المخصوص بالمدح، وهو النقابة منه لجميع الأمة‏.‏

وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاما، وأفضل الأمة على الإطلاق، رضي الله عنه‏.‏ فلنسق الكلام أولا في خلافته، ثم في مقاماته أيام خلافته، رضي الله عنه‏.‏

فأما خلافته فقد تقدم الحديث في تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه إماما في الصلاة مقامه أيام مرضه صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصحيحين من طرق عن عائشة بألفاظ، وعن جماعة غيرها من الصحابة رضي الله عنهم- في الصحيحين وغيرهما، منهم أنس وابن عباس وسهل بن سعد وأبو موسى الأشعري وعمر بن الخطاب‏.‏

وقد راجعته عائشة وحفصة رضي الله عنهما مرارا، وهو يكرر مرارا عديدة يقول‏:‏ مروا أبا بكر فليصل بالناس، مروا أبا بكر فليصل بالناس، مروا أبا بكر فليصل بالناس‏.‏ ولما أشير بغيره حرك يده، وقال‏:‏ ليصل بالناس ابن أبي قحافة‏.‏

وفي رواية‏:‏ يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، رضي الله عنه‏.‏

وروى البخاري ومسلم، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال‏:‏ أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت‏:‏ أرأيت إن جئت ولم أجدك‏؟‏ كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لم تجديني فأتي أبا بكر‏.‏

وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ بينما أنا نائم، رأيتني على قليب، عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غريا، فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن‏.‏

وفيهما عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث‏:‏ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فينقطع، ثم وصل فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، بأبي أنت، والله لتدعني فأعبرها‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اعبرها‏.‏ قال‏:‏ أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف السمن والعسل فالقرآن، حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله عز وجل، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل فينقطع، ثم يوصل فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله، بأبي أنت، أصبت أم أخطأت‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصبت بعضا، وأخطأت بعضا‏.‏ قال‏:‏ فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت‏.‏ قال‏:‏ لا تقسم‏.‏

وفيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ خطب رسول اللله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال‏:‏ إن الله تعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر رضي الله عنه، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبا بكر، رضي الله عنه‏.‏

وروي عن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه‏:‏ ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏.‏

وروى أبو داود، عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال‏:‏ لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة، فقال‏:‏ مروا من يصلي للناس، فخرج عبد الله بن زمعة، فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا، فقلت‏:‏ يا عمر، قم فصل بالناس، فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رضي الله عنه رجلا مجهرا، قال‏:‏ فأين أبو بكر‏؟‏ يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر رضي الله عنه فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس‏.‏

وفي رواية قال‏:‏ لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر رضي الله عنه قال ابن زمعة‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا لا لا، ليصل للناس ابن أبي قحافة‏.‏

وله عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم‏:‏ من رأى منكم رؤيا‏؟‏ قلت‏:‏ أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر، فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة بمعناه، ولم يذكر الكراهية قال‏:‏ فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني‏:‏ فساءه ذلك فقال‏:‏ خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء‏.‏

وله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول اللله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر‏.‏ قال جابر‏:‏ فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا‏:‏ أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما تنوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، إني رأيت كأن دلوا دليت من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، شرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها، فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان بعراقيها، فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها، فانتشطت وانتضح عليه منها شيء‏.‏

وروى الترمذى، عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إني لأرى ما بقائى فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدى، وأشار إلى أبي بكر وعمر‏.‏ حديث حسن‏.‏

وله عن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره‏.‏ وروى مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، وسئلت‏:‏ من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلفه‏؟‏ قالت‏:‏ أبو بكر‏.‏ فقيل لها‏:‏ ثم من بعد أبي بكر‏؟‏ قالت‏:‏ عمر‏.‏ قيل لها‏:‏ من بعد عمر‏؟‏ قالت‏:‏ أبو عبيدة بن الجراح‏.‏

وصفة بيعته رضي الله عنه بخلافة النبوة ما رواه البخاري، عن عائشة رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وأبو بكر بالسنح، فقام عمر يقول‏:‏ والله، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قالت‏:‏ وقال عمر‏:‏ والله، ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لايذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال‏:‏ أيها الحالف على رسلك‏.‏ فلما تكلم، جلس عمر رضي الله عنه فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال‏:‏ ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال‏:‏ ‏(‏إنك ميت وإنهم ميتون‏)‏، ‏(‏الزمر 30‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين‏)‏، ‏(‏آل عمران 144‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فنشج الناس يبكون‏.‏ قال‏:‏ واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا‏:‏ منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول‏:‏ والله، ما رأيت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه‏:‏ نحن الأمراء وأنتم الوزراء‏.‏ فقال حباب‏:‏ والله، لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ لا، ولكن نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن قريشا هم أوسط العرب دارا، وأعربهم أحسابا، فبايعوا عمر بن الخطاب أو عبيدة بن الجراح‏.‏

فقال عمر‏:‏ بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس، فقال قائل‏:‏ قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر‏:‏ قتله الله‏.‏ زاد في رواية‏:‏ فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس، وإن فيهم النفاق، فردهم الله بذلك، ثم بصر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم الحق الذي عليهم، وخرجوا به يتلون‏:‏ ‏(‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏.‏‏.‏‏.‏ إلى‏:‏ الشاكرين‏)‏، ‏(‏آل عمران 144‏)‏‏.‏

وفيه أيضا‏:‏ عن عمر رضي الله عنه من خطبته الطويلة قال‏:‏ ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول‏:‏ والله، لو مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا إنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر‏.‏ من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبينا صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر‏:‏ يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار‏.‏ فأنطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، فقال‏:‏ أين تريدون يا معشر المهاجرين‏؟‏ فقلنا‏:‏ نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقال‏:‏ لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم‏.‏ فقلت‏:‏ والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتينا سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا سعد بن عبادة‏.‏ فقلت‏:‏ ما له‏؟‏ قالوا‏:‏ يوعك‏.‏ فلما جلسنا قليلا، تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت، أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمهما بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر‏:‏ على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهه مثلها وأفضل منها، حتى سكت فقال‏:‏ ما ذكر فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها‏.‏

كان والله أن أقدم تضرب عنقي، ولا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش‏.‏ فكثر اللغط وارتغعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت‏:‏ ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم‏:‏ قتلتم سعد بن عبادة، فقلت‏:‏ قتل الله سعد بن عبادة‏.‏ قال عمر‏:‏ وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما نرضى، وإما نخالفهم فيكون فسادا، فمن بايع رجلا على غير مشورة المسلمين، فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن حميد بن عبد الرحمن قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة، قال‏:‏ فجاء فكشف عن وجهه فقبله، وقال‏:‏ فداك أبي وأمي، ما أطيبك حيا وميتا، مات محمد ورب الكعبة‏.‏ فذكر الحديث‏.‏

فانطلق أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يتعادان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره، وقال‏:‏ لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار واديا، لسلكت وادي الأنصار‏.‏ ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد‏:‏ قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال له سعد‏:‏ صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء‏.‏

وله بإسناد جيد عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل، قال‏:‏ وسألته عما قيل في بيعتهم، فقال وهو يحدث عما تقاولت به الأنصار، وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأنصار، وما ذكر به من أمامتي إياهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم، وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة‏.‏

وروى البخاري، عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صامت لايتكلم، قال‏:‏ كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم، فإن يك محمد قد مات، فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به هدى الله ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين، وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر‏.‏

قال الزهري‏:‏ عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر‏:‏ اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال‏:‏ لما بويع أبو بكر في السقيفة، وكان الغد جلس أبو بكر رضي الله عنه على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أيها الناس، إني قد كنت لكم بالأمس مقالة ماكانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا- يقول يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله تعالى قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة العامة بعد بيعة السقيفة، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله عز وجل‏.‏ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا ضربهم بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله‏.‏

وروى البيهقي من طريق ابن خزيمة بإسناده، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال‏:‏ فقام خطيب الأنصار فقال‏:‏ أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره‏.‏ فقال‏:‏ فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر، وقال‏:‏ هذا صاحبكم، فبايعوه فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار‏.‏

قال‏:‏ فصعد أبو بكر المنبر، فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير، قال‏:‏ فدعا بالزبير فجاء، فقال‏:‏ قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم، فلم ير عليا، فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال‏:‏ قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه‏.‏

وروى مسلم من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها- أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالتها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، قال‏:‏ فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي، وكان لعلي رضي الله عنه من الناس وجهة حياة فاطمة رضي الله عنها، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتينا معك أحد- كراهية أن يحضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ عمر لأبي بكر‏:‏ والله لا تدخل عليهم وحدك‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ وما عساهم أن يفعلوا بي، إني والله لآتينهم، فدخل عليهم رضي الله عنه فتشهد على بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قال‏:‏ إنا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نحن نرى لنا حقا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه، فلما تكلم أبو بكر رضي الله عنه قال‏:‏ والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فإني لم آل فيها عن الحق، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته‏.‏ فقال علي لأبي بكر رضي الله عنهما‏:‏ موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه صلاة الظهر، رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعظم حق أبي بكر رضي الله عنه، وأنه لم يحمله على الذي صنعه نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارا للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون، وقالوا‏:‏ أصبت‏.‏ فكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر المعروف‏.‏

وهذا لا ينافي ما ذكر في بعته إياه حين أرسل إليه لما افتقده ليلة السقيفة أو صبحتها، ولفظة ‏"‏ لم يكن بايع تلك الأشهر ‏"‏ إن كان من قول عائشة، فلعلها لم تعلم بيعته الأولى التي أثبتها أبو سعيد وغيره؛ لأن الرجال في مثل هذه المسألة أقوم وأعلم بها، إذ لا يحضرها النساء‏.‏

وأيضا فقد قدمنا مرارا أن مجرد النفي لا يكون علما، وعند المثبت زيادة علم انفرد بها عن النافي، إذ فآية ما عند النافي أنه لا يعلم، ولعل عائشة تيقنت عدم حضوره بيعة السقيفة من العشي، ولم يبلغها حضوره صبحتها في البيعة العامة، وإن كان هذا كلام بعض الرواة، فهو بمجرد ما فهمه من البيعة الأخرى، ظن أنه لم يبايع قبل ذلك مصرحا بظنه ‏"‏ ولم يكن بايع تلك الأشهر ‏"‏‏.‏

وإنما كانت هذه البيعة بعد موت فاطمة رضي الله عنها- لإزالة ما كان حصل من الوحشة والمشاجرة بسبب دعواها، ويشهد لذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يفارق الصديق رضي الله عنه في، وقت من الأوقات، ولا ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، وكان خروجه معه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر في حياة فاطمة رضي الله عنها- في الشهر الثالث من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الدارقطني من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ لما برز أبوبكر إلى ذي القصة، واستوى على راحلته، أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزمامها، وقال‏:‏ إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أقول لك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ لم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك، لا يكون للإسلام نظام أبدا‏.‏ فرجع‏.‏

ورواه زكريا الساجي من حديث عبد الوهاب ابن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، والزهري أيضا، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ خرج أبي شاهرا سيفه راكبا على راحلته إلى وادي القصة، فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بزمام راحلته، فقال‏:‏ إلى أين يا خليفة رسول الله‏؟‏ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ لم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك، لا يكون للإسلام نظام أبدا‏.‏ فرجع، وأمضى الجيش‏.‏

وفي الصحيح خروجهما إلى خارج المدينة، وأن أبا بكر رضي الله عنه وجد الحسن بن علي يلعب مع الصبيان فحمله، وهو يقول‏:‏

بابي شبيه بالنبي *** ليس شبيه بعلي

وعلي رضي الله عنه يضحك‏.‏

ومن تدبر النصوص في ذلك، وإجماع المهاجرين والأنصار وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ظهر له تأويل قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم‏:‏ يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏.‏

وأما فضله‏:‏ فقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ثاني اثنين إذ هما في الغار‏)‏، ‏(‏التوبة 40‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون‏)‏، ‏(‏الزمر 33‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى‏)‏، ‏(‏الليل 17- 21‏)‏ حكى جماعة من المفسرين على أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

وفي الصحيحين من حديث الهجرة الطويل‏:‏ فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جشعم على فرس له، فقلت‏:‏ هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال‏:‏ لا تحزن إن الله معنا‏.‏

وفيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبي بكر رضي الله عنه قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في الغار‏:‏ لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال‏:‏ ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما‏؟‏

وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم‏.‏

وفي لفظ قال‏:‏ كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم‏.‏

وفيهما واللفظ لمسلم، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت‏:‏ إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس‏:‏ سبحان الله تعجبا وفزعا، أبقرة تكلم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر‏.‏

وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بينما راع في غنمه، عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له‏:‏ من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري‏.‏ فقال الناس‏:‏ سبحان الله‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر‏.‏

وفي رواية لهما‏:‏ ومن ثم أبو بكر وعمر‏.‏ ولمسلم‏:‏ وما هما ثم‏.‏

وفي صحيح البخاري، عن همام قال‏:‏ سمعت عمارا يقول‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر‏.‏

وفيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال‏:‏ كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال‏:‏ يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال‏:‏ يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا، ثم إن عمر رضي الله عنه ندم فأتى منزل أبا بكر، فسأل‏:‏ أثم أبو بكر‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر رضي الله عنه، فجثا على ركبتيه فقال‏:‏ يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم‏.‏ مرتين، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، واساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ مرتين‏.‏ فما أوذي بعدها، وفي رواية‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ هل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ إني قلت‏:‏ يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت‏.‏ قال أبو عبد الله هو البخاري سبق بالخير‏.‏

ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة‏:‏ يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال‏:‏ هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر‏.‏

وفيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ عائشة‏.‏ فقلت‏:‏ من الرجال‏؟‏ فقال‏:‏ أبوها‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالا‏.‏

وفيه عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ قلت لأبي‏:‏ أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر، وخشيت أن يقول عثمان‏.‏ فقلت‏:‏ ثم أنت‏؟‏ قال‏:‏ ما أنا إلا رجل من المسلمين‏.‏

وفيه عن عروة بن الزبير قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏؟‏

وفيهما عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ أخبرني أبو موسى الأشعري رضي الله عنه‏:‏ أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقلت‏:‏ لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأكونن معه يومي هذا، قال‏:‏ فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ خرج ووجه ههنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، فتوضأ فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب فقلت‏:‏ لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أبو بكر‏.‏ فقلت‏:‏ على رسلك، ثم ذهبت فقلت‏:‏ يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر‏:‏ ادخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت‏:‏ إن يرد الله بفلان خيرا- يريد أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ عمر بن الخطاب‏.‏ فقلت‏:‏ على رسلك، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقلت‏:‏ هذا عمر بن الخطاب يستأذن‏.‏ فقال‏:‏ ائذن له، وبشره بالجنة، فجئت فقلت له‏:‏ ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست، فقلت‏:‏ إن يرد الله بفلان خيرا يأت به، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ عثمان بن عفان‏.‏ فقلت‏:‏ على رسلك، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏ ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه‏.‏ فقلت له‏:‏ ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاهه من الشق الآخر‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ فأولتها قبورهم‏.‏

وفيهما عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال‏:‏ اثبت، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان‏.‏

وللترمذي، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر‏:‏ أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار‏.‏ وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالا، فقلت‏:‏ اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، قال‏:‏ فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أبقيت لأهلك‏؟‏ قلت‏:‏ مثله‏.‏ وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال‏:‏ يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك‏؟‏ قال‏:‏ أبقيت لهم الله ورسوله‏.‏ قلت‏:‏ لا أسبقه إلى شيء أبدا‏.‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

ولمسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه سلم‏:‏ من أصبح منكم اليوم صائما‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فمن تبع منكم اليوم جنازة‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فمن أطعم اليوم منكم مسكينا‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فمن عاد منكم اليوم مريضا‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ أنا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة‏.‏

والأحاديث في الصديق كثيرة جدا قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكر كفاية في التنبيه على ما وراءه، وما أحسن ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

إذا تذكرت شجوا من أخ ثقة *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أوفاها وأعدلها *** بعد النبي وأولاها بما حملا

والتالي الثاني المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدق الرسلا

عاش حميدا لأمر الله متبعا *** بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا‏.‏

مواقفه العظيمة‏.‏

وأما ما منحه الله تعالى من المواقف العظيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم من حين بعثته إلى أن توفاه الله عز وجل من نصرته، والذب عنه، والشفقة عليه، والدعوة إلى ما دعا إليه، وملازمته إياه، ومواساته بنفسه وماله، وتقدمه معه في كل خير، فأمر لا تدرك غايته، ثم لما توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم كان من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ولاه أمرهم بعد نبيه، وجمعهم عليه بلطفه، فجمع الله به شمل العرب بعد شتاته، وقمع به كل عدو للدين ودمر عليه، وألف له الأمة وردهم إليه بعد أن ارتد أكثرهم عن دينه، وانقلب الغالب منهم على أعقابهم كافرين، حتى قيل‏:‏ لم يبق يصلي إلا في ثلاثة مساجد‏:‏ الحرمين الشريفين، ومسجد العلاء بن الحضرمي بالبحرين، فردهم الله تعالى إلى الحق طوعا وكرها، وأطفأ به كل فتنة في أقل من ستة أشهر، ولله الحمد والمنة‏.‏

قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ الآيات‏.‏

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وقتادة‏:‏ هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة‏.‏

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب، إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم الزكاة‏.‏ وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم، فكره ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابهم على الله عز وجل‏؟‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ فوالله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏.‏

قال أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ كرهت الصحابة رضي الله عنهم- قتال مانعي الزكاة، وقالوا‏:‏ أهل القبلة، فتقلد أبو بكر رضي الله عنه سقفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج في أثره‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ سمعت أبا حصين يقول‏:‏ ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة، وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق‏:‏ منهم بنو مذحج، ورئيسهم ذو الخمار عبهلة بن كعب العنسي، ويلقب بالأسود، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم، وعلى النهوض لحرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه، قال رضي الله عنه‏:‏ فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء في الليلة التي قتل فيها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك‏.‏ قيل‏:‏ ومن هو‏؟‏ قال‏:‏ فيروز، فاز فيروز‏.‏ فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم من الغد، وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد ما خرج أسامة، وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه‏.‏

والفرقة الثانية‏:‏ بنو حنيفة، ورئيسهم مسيلمة الكذاب، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه اشترك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعث إليه رجلين من أصحابه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما، ثم أجاب‏:‏ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى مسيلمة الكذاب‏:‏ أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين‏.‏

ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي، وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة، وكان وحشي يقول‏:‏ قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام‏.‏

والفرقة الثالثة‏:‏ بنو أسد، ورأسهم طليحة بن خويلد، وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الردة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد، فهزمهم خالد بعد قتال شديد، وأفلت طليحة، فمر على وجهه هاربا نحو الشام، ثم إنه أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه‏.‏

وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم، ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب، واشرأب النفاق، ونزل بأبي ما نزل لو بحبار لهاضها‏.‏ انتهى من تفسير البغوي، رحمه الله‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، عن الحسن البصري ‏(‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ قال حسن‏:‏ هو والله أبو بكر وأصحابه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننة، وابن عساكر، عن قتادة‏:‏ قال الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏، وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد‏:‏ أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل جؤاثي من عبد القيس‏.‏

وقال الذين ارتدوا‏:‏ نصلي الصلاة ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل له‏:‏ إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة‏.‏ فقال‏:‏ والله لا أفرق بين شيء جمعه الله عز وجل، ولو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة‏.‏ قال قتادة‏:‏ فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه ‏(‏فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ إلى آخر الآية‏.‏

ولا ينافي هذا ما ورد من أنها نزلت في أهل اليمن كما أخرج ابن جرير، عن شريح بن عبيد قال‏:‏ لما أنزل الله ‏(‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ الآية، قال عمر رضي الله عنه‏:‏ أنا وقومي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل هذا وقومه- يعني‏:‏ أبا موسى الأشعري‏.‏

وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، عن عياض الأشعري قال‏:‏ لما نزلت ‏(‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏، قال رسول الله‏:‏ هم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم في جمعه لحديث شعبة، والبيهقي، وابن عساكر، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ تليت على النبي صلى الله عليه وسلم- ‏(‏فسوف يأتي الله بقوم‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قومك يا أبا موسى الأشعري، أهل اليمن‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم في الكني والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، وابن مردويه بسند حسن، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏(‏فسوف يأتي الله بقوم‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ الآية، فقال‏:‏ هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم كندة، ثم السكون، ثم تجيب‏.‏

وأخرج البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ هم قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال‏:‏ هم أهل القادسية‏.‏

قلت‏:‏ وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلا عن غيرهم، وكان بأس الناس الذي هم فيه، كما رواه ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ وكان يمر عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فيقول‏:‏ يا معشر المهاجرين كونوا أسودا، فإنما الفارسي تيس‏.‏ وقد قتل رضي الله عنه أسوارا فارس الفرس، وأبلى بلاء حسنا، وكانت له اليد البيضاء يومئذ‏.‏

وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه، عن القاسم بن ينخسرة قال‏:‏ أتيت ابن عمير فرحب بي، ثم تلا ‏(‏من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏، ‏(‏المائدة 54‏)‏ الآية، ثم ضرب على منكبي وقال‏:‏ أحلف بالله أنه لمنكم أهل اليمن‏.‏ ثلاثا‏.‏

وكل هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولا، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذ، وإنما ارتد كثير منهم مع الأسود، وثبت كثير منهم على الإيمان مع معاذ بن جبل، وأبي موسى، وفيروز الديلمي، وغيرهم من عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، ونشب بين مؤمنهم وكافرهم قتال عظيم، حتى قتل الله الأسود على يد فيروز، وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسى إلا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنه لم يزل يتابع الكتائب مددا لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام، وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب، وقيس بن مكشوح وغيرهم من أعظم الناس، وأشدهم بلاء في أيام الردة والفتوح، فحينئذ عاد المعنى إلى أبي بكر وأصحابه، وهم من أصحابه، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحب الله ويحبه، ويوالي فيه ويعادي فيه، ولا يخاف في الله لومة لائم‏.‏

وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك، وأقدمهم فيه، وأسبقهم إليه، وأول من تناولته الآية رضي الله عنه وأرضاه، وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين‏.‏

وفي الصحيحين، وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله عز وجل‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق‏.‏

وتفاصيل موافقه العظام رضي الله عنه مشهورة مبسوطة في كتب السيرة وغيرها، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وكانت وفاته رضي الله عنه في يوم الاثنين عشية، وقيل بعد المغرب، ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوما، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرئ على المسلمين فأقروا به، وسمعوا له وأطاعوا، وكان عمر الصديق رضي الله عنه يوم توفي ثلاثا وستين سنة، السن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة، فرضى الله عنه وأرضاه، ومن جميع أبواب الجنة دعاه، وقد فعل ولله الحمد والمنة‏.‏

خلافة الفاروق رضي الله عنه‏.‏

ثانيه في الفضل بلا ارتياب *** الصادع الناطق بالصواب

أعني به الشهم أبا حفص عمر *** من ظاهر الدين القويم ونصر

الصارم المنكى على الكفار *** وموسع الفتوح في الأمصار‏.‏

‏(‏ثانيه‏)‏ أي ثاني أبي بكر ‏(‏في الفضل‏)‏ على الناس بعده فلا أفضل منه، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع ‏(‏بلا ارتياب‏)‏ أي بلا شك ‏(‏الصادع‏)‏ بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ومنه قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏(‏فاصدع بما تؤمر‏)‏، ‏(‏الحجر 94‏)‏، فكان عمر رضي الله عنه كذلك، وبه سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاروقا ‏(‏الناطق بالصواب‏)‏، والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله، كما سيأتي ‏(‏أعني به‏)‏ أي بهذا النعت ‏(‏الشهم‏)‏ الذكي المتوقد السيد المطاع الحكم القوي في أمر الله الشديد في دين الله ‏(‏أبا حفص عمر‏)‏ بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوى ثاني الخلفاء، وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وأول من تسمى أمير المؤمنين، ‏(‏الصارم‏)‏ السيف المسلول ‏(‏المنكى‏)‏ من النكاية ‏(‏على الكفار‏)‏ لشدته عليهم، وإثخانه إياهم حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية، كما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ‏(‏وموسع‏)‏ من الاتساع ‏(‏الفتوح‏)‏ فتوح الإسلام ‏(‏في الأمصار‏)‏ فكمل فتوح بلاد الروم بعد اليرموك، ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق، ثم أوغل في بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها‏.‏

تقدمت إشارات النصوص النبوية إلى خلافته قريبا مع ذكر أبي بكر رضي الله عنه، وكثير من فضائله أيضا التي شارك فيها أبا بكر، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشخشة فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا بلال، ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت‏:‏ لمن هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فقال عمر‏:‏ بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار‏؟‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت‏:‏ لمن هذا القصر‏؟‏ فقالوا‏:‏ لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا، فبكى عمر، وقال‏:‏ أعليك أغار يا رسول الله‏؟‏

وعن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحا أوتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فصلى عمر بن الخطاب‏.‏ قالوا‏:‏ فما أولت ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ العلم‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ بينا أنا نائم، رأيت الناس عرضوا علي، وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب، وعليه قميص يجتره، قالوا‏:‏ فما أولته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الدين‏.‏

وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال‏:‏ استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه، ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته صلى الله عليه وسلم ، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر‏:‏ أضحك الله سنك يا رسول الله‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب‏.‏ فقال عمر‏:‏ فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقلن‏:‏ نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر‏.‏

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه، فقال‏:‏ تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم‏؟‏ قال‏:‏ إنما خيرني الله أو أخبرني الله، فقال‏:‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏)‏، ‏(‏التوبة 80‏)‏، فقال‏:‏ سأزيده على سبعين‏.‏ قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلينا معه، ثم أنزل الله عليه ‏(‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون‏)‏، ‏(‏التوبة 84‏)‏‏.‏ متفق على جميعها‏.‏

وفي البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لما مات عبد الله بن أبي بن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت إليه فقلت‏:‏ يا رسول الله أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا كذا وكذا، قال‏:‏ اعدد عليه قوله‏.‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال‏:‏ إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها‏.‏ قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ‏(‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ وهم فاسقون‏)‏، ‏(‏التوبة 84‏)‏، قال‏:‏ فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة أسارى بدر بطوله، قال ابن عباس‏:‏ فلما أسروا الأساري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر‏:‏ ما ترون في هؤلاء الأسارى‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ هم يا نبي الله بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ترى يا ابن الخطاب‏؟‏ قلت‏:‏ لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيبا لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى إله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبكي للذي عرض علي في أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل ‏(‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض- إلى قوله- فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏)‏، ‏(‏الأنفال 67- 69‏)‏ فأحل الله الغنيمة لهم‏.‏

وفي صحيح البخاري، عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ وافقت الله في ثلاث أو وافقني الله في ثلاث، قلت‏:‏ يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏)‏، ‏(‏البقرة 125‏)‏، وقلت‏:‏ يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال‏:‏ وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن قلت‏:‏ إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيرا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت‏:‏ يا عمر، ما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏وعسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات‏)‏، ‏(‏التحريم 5‏)‏‏.‏

وعنه رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال‏:‏ متى الساعة‏؟‏ قال‏:‏ وماذا أعددت لها‏؟‏ قال‏:‏ لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فقال‏:‏ أنت مع من أحببت‏.‏ قال أنس‏:‏ فما فرحنا بشيء كما فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنت مع من أحببت‏.‏ قال أنس‏:‏ فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم‏.‏

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجد وأجود، حتى انتهى من عمر بن الخطاب، رضي الله عنه‏.‏

وعن المسور بن مخرمة قال‏:‏ لما طعن عمر رضي الله عنه جعل يألم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وكأنه يجزعه‏:‏ يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم، ولئن فارقتهم، لتفارقنهم وهم عنك راضون‏.‏ قال‏:‏ أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من الله تعالى من به تعالى علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذلك من الله عز وجل ذكره، من به علي، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا، لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه‏.‏

وفيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي رضي الله عنه فترحم على عمر، وقال‏:‏ ما خلفت أحدا أحب إلى أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله تعالى مع صاحبيك، وحسبك أني كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول كثيرا‏:‏ ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر‏.‏ زاد مسلم في آخره أيضا‏:‏ فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما‏.‏ والأحاديث في فضله كثيرة جدا قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية‏.‏

قصة استشهاد الفاروق رضي الله عنه

وكان قصة استشهاده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى قال‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، وقف علي حذيفه بن اليمان وعثمان بن حنيف، وقال‏:‏ كيف فعلتما‏؟‏ أتخافان أن تكون قد حملتما الأرض ما لا تطيق‏؟‏ قالا‏:‏ حملناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال‏:‏ انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق‏.‏ قالا‏:‏ لا‏.‏ فقال عمر‏:‏ لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا‏.‏ قال‏:‏ فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال‏:‏ استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر حتى سمعته يقول‏:‏ قتلني، أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين، طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فلا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر رضي الله عنه، وهم يقولون‏:‏ سبحان الله سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال‏:‏ يا ابن عباس، انظر من قتلني‏.‏ فجال ساعة، ثم جاء فقال‏:‏ غلام المغيرة‏.‏ فقال‏:‏ الصنع‏؟‏ قال‏:‏ قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، فقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا‏.‏ فقال‏:‏ إن شئت فعلت، أي إن شئت قتلنا‏.‏ قال‏:‏ كذبت، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم‏؟‏ فاحتمل إلى بيته، فانطلقا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول‏:‏ لا بأس، وقائل يقول‏:‏ أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة‏.‏ قال‏:‏ وددت أن ذلك كفاف، لا علي ولا لي‏.‏ فلما أدبر، إذا إزاره يمس الأرض، قال‏:‏ ردوا علي الغلام‏.‏ قال‏:‏ ابن أخي، ارفع ثوبك، إنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك‏.‏ يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه‏.‏ قال‏:‏ إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل بني عدي بن كعب، فإن لن تف أموالهم، فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة فقل‏:‏ يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل‏:‏ يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه‏.‏ فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال‏:‏ يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه‏.‏ فقالت‏:‏ كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي‏.‏ فلما أقبل قيل‏:‏ هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال‏:‏ ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال‏:‏ ما لديك‏؟‏ قال‏:‏ الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت‏.‏ قال‏:‏ الحمد لله، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل‏:‏ يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين‏.‏ وجاءت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا‏:‏ أوص يا أمير المؤمنين، استخلف‏.‏ قال‏:‏ ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن، وقال‏:‏ ليشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وقال‏:‏ أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصارخيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم، فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر قال‏:‏ يستأذن عمر بن الخطاب، قالت‏:‏ أدخلوه‏.‏ فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه‏.‏ فلما فرع من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن‏:‏ اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير‏:‏ قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة‏:‏ قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد‏:‏ قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف‏.‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ أيكما تبرأ من هذا الأمر فلنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه‏؟‏ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن‏:‏ أفتجعلونه إلي، والله على أن لا آلو عن أفضلكم‏؟‏ قالا‏:‏ نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال‏:‏ لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال‏:‏ ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له علي رضي الله عنه، وولج أهل الدار فبايعوه رضي الله عنهم- أجمعين‏.‏

وكانت مدة خلافة الفاروق رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر، وكانت وفاته على المشهور لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر، وهي السن التي توفي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

وبويع لعثمان في ثلاث من المحرم دخول سنة أربع وعشرين، وأول من بايعه عبد الرحمن بن عوف، ثم علي بن أبي طالب، ثم بقيه أصحاب الشورى، ثم بقية أهل الدار، ثم بقيه المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين‏.‏