فصل: انفراده عز وجل بالإرادة والمشيئة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


انفراده عز وجل بالإرادة والمشيئة

باق فلا يفنى ولا يبيد *** ولا يكون غير ما يريد

منفرد بالخلق والإرادة *** وحاكم جل بما أراده

‏(‏باق‏)‏ كما أنه الأول بلا ابتداء، فهو الباقي بلا انتهاء، كما لا ابتداء لأوليته، كذلك لا انتهاء لآخريته ‏(‏فلا يفنى ولا يبيد‏)‏ بل هو المفني المبيد، وهو المبدئ المعيد، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون‏)‏، ‏(‏القصص 88‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏)‏، ‏(‏الرحمن 26- 27‏)‏، ‏(‏ولا يكون‏)‏ في الكون ‏(‏غير ما يريد‏)‏، والمراد بالإرادة هنا الإرادة القدرية الكونية التي لا بد لكل شيء منها، ولا محيص ولا محيد لأحد عنها، وهي مشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة، فما شاء الله تعالى كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو- سبحانه- الفعال لما يريد، ولا نفوذ لإرادة أحد إلا أن يريد، وما من حركة ولا سكون في السماوات ولا في الأرض إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع‏.‏

وورود ذلك في نصوص الكتاب والسنة معلوم، كقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏فعال لما يريد‏)‏، ‏(‏البروج 16‏)‏، ‏(‏فأراد ربك أن يبلغا أشدهما‏)‏، ‏(‏الكهف 82‏)‏، ‏(‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا‏)‏، ‏(‏الإسراء 16‏)‏، وهذا الأمر القدري الكوني غير الأمر الشرعي، فإن الله لا يأمر بالفسق شرعا، ولا يحب الفاسقين، وإنما هو أمر تكوين، ألا ترى أن الفسق علة ‏(‏حق القول عليهم‏)‏، و‏(‏حق القول عليهم‏)‏ علة لتدميرهم، وهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له، وذلك هو أمر التكوين، وقال‏:‏ ‏(‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏)‏، ‏(‏البقرة 185‏)‏، ‏(‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏)‏، ‏(‏يس 82‏)‏، ‏(‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا‏)‏، ‏(‏المائدة 41‏)‏، ‏(‏أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم‏)‏، ‏(‏المائدة 41‏)‏، وقول نوح لقومه‏:‏ ‏(‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون‏)‏، ‏(‏هود 34‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء‏)‏ ‏(‏الأنعام 125‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له‏)‏، ‏(‏الرعد 11‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأن الله يهدي من يريد‏)‏، ‏(‏قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا‏)‏، ‏(‏المائدة 17‏)‏، ‏(‏قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة‏)‏، ‏(‏الأحزاب 17‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا‏)‏، ‏(‏الفتح 11‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة‏)‏، ‏(‏آل عمران 176‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏)‏، ‏(‏الإسراء 18‏)‏، وقول صاحب يس‏:‏ ‏(‏أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون‏)‏، ‏(‏يس 23‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته‏)‏، ‏(‏الزمر 38‏)‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ‏"‏، ‏"‏ من يرد الله به خيرا يصب منه ‏"‏ ‏,‏ ‏"‏ إذا أراد الله رحمة أمة، قبض نبيها قبلها، وإذا أراد هلكة أمة، عذبها ونبيها حي، فأقر عينه بهلاكها ‏"‏ ‏,‏ ‏"‏ إذا أراد الله بعبد خيرا، عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد شرا، أمسك عنه بذنوبه حتى يوافى به يوم القيامة ‏"‏ ‏,‏ ‏"‏ إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة، إذا أراد الله بأهل بيت خيرا، أدخل عليهم باب الرفق ‏"‏، ‏"‏ إذا أراد الله بقوم عذابا، أصاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم‏.‏

والآثار النبوية في ذلك كثيرة، وكذلك لفظ ‏"‏ المشيئة ‏"‏ في الكتاب والسنة وروده معلوم، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد‏)‏، ‏(‏البقرة 253‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏)‏، ‏(‏آل عمران 40‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏)‏، ‏(‏الأنعام 137‏)‏، ‏(‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا‏)‏، ‏(‏يونس 99‏)‏، ‏(‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏)‏، ‏(‏هود 118‏)‏ ‏(‏ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا‏)‏، ‏(‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏)‏، ‏(‏الأنعام 30‏)‏، ‏(‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‏)‏، ‏(‏السجدة 13‏)‏، ‏(‏ولو شاء الله لانتصر منهم‏)‏، ‏(‏محمد 4‏)‏، ‏(‏ولو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏)‏، ‏(‏الإسراء 86‏)‏، ‏(‏فإن يشأ الله يختم على قلبك‏)‏، ‏(‏الشورى 24‏)‏، ‏(‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا‏)‏، ‏(‏النساء 133‏)‏، ‏(‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏)‏، ‏(‏الفتح 27‏)‏، ‏(‏إنما يأتيكم به الله إن شاء‏)‏، ‏(‏هود 33‏)‏، وقوله عن إمام الحنفاء‏:‏ ‏(‏ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما‏)‏، ‏(‏الأنعام 80‏)‏، وقوله عن الذبيح‏:‏ ‏(‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏)‏، ‏(‏الصافات 102‏)‏، وقوله عن شعيب عليه السلام‏:‏ ‏(‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما‏)‏، ‏(‏الأعراف 89‏)‏، وقوله عن يوسف‏:‏ ‏(‏ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏)‏، ‏(‏يوسف 99‏)‏، وقوله عن موسى‏:‏ ‏(‏ستجدني إن شاء الله صابرا‏)‏، ‏(‏الكهف 69‏)‏، وقوله عن قوم موسى‏:‏ ‏(‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏)‏ ‏(‏البقرة 70‏)‏ وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله‏)‏، ‏(‏الكهف 24‏)‏، ‏(‏قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله‏)‏، ‏(‏يونس 49‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏)‏، ‏(‏هود 107‏)‏، وعن أهل النار مثل ذلك، وقال‏:‏ ‏(‏ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم‏)‏، ‏(‏الإسراء 54‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏)‏، ‏(‏المائدة 40‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏)‏، ‏(‏الشورى 27‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏)‏، ‏(‏الإسراء 30‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏)‏، ‏(‏الرعد 39‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به‏)‏، ‏(‏يونس 16‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا‏)‏، ‏(‏الإنسان 28‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وما يذكرون إلا أن يشاء الله‏)‏، ‏(‏المدثر 56‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏، ‏(‏الإنسان 30‏)‏، فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم هذا وهذا، وقال‏:‏ ‏(‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير‏)‏، ‏(‏آل عمران 260‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم‏)‏، ‏(‏الأحزاب 24‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يختص برحمته من يشاء‏)‏، ‏(‏آل عمران 74‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولكن الله يزكي من يشاء‏)‏، ‏(‏النور 21‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏والله يضاعف لمن يشاء‏)‏، ‏(‏البقرة 261‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏نصيب برحمتنا من نشاء‏)‏، ‏(‏يوسف 76‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏نرفع درجات من نشاء‏)‏، ‏(‏يوسف 56‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏)‏، ‏(‏يوسف 56‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولكن الله يمن على من يشاء من عباده‏)‏، ‏(‏إبراهيم 11‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين‏)‏، ‏(‏يوسف 110‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏الله يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء‏)‏، ‏(‏الروم 48‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن ربي لطيف لما يشاء‏)‏، ‏(‏يوسف 100‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يؤتي الحكمة من يشاء‏)‏، ‏(‏البقرة 299‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولو نشاء لطمسنا على أعينهم‏)‏، ‏(‏يس 66‏)‏، ‏(‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏)‏ ‏(‏البقرة 20‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره‏)‏، ‏(‏الشورى 33‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولو نشاء لجعلناه حطاما‏)‏، ‏(‏الواقعة 65‏)‏، ‏(‏لو نشاء جعلناه أجاجا‏)‏، ‏(‏الواقعة 70‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء‏)‏، ‏(‏التوبة 28‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد‏)‏، ‏(‏فاطر 16‏)‏، ‏(‏إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏)‏، ‏(‏الأنعام 133‏)‏، ‏(‏ولو شاء الله لأعنتكم‏)‏، ‏(‏البقرة 22‏)‏، ‏(‏الله يجتبي إليه من يشاء‏)‏، ‏(‏الشورى 13‏)‏، ‏(‏والله يضاعف لمن يشاء‏)‏، ‏(‏البقرة 261‏)‏، ‏(‏وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة‏)‏، ‏(‏القصص 68‏)‏، ‏(‏لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، ‏(‏ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، ‏(‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏)‏، ‏(‏آل عمران 6‏)‏، ‏(‏في أي صورة ما شاء ركبك‏)‏، ‏(‏الانفطار 8‏)‏، ‏(‏ولكن الله يمن على من يشاء من عباده‏)‏، ‏(‏إبراهيم 11‏)‏، ‏(‏الله لطيف بعباده يرزق من يشاء‏)‏، ‏(‏الشورى 19‏)‏، ‏(‏ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر‏)‏، ‏(‏القصص 82‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ساق نحوا من هذه الآيات‏:‏ وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال‏:‏ نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم، وهو- سبحانه- يخبر تارة أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته، وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه ‏(‏رب العالمين‏)‏، وكونه القيوم القائم بتدبير أمور عباده، فلا خلق ولا رزق، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط، ولا موت ولا حياة، ولا ضلال ولا هدى، ولا سعادة ولا شقاوة، إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه، إذ لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، ولا رب غيره‏.‏ اهـ‏.‏

والأحاديث من السنة النبوية في إثبات المشيئة كثيرا جدا، منها قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الجنين‏:‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك‏.‏ وقوله‏:‏ اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء ‏"‏، ‏"‏ إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء ‏"‏، ‏"‏ إن الله لو شاء لم تناموا عنها، ولكنه أراد ليكون لمن بعدكم ‏"‏، ‏"‏ قولوا ما شاء الله وحده ‏"‏، ‏"‏ قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف يشاء ‏"‏، ‏"‏ ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك‏.‏ وقوله عن الله عز وجل‏:‏ فذلك فضلي أوتيه من أشاء‏.‏ وقوله‏:‏ مثل الكافر كمثل الأرزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء‏.‏ وقوله‏:‏ تعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله عز وجل سحائب من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده‏.‏ وقوله في حديث البيعة‏:‏ ومن أصاب في ذلك شيئا فستره الله، فهو إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له‏.‏ وفي حديث احتجاج الجنة والنار قوله تعالى للجنة‏:‏ أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء‏.‏ وللنار‏:‏ أنت عذابي، أعذب بك من أشاء‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وارزقني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله تعالى لا مكره له‏.‏ وقوله‏:‏ ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل‏.‏ وقوله عن الله عز وجل‏:‏ ذلك بأني جواد أفعل ما أشاء، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون‏.‏ وقوله‏:‏ ما أنعم الله على عبد من نعمة من أهل وولد، فيقول‏:‏ ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آية دون الموت‏.‏ وفي حديث الشفاعة‏:‏ فيدعني ما شاء الله أن يدعني‏.‏ وفي حديث آخر أهل الجنة دخولا الجنة‏:‏ فيسكت ما شاء الله أن يسكت‏.‏ وفيه قوله تعالى‏:‏ لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قدير‏.‏ وقال‏:‏ فأريد- إن شاء الله- أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي‏.‏ وقال‏:‏ لا يدخل النار- إن شاء الله- من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد‏.‏ وقال‏:‏ إني لأطمع أن يكون حوضي- إن شاء الله- ما بين أيلة إلى كذا‏.‏ وقال في المدينة‏:‏ لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، إن شاء الله تعالى‏.‏ وفي زيارة القبور‏:‏ وإنا- إن شاء الله- بكم لاحقون‏.‏ وفي حصار الطائف‏:‏ إنا قافلون غدا، إن شاء الله‏.‏ وفي قدومه مكة‏:‏ منزلنا غدا- إن شاء الله- بخيف بني كنانة‏.‏ وفي قصة بدر‏:‏ هذا مصرع فلان غدا، إن شاء الله‏.‏ وهذا مصرع فلان، إن شاء الله‏.‏ وفي بعض أسفاره‏:‏ إنكم تأتون الماء غدا، إن شاء الله‏.‏ وقال‏:‏ من حلف فقال إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حنث‏.‏

وقال‏:‏ لأغزون قريشا، ثم قال في الثانية‏:‏ إن شاء الله‏.‏ وقال‏:‏ ألا مشمر للجنة‏؟‏ فقال الصحابة‏:‏ نحن المشمرون لها يا رسول الله، فقال‏:‏ قولوا‏:‏ إن شاء الله، قالوا‏:‏ إن شاء الله‏.‏ وغير ذلك من الأحاديث الثابتة‏.‏

‏(‏منفرد‏)‏ ربنا عز وجل ‏(‏بالخلق‏)‏ فما من مخلوق في السماوات والأرض إلا الله خالقه- سبحانه- لا خالق غيره، ولا رب سواه، فهو خالق كل صانع وصنعته، وخالق الكافر وكفره، والمؤمن وإيمانه، والمتحرك وحركته، والساكن وسكونه، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل‏)‏، ‏(‏الزمر 62‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏)‏، ‏(‏فاطر 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير‏)‏، ‏(‏التغابن 2‏)‏، ‏(‏خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير‏)‏، ‏(‏التغابن 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والله خلقكم وما تعملون‏)‏، ‏(‏الصافات 96‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏)‏، ‏(‏الروم 40‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم‏)‏، ‏(‏النحل 80- 81‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم‏)‏، ‏(‏الواقعة 58- 74‏)‏، وفي الصحيح من أحاديث الأشعريين‏:‏ ما أنا أحملكم، ولكن الله حملكم‏.‏ وفيه من حديث المصورين‏:‏ ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرا‏.‏ وفيه‏:‏ من صور صورة، كلف الله أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ‏.‏ وغير ذلك من الأحاديث الثابتة الصحيحة، فلله الخلق والأمر، وله الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏ ‏(‏والإرادة‏)‏ أي ومنفرد بالإرادة، فلا مراد لأحد معه، ولا إرادة لأحد إلا بعد إرادته عز وجل ومشيئته، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما تشاءون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة‏)‏، ‏(‏المدثر 54- 56‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏)‏، ‏(‏التكوير 27- 29‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما‏)‏، ‏(‏الإنسان 29- 31‏)‏، فللعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة، والله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، ولا قدرة لهم ولا مشيئة إلا بإقدار الله عز وجل لهم إذا شاء وأراد‏.‏

‏(‏وحاكم جل بما أراده‏)‏، فلا معقب لحكمه، ولا راد لإرادته، ولا مناقض لقضائه وقدره، ‏(‏وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض بل هو فعال لما يريد- وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة- بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون- إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون- إن الله يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء‏)‏، لا ناقص لما أبرم، ولا معارض لما حكم، ولا يقال لم فعل كذا‏؟‏ وهلا كان كذا؛ لأنه ‏(‏لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 23‏)‏‏.‏

وفي حديث أبي ذر، عن الترمذي وغيره، وفي آخره قال‏:‏ ذلك بأني جواد واجد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته، أن أقول له كن فيكون‏.‏

فمن يشأ وفقه بفضله *** ومن يشأ أضله بعدله

فمنهم الشقي والسعيد *** وذا مقرب وذا طريد‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏)‏، ‏(‏الأنعام 59‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون‏)‏، ‏(‏الأعراف 178‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون‏)‏ ‏(‏الأعراف 186‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه‏)‏، ‏(‏الإسراء 97‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا‏)‏ ‏(‏الكهف 17‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏)‏، ‏(‏فاطر 8‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء‏)‏، ‏(‏الأنعام 125‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏)‏، ‏(‏الرعد 27‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏)‏، ‏(‏القصص 56‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء‏)‏، ‏(‏البقرة 272‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون‏)‏، ‏(‏يونس 35‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن هدى الله هو الهدى‏)‏، ‏(‏البقرة 120‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن الهدى هدى الله‏)‏، ‏(‏آل عمران 73‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‏)‏، ‏(‏الشمس 6‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته‏:‏ من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، إنك أنت وليها ومولاها‏.‏

‏(‏فمنهم‏)‏ أي من عباده ‏(‏الشقي‏)‏ وهو من أضله بعدله، ‏(‏و‏)‏ منهم ‏(‏السعيد‏)‏، وهو من وفقه وهداه بفضله، فالسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، فلله الحمد على فضله وعدله، ‏(‏وذا مقرب‏)‏ بتقريب الله إياه، وهو السعيد ‏(‏وذا طريد‏)‏ بإبعاد الله إياه، وهو الشقي البعيد، فبيده تعالى الهداية والإضلال، والإشقاء والإسعاد، فهدايته العبد وإسعاده فضل ورحمة، وإضلاله وإبعاده عدل منه وحكمة، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله، وهو الحكيم العليم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو أعلم بمن هو محل الهداية فيهديه، ومن هو محل الإضلال فيضله، وهو أحكم الحاكمين ‏,‏ وهو عليم بالمتقين ‏,‏ وعليم بالظالمين ‏,‏ وعليم بالمهتدين، وهو أعلم بالشاكرين ‏,‏ وأعلم بما في صدور العالمين ‏,‏ وهو أعلم حيث يجعل رسالته ‏,‏ وهو أعلم بمن ضل عن سبيله ‏,‏ وهو أعلم بمن اهتدى، وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولذا نقول‏:‏

لحكمة بالغة قضاها *** يستوجب الحمد على اقتضاها‏.‏

أي إن جميع أفعاله من هدايته من يشاء، وإضلاله من يشاء، وإسعاد من يشاء، وإشقاء من يشاء، وجعله أئمة الهدى يهدون إلى الحق بأمره، وأئمة الضلالة يهدون إلى النار، وإلهامه كل نفس فجورها وتقواها، وجعله المؤمن مؤمنا، والكافر كافرا عاصيا مع قدرته التامة الشاملة، وأنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء لجمعهم على الهدى، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولكن هذا الذي فعله بهم من قسمتهم إلى ضال ومهتد، وشقي وسعيد، ومقرب وطريد، وطائع وعاص، ومؤمن وكافر، وغير ذلك هو مقتضى حكمته، وموجب ربوبيته، وحكمته حكمة حق، وهي صفته القائمة به كسائر الصفات، وهي متضمن اسمه ‏"‏ الحكيم ‏"‏ وهي الغاية المحبوبة له، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، ومنع وأعطى، وخلق السماوات والأرض، والآخرة والأولى، فهو- سبحانه- الحكيم في خلقه وتكوينه، الحكيم في قضائه وقدره، الحكيم في أمره ونهيه وجميع شرعه، فإن أسمائه وصفاته صفات كمال وجلال، وأفعاله كلها عدل وحكمة، والفعل لغير حكمة عبث، والعبث من صفات النقص، والله تعالى منزه بجميع أسمائه وصفاته وأفعاله عن جميع النقائص، فجميع ما خلقه وقضاه وقدره خير وحكمة، من جهة إضافته إليه- سبحانه وتعالى- وكذلك جميع ما شرعه وأمر به، كله حكمة وعدل، وما كان من شر في قضائه وقدره، فمن جهة إضافته إلى فعل العبد؛ لأنها معصية مذمومة، مكروهة للرب غير محبوبة، وأما من جهة إضافته إلى الرب عز وجل فخير محض، ولحكمة بالغة، وعدل تام، وغاية محمودة، لا شر فيها البتة، ولهذا قال تعالى فيما قصه عن الجن‏:‏ ‏(‏وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا‏)‏، ‏(‏الجن 10‏)‏، فبنى الفعل في إرادة الشر للمفعول؛ لأنه لا شر في حقه تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الافتتاح في صلاة الليل‏:‏ لبيك اللهم وسعديك، والخير كله في يديك، الشر ليس إليك‏.‏ فنفى أن يضاف الشر إلى الله بوجه من الوجوه، وإن كان هو خالقه؛ لأنه ليس شرا من جهة إضافته إليه عز وجل، وإنما كان شرا من جهة إضافته إلى العبد، وذلك لأن الشر ليس إلا السيئات وعقوبتها، وموجب السيئات شر النفس وجهلها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي علمه أمته‏:‏ اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ وقال تعالى في حكايته استغفار الملائكة للمؤمنين‏:‏ ‏(‏وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم‏)‏، ‏(‏غافر 9‏)‏، ومن وقاه الله السيئات وأعاذه منها، فقد وقاه عقوبتها من باب الاستلزام، فإذا علم أن موجب السيئات هو الظلم والجهل، وذلك من نفس العبد، وهي أمور ذاتية لها، وأن السيئات هي موجب العقوبة، والعقوبة من الله عدل محض، وإنما تكون شرا في حق العبد، لما يلحقه من ألمها، وذلك بما كسبت يداه جزاء وفاقا، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏)‏، ‏(‏الشورى 30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين‏)‏، ‏(‏الزخرف 76‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏)‏، ‏(‏يونس 44‏)‏‏.‏

فأفعال الله عز وجل كلها خير بصدورها عن علمه وحكمته، وعدله وغناه التي هي من صفات ذاته، فإذا أراد بعبده الخير، أعطاه من فضله علما وعدلا وحكمة، فيصدر منه الإحسان والطاعة، والبر والخير، وإذا أراد به شرا، أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه لذلك ظلما منه- سبحانه- فإنه فضله يؤتيه من يشاء، وليس من منع فضله ظالما ولا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به، وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته تعالى أن يلطف بعبده، ويعينه ويوفقه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله، وهو أعلم بمن يصلح لذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏)‏، ‏(‏الأنعام 153‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين‏)‏، ‏(‏العنكبوت 10- 11‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته‏)‏، ‏(‏الأنعام 124‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏)‏، ‏(‏الأنعام 116‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين‏)‏، ‏(‏النحل 37‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى‏)‏، ‏(‏النجم 30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏)‏، ‏(‏البقرة 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين‏)‏، ‏(‏التين 7- 8‏)‏، بلى ونحن على ذلك من الشاهدين، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏)‏، ‏(‏آل عمران 73- 74‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى‏)‏، ‏(‏النجم 32‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏)‏، ‏(‏الحديد 28- 29‏)‏، اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين‏.‏

يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض، برحمتك نستغيث، اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏.‏

‏(‏يستوجب‏)‏ يستحق ‏(‏الحمد على اقتضاها‏)‏ الضمير للحكمة، فله الحمد على مقتضى حكمته في جميع خلقه وأمره، فجميع ما يفعله ويأمر به هو موجب ربوبيته، ومقتضى أسمائه وصفاته، وله الحمد على جميع أفعاله، وله الحمد على خلقه وأمره، وهو المحمود على طاعة العباد ومعاصيهم، وأيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلقه، الأبرار والفجار، وعلى خلقه الملائكة والشياطين، وعلى خلقه الرسل وأعداءهم، وهو المحمود على عدله وحكمته في أعدائه، كما هو المحمود على فضله ورحمته على أوليائه، وكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحكمته وحمده، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏)‏، ‏(‏الإسراء 44‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏)‏، ‏(‏التغابن 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه الله وتعالى عما يشركون‏)‏، ‏(‏القصص 98‏)‏، ‏(‏وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون‏)‏، ‏(‏القصص 69- 70‏)‏، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الاعتدال من الركوع‏:‏ ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد‏.‏ وفي الذكر عقب الصلوات‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏

وفي التلبية‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك‏.‏ وفي الدعاء المأثور‏:‏ اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله‏.‏ وفي دعاء الافتتاح من صلاة الليل‏:‏ اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق‏.‏ الحديث‏.‏

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، والمقصود أن الرب عز وجل لا يكون إلا محمودا، كما لا يكون إلا ربا وإلها، فله الحمد كله، وله الملك كله، لا شريك له في حمده، كما لا شريك له في ملكه، وإن كان بعض خلقه محمودا كالرسل والعلماء، فمرجع ذلك الحمد إليه، كما أن مصدره وموجبه منه تعالى، وهو الذي جعلهم كذلك، وهذا كما أنه الملك لا شريك له في ملكه، ويرزق بعض عباده إذا شاء ملكا، وهو مالكه وملكه، وكما أنه العليم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فيعلم بعض عباده من علمه ما شاء‏.‏

وقال في ذكر عبده يعقوب عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإنه لذو علم لما علمناه‏)‏، ‏(‏يوسف 68‏)‏، وكذلك ما من محمود في السماوات ولا في الأرض إلا وذلك الحمد راجع إلى الله عز وجل في الحقيقة، فحمد كل محمود داخل في حمده، كما أن كل ملك داخل في ملكه، وكل شيء فمنه وله وإليه، فله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم‏.‏

‏(‏مسألة‏)‏‏:‏ فإن قيل قد أخبرنا الله عز وجل في كتابه، وعلى لسان رسوله، وبما علمنا من صفاته أنه يحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يحب الظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد مع كون ذلك بمشيئته وإرادته، وأنه لو شاء لم يكن ذلك، فإنه لا يكون في ملكه ما لا يريد، فما الجواب‏؟‏ قلنا‏:‏ إن الإرادة والقضاء والأمر كل منها ينقسم إلى كوني وشرعي، ولفظ المشيئة لم يرد إلا في الكوني، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏ ومثال الإرادة الكونية قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏، ومثال القضاء الكوني قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون‏)‏، ومثال الأمر الكوني قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا‏)‏، فهذا القسم من الإرادة والقضاء والأمر هو مشيئته الشاملة، وقدرته النافذة، وليس لأحد خروج منها، ولا محيد عنها، ولا ملازمة بينها وبين المحبة والرضا، بل يدخل فيها الكفر والإيمان، والسيئات والطاعات، والمحبوب المرضي له والمكروه المبغض، كل ذلك بمشيئته وقدره، وخلقه وتكوينه، ولا سبيل إلى مخالفتها، ولا يخرج عنها مثقال ذرة‏.‏

ومثال الإرادة الشرعية قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما‏)‏، ومثال القضاء الشرعي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏)‏، ومثال الأمر الشرعي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏)‏، وهذه الإرادة والقضاء والأمر الكوني القدري هو المستلزم لمحبة الله تعالى ورضاه، فلا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه، ولا ينهى إلا عما يكرهه ويأباه، ولا ملازمة بين هذا القسم وما قبله إلا في حق المؤمن المطيع، وأما الكافر فينفرد في حقه الإرادة والقضاء والأمر الكوني القدري، فالله- سبحانه وتعالى- يدعو عباده إلى طاعته ومرضاته وجنته، ويهدي لذلك من يشاء في الكون والقدر هدايته، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏(‏والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏)‏، فعمم الدعوة إلى جنته وهي دار السلام، وأنه يدعو إلى ذلك جميع عباده، وهو أعلم بمن يستجيب ممن لا يستجب، وخص الهداية بمن يشاء هدايته، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏يهدي الله لنوره من يشاء‏)‏‏.‏

‏(‏مسألة‏)‏‏:‏ فإن قيل‏:‏ أليس بممكن في قدرته تعالى أن يجعلهم كلهم طائعين مؤمنين مهتدين‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، وقد قدمنا لك جملة وافية من الآيات والآحاديث في ذلك، ولكن قدمنا لك أيضا أن هذا الذي فعله بهم هو مقتضى حكمته وأسمائه وصفاته، وموجب ربوبيته وإلهيته، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله، فحينئذ قول القائل لم كان من عباده الطائع والعاصي‏؟‏كقول من قال‏:‏ لم كان من أسمائه الضار النافع، والمعطي المانع، والخافض الرافع، والمنعم المنتقم، ونحو ذلك‏؟‏ إذ أفعاله تعالى هي مقتضى أسمائه وآثار صفاته، فالاعتراض عليه في أفعاله اعتراض على أسمائه وصفاته، بل وعلى إلهيته وربوبيته، فسبحان رب العرش عما يصفون، لا يسئل عما يفعل، وهم يسألون‏.‏

‏(‏مسألة‏)‏‏:‏ واعلم أنه قد يوسوس الشيطان لبعض الناس، فيقول‏:‏ ما الحكمة في تقدير السيئات مع كراهة الله تعالى إياها‏؟‏ وهل يأتي المكروه بمحبوب‏؟‏ فنقول‏:‏ الحمد لله إيمانا بإلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، واستسلاما لأقداره وإرادته، وتسليما لعدله وحكمته ‏,‏ اعلم يا أخي، وفقنا الله وإياك أن الواجب على العبد أمر أهم من ذلك البحث، وهو الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والتسليم لأقداره، واليقين بعدله وحكمته، والفرح بفضله ورحمته، ونحن لا نعلم من حكمة الله وسائر أسمائه وصفاته إلا ما علمناه، ولا يحيط بكنه شيء منها ونهايته إلا الذي اتصف بها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، ومما علمناه من ذلك بما علمنا الله- تبارك وتعالى- أن السيئة لذاتها ليست محبوبة لله ولا مرضية، كما قال تعالى بعد أن نهى عباده عن الكبائر المذكورة في سورة الإسراء‏:‏ ‏(‏كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها‏)‏، ولكن يترتب عليها من محابه ومرضاته ما هو أعلم به، إما في حق فاعلها من التوبة والإنابة، والإذعان والاعتراف بقدرة الله عليه، والخوف من عقابه ورجاء مغفرته، ونفي العجب المحبط للحسنات عنه، ودوام الذل والانكسار، وتمحض الافتقار وملازمة الاستغفار، وغير ذلك من الفرائض والطاعات المحبوبة للرب عز وجل التي أثنى في كتابه على المتصفين بها غاية الثناء‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، فقال من شدة الفرح‏:‏ اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح‏.‏ أخرجاه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فالواجب على العبد كراهة ما يكرهه ربه وإلهه وسيده ومولاه من السيئات، وعدم محبتها والنفرة منها، والاجتهاد في كف النفس عنها، وأطرها على محاب الله، وأن لا يصدر عنها شيء يكرهه الله عز وجل فإن غلبته نفسه بجهلها وشرارتها فصدر عنه شيء من ذلك المكروه، فليبادر إلى دواء ذلك وليتداركه بمحاب الله عز وجل ومرضاته من التوبة والإنابة، والاستغفار والأذكار، وعدم الإصرار، فإن الله تعالى قد أرشد إلى ذلك، وأثنى على من اتصف به، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين‏)‏ ‏(‏آل عمران 133- 136‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وفي الحديث‏:‏ لو لم تذنبوا، لأتى الله بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم، أو كما قال‏.‏ فإن ترتب على فعل السيئة من فاعلها هذه الأمور المحبوبة للرب عز وجل، فذلك غاية مصلحة العبد وسعادته وفلاحه، وإن لم يقع منه ذلك، فلخبث نفسه وعدم صلاحيتها للملأ الأعلى ومجاورة المولى، والله أعلم بالمهتدين، وحينئذ يترتب عليها فرائض الله عز وجل على أوليائه المؤمنين من الدعوة إلى الله عز وجل التي هي من وظائف الرسل- عليهم السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أعظم فرائض الله تعالى، والجهاد في سبيله الذي هو ذروة سنام الإسلام، وعليه يترتب لأوليائه الفتح أو الشهادة، ويكفيك في فضل ذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين‏)‏، ‏(‏التوبة 111- 112‏)‏، ولو سردنا ما في هذا الباب من الآيات والأحاديث، لطال الفصل، ونحن نستغفر الله العظيم من الخوض في هذا الباب، ولسنا من الراسخين في العلم، وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث في هذا في باب الإيمان بالقدر، وهناك نذكر مراتبه ومذاهب من خالف فيه أهل السنة والجماعة، إن شاء الله -تعالى- والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

إثبات البصر والسمع لله عز وجل

وهو الذي يرى دبيب الذر *** في الظلمات فوق صم الصخر

وسامع للجهر والإخفات *** بسمعه الواسع للأصوات‏.‏

في هذين البيتين إثبات البصر لله تعالى المحيط بجميع المبصرات، وإثبات السمع له المحيط بجميع المسموعات، وهاتان الصفتان من صفات ذاته تعالى وهما متضمن اسميه ‏"‏ السميع البصير ‏"‏، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا‏)‏، ‏(‏النساء 58‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏، ‏(‏الشورى 11‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير‏)‏، ‏(‏الحج 61‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع‏)‏، ‏(‏الكهف 26‏)‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ثم روى عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أبصر به وأسمع‏)‏ فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع، وقال ابن زيد‏:‏ ‏(‏أبصر به وأسمع‏)‏ يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم، إنه كان سميعا بصيرا‏.‏

وقال البغوي- رحمه الله تعالى‏:‏ أي ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع، أي لا يغيب عن سمعه وبصره شيء‏.‏ وقال تعالى لموسى وهارون- عليهما السلام‏:‏ ‏(‏إنني معكما أسمع وأرى‏)‏، ‏(‏طه 46‏)‏، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنعه، لست بغافل عنكما، فلا تهتما‏.‏

وقال تعالى لهما في موضع آخر‏:‏ ‏(‏كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون‏)‏، ‏(‏الشورى 15‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون‏)‏، ‏(‏الزخرف 80‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وقل اعملوا فسيرى الله عملكم‏)‏، ‏(‏التوبة 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم يعلم بأن الله يرى‏)‏، ‏(‏العلق 14‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم‏)‏، ‏(‏الشعراء 220‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا‏)‏، ‏(‏آل عمران 181‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير‏)‏، ‏(‏المجادلة 1‏)‏، وعن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏(‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير‏)‏‏.‏ رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا، وأخرجه النسائي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وفي رواية له عنها رضي الله عنها- أنها قالت‏:‏ تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول‏:‏ يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك‏.‏ قالت‏:‏ فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏(‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما‏)‏، قالت‏:‏ وزوجها أوس بن الصامت‏.‏ وقال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد‏:‏ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏وكان الله سميعا بصيرا‏)‏، وذكر خبر عائشة هذا معلقا‏.‏

وروى عن أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال‏:‏ أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا، ثم أتى علي وأنا أقول في نفسي‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال‏:‏ يا عبد الله بن قيس، قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن جبريل عليه السلام ناداني، قال‏:‏ إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك‏.‏ وروي في باب قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون‏)‏، ‏(‏فصلت‏:‏ 22‏)‏، عن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، كثيرة الشحم بطونهم، قليلة الفهم قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا‏.‏ وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم‏)‏ الآية‏.‏

وروى أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ‏(‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏سميعا بصيرا‏)‏، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها ويضع إصبعيه‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال المقرئ‏:‏ يعني ‏(‏إن الله سميع بصير‏)‏ يعني أن لله سمعا وبصرا‏.‏ قال أبو داود- رحمه الله تعالى‏:‏ وهذا رد على الجهمية اهـ‏.‏

قلت‏:‏ يعني أبو داود رحمه الله أن الجهمية لا يثبتون لله تعالى اسما ولا صفة مما سمى ووصف نفسه تعالى به، وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يثبتون أن الله هو السميع البصير، ولا أنه يسمع ويرى ويبصر، فرارا بزعمهم من التشبيه بالمخلوقين، فنزهوه عن صفات كماله التي وصف بها نفسه، وهو أعلم بنفسه وبغيره، وشبهوه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر، قال الله عز وجل عن خليله إبراهيم عليه السلام في دعوته أباه إلى الله عز وجل‏:‏ ‏(‏يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا‏)‏، ‏(‏مريم 42‏)‏‏.‏ وقد أثبت الجهمية- قبحهم الله- حجة لعباد الأصنام، وجوابا لإنكار خليل الله وجميع رسله عليهم، فكان للكفار أن يقولوا‏:‏ ومعبودكم أيضا لا يسمع ولا يبصر، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‏.‏

وقالت المعتزلة‏:‏ سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، واطردوا جميع أسمائه هكذا، فأثبتوا أسماء ونفوا ما تتضمنه من صفات الكمال، وهو عبارة عن إثبات الألفاظ دون المعاني، وقولهم في الحقيقة راجع إلى قول الجهمية، مخالف كل منهما للكتاب والسنة والعقول الصحيحة والفطر السليمة، وهدى الله تعالى بفضله أهل السنة لفهم كتابه، وآمنوا بما وصف به نفسه، وأقروا به كما أخبر ونفوا عنه التشبيه، كما جمع تعالى بينهما في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏‏.‏

العلم الإلهي

علمه بما بدا وما خفى *** أحاط علما بالجلي والخفي

أي ومما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم أنه عليم بعلم، وإن علمه محيط بجميع الأشياء من الكليات والجزيئات، وهو من صفاته الذاتية، وعلمه أزلي بأزليته، وكذلك جميع صفاته، فقد علم تعالى في الأزل جميع ما هو خالق، وعلم جميع أحوال خلقه، وأرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وعلم عدد أنفاسهم ولحظاتهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، أين تقع‏؟‏ ومتى تقع‏؟‏ وكيف تقع‏؟‏ كل ذلك بعلمه وبمرأى منه ومسمع، لا تخفى عليه منهم خافية، سواء في علمه الغيب والشهادة، والسر والجهر، والجليل والحقير، لا + يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا في الدنيا ولا في الآخرة، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم‏)‏، ‏(‏البقرة 235‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما تفعلوا من خير يعلمه الله‏)‏، ‏(‏البقرة 197‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏)‏، ‏(‏البقرة 215‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏)‏، ‏(‏البقرة 283‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏)‏، ‏(‏آل عمران 5‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏)‏، ‏(‏الأنعام 59‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏)‏، ‏(‏البقرة 187‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏)‏، ‏(‏يونس 61‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏)‏، ‏(‏هود 5‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والله بكل شيء عليم‏)‏، ‏(‏النساء 176‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏)‏، ‏(‏الرعد 8- 10‏)‏، وقال عن نبيه شعيب‏:‏ ‏(‏وسع ربنا كل شيء علما‏)‏، ‏(‏الأعراف 89‏)‏، وقال تعالى عن خليله‏:‏ ‏(‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء‏)‏، ‏(‏إبراهيم 38‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏)‏، ‏(‏النحل 23‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وربك أعلم بمن في السماوات والأرض‏)‏ ‏(‏الإسراء 55‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى‏)‏، ‏(‏طه 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما‏)‏، ‏(‏طه 110‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم‏)‏، ‏(‏الأنبياء 4‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 110‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير‏)‏، ‏(‏الحج 70‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم‏)‏، ‏(‏النور 64‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين‏)‏، ‏(‏النمل 74- 75‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير‏)‏، ‏(‏لقمان 16‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم‏)‏، ‏(‏السجدة 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما‏)‏، ‏(‏الأحزاب 54‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏)‏، ‏(‏سبأ 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير‏)‏، ‏(‏فاطر 11‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور‏)‏، ‏(‏فاطر 38‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏)‏، ‏(‏غافر 19‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنه بكل شيء محيط‏)‏، ‏(‏فصلت 54‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم‏)‏، ‏(‏محمد‏:‏ 30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم‏)‏، ‏(‏الحجرات 16‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون‏)‏ ‏(‏الحجرات 18‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏)‏، ‏(‏ق 16‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار‏)‏، ‏(‏ق 45‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى‏)‏، ‏(‏النجم 30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى‏)‏، ‏(‏النجم 32‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير‏)‏، ‏(‏الحديد 4‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبؤهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم‏)‏، ‏(‏المجادلة 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل‏)‏، ‏(‏الممتحنة 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور‏)‏، ‏(‏التغابن 4‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة‏)‏، ‏(‏سبأ 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم‏)‏ ‏(‏التغابن 4‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما‏)‏، ‏(‏الطلاق 12‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏)‏، ‏(‏تبارك 13‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن ربك هو أعلم من بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏)‏، ‏(‏القلم 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا‏)‏، ‏(‏الجن 26- 28‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك‏)‏ ‏(‏المزمل 20‏)‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏)‏، ‏(‏الأعلى 7‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا‏)‏، ‏(‏النور 63‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير‏)‏، ‏(‏لقمان 34‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون‏)‏، ‏(‏النساء 166‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏)‏، ‏(‏فصلت 47‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أن ما أنزل بعلم الله‏)‏، ‏(‏هود 14‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله سميع عليم- إن الله عليم حكيم- إن الله عليم خبير- إن الله كان عليما حكيما- إن الله كان عليما خبيرا- إنه عليم بذات الصدور‏)‏، ولو ذهبنا نسوق جميع الآيات في إثبات علم الله عز وجل -، لطال الفصل، وفيما ذكرنا كفاية‏.‏

وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلم السورة من القرآن، يقول‏:‏ إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل‏:‏ اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيرا لي في عاجل أمري وآجله، أو قال‏:‏ في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال‏:‏ في عاجل أمري وآجله، فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به‏.‏ وفيهما من حديث تعاقب الملائكة بأطراف النهار‏:‏ فيسألهم وهو أعلم بهم‏.‏ وفيهما دعاء الكرب‏:‏ لا إله إلا الله العليم الحليم‏.‏

وفيهما من حديث الذي أوصى أن يحرق ويذري، ثم قال‏:‏ لم فعلت‏؟‏ قال‏:‏ من خشيتك، وأنت أعلم‏.‏ وفيهما من حديث قصة موسى والخضر‏:‏ إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم‏؟‏ فقال‏:‏ أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إلى الله‏.‏ وفي رواية ‏"‏ إليه ‏"‏، وفيه قول الخضر عليه السلام‏:‏ يا موسى، إنك على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، إلى أن قال‏:‏ فركبا في السفينة، قال‏:‏ ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى‏:‏ ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره‏.‏ وفي رواية‏:‏ إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏

وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله‏:‏ لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله‏.‏ وفيهما من حديث أبي موسى الأشعري‏:‏ اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني‏.‏ إلى غير ذلك من الأحاديث‏.‏

وكما أخبر الله تعالى عن علمه بما كان وما سيكون، كذلك أخبر عما لم يكن من الممكنات والمستحيلات لو كان كيف يكون، فقال تعالى في الممكن على تقدير وقوعه‏:‏ ‏(‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون‏)‏، ‏(‏الأنعام 9‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي‏)‏، ‏(‏فصلت 44‏)‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏)‏، ‏(‏الأنعام 109- 110‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين‏)‏، ‏(‏الشعراء 198- 199‏)‏، إلى غير ذلك‏.‏

وقال تعالى في المستحيلات لو قدر إمكانها‏:‏ ‏(‏لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 22‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون‏)‏، ‏(‏المؤمنون 91‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل لو كان فيهما آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا‏)‏، ‏(‏الإسراء 42- 43‏)‏، إلى غير ذلك‏.‏

وأنكرت الجهمية والمعتزلة أن يكون لله علم أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى الموصوف، فأنكروا أن يكون أنزل القرآن بعلمه، وأن أنثى لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه، وجحدوا أن يكون قد أحاط بكل شيء علما، وحاربوا نصوص الكتاب والسنة وجميع سلف الأمة، فليس معبودهم هو العليم الخبير الذي هو بكل شيء عليم، وإنما يعبدون العدم المحض الذي لا حقيقة له ولا وجود، فليصفوه بما شاءوا، فبعدا للقوم الظالمين‏.‏

وهو الغني بذاته سبحانه *** جل ثناؤه تعالى شأنه

وكل شيء رزقه عليه *** وكلنا مفتقر إليه‏.‏

‏(‏وهو الغني بذاته‏)‏، فله الغنى المطلق، فلا يحتاج إلى شيء ‏(‏سبحانه‏)‏ وبحمده تنزيها له وتحميدا ‏(‏جل ثناؤه تعالى شأنه‏)‏ تعظيما له وتمجيدا، ‏(‏وكل شيء رزقه عليه‏)‏ لا رازق له سواه، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وكلنا معشر المخلوقات ‏(‏مفتقر إليه‏)‏، لا غنى لنا عنه طرفة عين، فكما أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه تعالى في وجودها، فلا وجود لها إلا به، فهي مفتقرة إليه في قيامها، فلا قوام لها إلا به، فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه، فهو الحي القيوم القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى شيء القيم لغيره، فلا قوام لشيء إلا به، فللخالق مطلق الغنى وكماله، وللمخلوق مطلق الفقر إلى الله وكماله، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز‏)‏، ‏(‏فاطر 15- 17‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد‏)‏، ‏(‏التغابن 5- 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد‏)‏، ‏(‏الحج 64‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم‏)‏، ‏(‏الأنعام 14‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‏)‏، ‏(‏الذريات 56- 58‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله غنيا حميدا‏)‏، ‏(‏النساء 131‏)‏، وقال تعالى ردا على اليهود‏:‏ ‏(‏لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا‏)‏، ‏(‏آل عمران 180‏)‏، وقال ردا عليهم أيضا‏:‏ ‏(‏وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏)‏، ‏(‏المائدة 64‏)‏، وقال تعالى ردا على المنافقين‏:‏ ‏(‏هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون‏)‏، ‏(‏المنافقون 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا‏)‏، ‏(‏الإسراء 100‏)‏، والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، يخبر تعالى بكمال غناه عن خلقه، وأنه لا يزيد في غناه طاعة من أطاع، ولا ينقصه معصية من عصى، وأنه لم يخلق الخلق لحاجة إليهم، وأنه لو شاء لم يخلقهم، ولو شاء لذهب بهم وجاء بغيرهم، ويخبر أنهم كلهم فقراء إليه، لا غنى لهم عنه في نفس من الأنفاس، وهم يعلمون ذلك من أنفسهم، وأنهم لم يكونوا موجودين حتى أوجدهم، ولا قدرة لهم على شيء من أنفسهم ولا غيرها إلا بما أقدرهم عليه الغني الحميد الفعال لما يريد، وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا‏.‏ يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم‏.‏ يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏.‏ يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏.‏ يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم‏.‏ يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏.‏ يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا‏.‏ يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا‏.‏ يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي، ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة‏.‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه‏.‏ رواه مسلم، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه‏.‏

وفي رواية الترمذي‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني، غفرت له ولا أبالي، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم، وجنكم وإنسكم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد واجد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون‏.‏

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يد الله ملأى لا تغضيها نفقة سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه‏.‏ وروى أبو داود بإسناد جيد من حديث عائشة رضي الله عنها- في الاستسقاء، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغا إلى حين‏.‏ وفي بعض الإسرائيليات، يقول الله عز وجل‏:‏ أيؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به، أو من ذا الذي رجاني لعظم فقطعت به، أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له، أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني، أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي، فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، لو جمعت أهل السماوات والأرض، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محارمي‏.‏ انتهى‏.‏

وجاء في بعض ألفاظ حديث النزول‏:‏ من يقرض غير عديم ولا ظلوم‏.‏ والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، لو أردنا استقصاءها لطال الفصل، وفيما ذكرنا كفاية، فسبحان من وسع خلقه بغناه، وافتقر كل شيء إليه، وهو الغني عما سواه، ‏(‏ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد‏)‏، ‏(‏لقمان 12‏)‏‏.‏