فصل: كلام الله عز وجل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


كلام الله عز وجل

كلم موسى عبده تكليما *** ولم يزل بخلقه عليما

أي ومما أثبته ربنا عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم تكليمه عبده ورسوله موسى بن عمران بدون واسطة رسول بينه وبينه، بل أسمعه كلامه الذي هو صفته اللائقة بذاته كما شاء وعلى ما أراد، قال الله عز وجل في سورة البقرة‏:‏ ‏(‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات‏)‏، ‏(‏البقرة 253‏)‏، وقال في سورة النساء‏:‏ ‏(‏وكلم الله موسى تكليما‏)‏، ‏(‏النساء 164‏)‏، فأكده بالمصدر مبالغة في البيان والتوضيح، وقال تعالى في سورة الأعراف‏:‏ ‏(‏ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين‏)‏، ‏(‏الأعراف 143- 145‏)‏، وقال تعالى في سورة مريم‏:‏ ‏(‏واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا‏)‏، ‏(‏مريم 51- 53‏)‏، وقال تعالى في سورة طه‏:‏ ‏(‏وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وما تلك بيمينك يا موسى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏ألقها يا موسى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى‏)‏، ‏(‏طه 9- 21‏)‏، إلى آخر الآيات، وقال في سورة الشعراء‏:‏ ‏(‏وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون‏)‏، ‏(‏الشعراء 10- 11‏)‏ الآيات، وقال تعالى في سورة النمل‏:‏ ‏(‏إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه‏)‏، ‏(‏النمل 7- 12‏)‏ الآيات، وقال تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏(‏فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين‏)‏، ‏(‏القصص 29- 32‏)‏ الآيات، والقرآن ممتلئ بذلك‏.‏

وفي الصحيحين من حديث احتجاج آدم وموسى- عليهما السلام- عند ربهما، وفيه قول آدم لموسى‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالاته وبكلامه‏؟‏ الحديث، وفيهما من حديث الشفاعة قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله‏.‏ وفي رواية‏:‏ ولكن ائتوا موسى، عبدا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما‏.‏ وفي رواية‏:‏ ولكن ائتوا موسى، عبدا آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجيا‏.‏

فقد أخبرنا الله عز وجل أنه اصطفى عبده موسى بكلامه، واختصه بإسماعه إياه بدون واسطة، وأنه ناداه وناجاه وكلمه تكليما، وأخبرنا تعالى بما كلمه به، وبالموضع الذي كلمه فيه، وبالميقات الذي كلمه فيه، وأخبر عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في أصح الروايات، فأي كلام أفصح من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأي بيان أوضح من بيان الله ورسوله، وبأي برهان يقنع من لم يقنع بذلك، ‏(‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏)‏، ‏(‏الجاثية 6‏)‏، وفي هذا أعلى دلالة وأبينها، وأوضحها على ثبوت صفة الكلام لربنا عز وجل، وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء بكلام يسمعه من يشاء، أسمعه موسى عليه السلام كيف شاء وعلى ما أراد، وقد ثبت بالكتاب والسنة نداؤه الأبوين- عليهما السلام- إذ يقول‏:‏ ‏(‏وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين‏)‏، ‏(‏الأعراف 22‏)‏، وأن الملائكة تسمع كلام الله بالوحي، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير‏)‏، ‏(‏سبأ 23‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ إن نبي الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق وهو العلي الكبير‏.‏ الحديث، وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا، نادى جبريل‏:‏ إن الله قد أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء‏:‏ إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض‏.‏ وثبت بالكتاب والسنة كلامه مع الرسل والملائكة وغيرهم يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب‏)‏، ‏(‏المائدة 109‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏)‏، ‏(‏النحل 83‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون‏)‏، ‏(‏النحل 85‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏)‏، ‏(‏القصص 62‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين‏)‏، ‏(‏القصص 65‏)‏، وأنه يقول لأهل الجنة‏:‏ سلام عليكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏سلام قولا من رب رحيم‏)‏، وأنه يقول لأهل النار‏:‏ ‏(‏اخسئوا فيها ولا تكلمون‏)‏، ‏(‏المؤمنون 108‏)‏، والقرآن ممتلئ بذلك‏.‏

وفي الصحيح عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان‏.‏ الحديث، وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك، فينادي بصوت‏:‏ إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار‏.‏ وفيه تعليقا عن جابر، عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‏:‏ أنا الملك، أنا الديان‏.‏

وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ وفيه عنه رضي الله عنه قال‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا أنا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة‏.‏ وفيه من حديث الشفاعة‏:‏ يقول الله- عز وجل‏:‏ من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فأخرجوه‏.‏ الحديث، وفيه من حديث آخر أهل الجنة دخولا الجنة‏:‏ فيقول الله تعالى‏:‏ اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها‏.‏

وفيه من كلامه تعالى مع أهل الموقف قوله تعالى‏:‏ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، وقوله عز وجل للمؤمنين‏:‏ أنا ربكم‏.‏ وفيه في باب كلام الرب عز وجل مع أهل الجنة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، فيقولون‏:‏ لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك‏.‏ فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك‏.‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا‏.‏

وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه‏.‏ وفيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها‏.‏ الحديث‏.‏

وفيهما من حديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ خلق الله الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم فقال‏:‏ مه‏؟‏ قالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة‏.‏ فقال‏:‏ ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك‏؟‏ الحديث‏.‏ وفيه من حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ إذا أحب عبدي لقائي، أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي، كرهت لقاءه‏.‏

وفيه من حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي‏.‏ وفيه من حديثه أيضا في قصة المذنب المستغفر الحديث، وفيه‏:‏ فقال ربه‏:‏ أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي‏.‏ وذكر الحديث، وفيه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال‏:‏ مطر النبي صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن بي‏.‏ وفيه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في ذكر طي الله تعالى السماوات والأرض، وفيه‏:‏ ثم يهزهن، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أنا الملك‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه من حديث عبد الله، عن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأله‏:‏ كيف سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى‏؟‏ قال‏:‏ يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقول تعالى‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، ويقول‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقرره ثم يقول‏:‏ إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابا‏:‏ لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتديا بها‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ قد أردت أهون من هذا، وأنت في صلب آدم ألا تشرك- أحسبه قال‏:‏ ولا أدخلك النار- فأبيت إلا الشرك‏.‏

وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول له‏:‏ ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا‏؟‏ وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا‏.‏ فيقول‏:‏ لا، فيقول له‏:‏ اليوم أنساك كما نسيتني‏.‏ رواه مسلم والترمذي، وقال‏:‏ هذا حديث صحيح غريب‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ اليوم أنساك كما نسيتني، اليوم أتركك في العذاب ا هـ‏.‏

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها- في قصة الإفك، قالت‏:‏ ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا، يبرئني الله بها، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين جاءوا بالإفك‏)‏ العشر الآيات،

ولو ذهبنا ننقل الأحاديث في قال الله، ويقول ويتكلم، وينادي ونحو ذلك لطال الفصل، وفيما ذكرنا كفاية‏.‏

وهذه الآيات والأحاديث مما ذكرنا ومما لم نذكر كلها شاهدة بأن الله تعالى لم يزل متكلما بمشيئته وإرادته، يتكلم بما شاء، كيف شاء متى شاء بكلام حقيقة، يسمعه من يشاء من خلقه، وأن كلامه قول حقيقة كما أخبر، وعلى ما يليق بعظمته كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏والله يقول الحق‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏سلام قولا من رب رحيم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إنه لقول فصل وما هو بالهزل‏)‏، والقرآن كلامه تعالى تكلم به حقيقة كما شاء، وهو من فاتحته إلى خاتمته شاهد بذلك، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- بحثه قريبا، وكلامه تعالى صفة من صفاته من لوازم ذاته، والصفة تابعة لموصوفها، فصفات الباري تبارك وتعالى قائمة به أزلية باقية ببقائه، لم يزل متصفا بها ولا يزال كذلك، لم تجدد له صفة لم يكن متصفا بها، ولا تنفد صفة كان متصفا بها، بل هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم‏.‏

كلامه جل عن الإحصاء *** والحصر والنفاد والنفاء

لو صار أقلاما جميع الشجر *** والبحر تلقى فيه سبعة أبحر

والخلق تكتبه بكل آن *** فنت وليس القول منه فان

قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا‏)‏، ‏(‏الكهف 109‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم‏)‏، ‏(‏لقمان 27‏)‏‏.‏

قال ابن كثير- رحمه الله تعالى‏:‏ يقول الله تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا إطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل‏:‏ لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله‏)‏، أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا، وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله تعالى الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم، كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآيات الأخرى‏:‏ ‏(‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا‏)‏، فليس المراد بقوله‏:‏ ‏(‏بمثله‏)‏ آخر فقط، بل بمثله، ثم بمثله، ثم بمثله، ثم هلم جرا؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته‏.‏

قال الحسن البصري‏:‏ لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحر مدادا، وقال الله تعالى‏:‏ إن من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحر، وتكسرت الأقلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قال المشركون‏:‏ إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏)‏، أي لو كان شجر الأرض أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر، ما كانت لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه‏.‏ وقال الربيع بن أنس- رحمه الله‏:‏ إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك‏:‏ ‏(‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏)‏ الآية، يقول‏:‏ لو كان البحر مدادا لكلمات الله، والأشجار كلها أقلاما، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدره قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول‏.‏

قال‏:‏ وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود، قال ابن إسحاق- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة‏:‏ يا محمد، أرأيت قولك‏:‏ ‏(‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏)‏ إيانا تريد أم قومك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلاكما‏.‏ قالوا‏:‏ ألست تتلو فيما جاءنا، أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم‏.‏ وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك‏:‏ ‏(‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏)‏ الآية‏.‏

وهكذا روي عن عكرمة، وعطاء بن يسار، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية، والمشهور أنها مكية، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله عزيز حكيم‏)‏، أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد، ولا مخالف لأمره، ولا معقب لحكمه، حكيم في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه‏.‏ انتهى‏.‏

وعن جويرية رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال‏:‏ ما زلت على الحال التي فارقتك عليها‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم، لوزنتهن‏:‏ سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته‏.‏ رواه مسلم والأربعة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة‏؟‏ قال‏:‏ أما لو قلت حين أمسيت‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر‏.‏ والأحاديث في الباب كثيرة، والمقصود أن كلمات الله باقية لا تنفد أبدا، تامة لا تنقص أبدا، وذلك لأن كلامه صفته، وليس من صفاته شيء ينفد، ولذا أخبرنا تعالى أن جميع أشجار الأرض لو كانت أقلاما، والبحار وأضعافها مدادا، يكتب بها كلماته، لنفدت كلها وكلماته لا تنفد، وذلك لأن الأشجار والبحار مخلوقة، والمخلوقات من لازمها النفاد والفناء، وكلمات الله صفته، وليس من صفاته شيء يفنى، بل هو الباقي بأسمائه وصفاته أزلا وأبدا، ‏(‏كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون‏)‏، ‏(‏القصص 88‏)‏‏.‏

كلام الله الذي في كتابه عين كلامه ليس بمخلوق

والقول في كتابه المفصل *** بأنه كلامه المنزل

على الرسول المصطفى خير الورى *** ليس بمخلوق ولا بمفترى

‏(‏والقول‏)‏ الذي نعتقد وندين الله به ‏(‏في‏)‏ شأن ‏(‏كتابه المفصل‏)‏ بسكون اللام للروي، وهو القرآن، وصفة الله تعالى بذلك فقال‏:‏ ‏(‏كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏)‏، ‏(‏هود 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا‏)‏، ‏(‏فصلت 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي نزل إليكم الكتاب مفصلا‏)‏، ‏(‏الأنعام 114‏)‏، وغير ذلك من الآيات ‏(‏بأنه كلامه‏)‏ حقيقة، حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏)‏، ‏(‏التوبة 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل‏)‏، ‏(‏الفتح 15‏)‏‏.‏

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنكم لا ترجعون إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه‏.‏ يعني القرآن‏.‏ رواه أبو داود، والحاكم وصححه‏.‏ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الرب تبارك وتعالى‏:‏ من شغله القرآن عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه‏.‏ رواه الترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ وروى ابن خزيمة، عن نيار بن مكرم الأسلمي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال‏:‏ لما نزلت ‏(‏آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر الآيتين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏)‏، ‏(‏الروم 1- 2‏)‏، فقال رؤساء مشركي مكة‏:‏ يا ابن أبي قحافة، هذا مما أتى به صاحبك‏؟‏ قال‏:‏ لا والله، لكنه كلام الله وقوله‏.‏ وذكر الحديث‏.‏

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقبل المصحف، ويقول‏:‏ كلام ربي، كلام ربي‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ إن هذا القرآن كلام الله، فضعوه على مواضعه‏.‏ وقال خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ القرآن كلام الله، فمن رد منه شيئا، فإنما يرد على الله‏.‏ وعنه رضي الله عنه قال‏:‏ إن أحسن الكلام كلام الله‏.‏

ويروى ذلك عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح في الصحيح‏.‏ وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة ولا أنظر في كلام الله‏.‏ يعني‏:‏ القراءة في المصحف‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله، فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن، فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله‏.‏ + فهذه النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة، وأنه هو الذي قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏آلم، آلمص، آلر، آلمر، كهيعص، طه، طس، طسم، حم عسق‏)‏، وليس كلام الله المعاني دون الحروف، ولا الحروف دون المعاني، بل حروفه ومعانيه عين كلام الله‏.‏

‏(‏المنزل‏)‏ من عند الله عز وجل ‏(‏على الرسول المصطفى خير الورى‏)‏ محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله- تبارك تعالى‏:‏ ‏(‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏)‏، ‏(‏البقرة 136‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا‏)‏، ‏(‏آل عمران 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله‏)‏، ‏(‏النساء 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به‏)‏، ‏(‏النساء 60‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا‏)‏ ‏(‏النساء 136‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله‏)‏، ‏(‏البقرة 285‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين‏)‏، ‏(‏البقرة 97‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها‏)‏، ‏(‏النساء 47‏)‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله‏)‏، ‏(‏آل عمران 199‏)‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏)‏، ‏(‏النساء 166‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا‏)‏، ‏(‏النساء 166‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا‏)‏، ‏(‏النساء 174‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به‏)‏، ‏(‏البقرة 231‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه‏)‏، ‏(‏المائدة 48‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏)‏، ‏(‏المائدة 48‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس‏)‏، ‏(‏المائدة 59‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها‏)‏، ‏(‏الأنعام 92‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أفغير دين الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فالذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين‏)‏، ‏(‏الأنعام 114‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه‏)‏، ‏(‏الأنعام 155‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آلمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون‏)‏، ‏(‏الأعراف 1- 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‏)‏، ‏(‏البقرة 23‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم‏)‏، ‏(‏التوبة 86‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا‏)‏، ‏(‏التوبة 124‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا‏)‏، ‏(‏التوبة 127‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏)‏، ‏(‏هود 14‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد‏)‏، ‏(‏إبراهيم 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون‏)‏، ‏(‏يوسف 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك هو الحق‏)‏، ‏(‏الرعد 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أنزلناه حكما عربيا‏)‏، ‏(‏الرعد 37‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏)‏، ‏(‏الحجر 9‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون‏)‏، ‏(‏النحل 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏)‏، ‏(‏النحل 89‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه‏)‏، ‏(‏النحل 64‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزلنا عليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم‏)‏، ‏(‏النحل 44‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمؤمنين‏)‏، ‏(‏النحل 10- 12‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا‏)‏، ‏(‏الإسراء 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما‏)‏، ‏(‏الكهف 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون‏)‏ ‏(‏الأنبياء 10‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون‏)‏، ‏(‏الأنبياء 50‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد‏)‏، ‏(‏الحج 16‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد‏)‏، ‏(‏طه 113‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وهدى وموعظة للمتقين‏)‏، ‏(‏النور 34‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏)‏، ‏(‏النور 46‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا‏)‏، ‏(‏الفرقان 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما‏)‏، ‏(‏الفرقان 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏)‏، ‏(‏الشعراء 192‏)‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم‏)‏، ‏(‏النمل 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون‏)‏، ‏(‏القصص 1- 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‏)‏، ‏(‏لقمان 21‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك‏)‏، ‏(‏السجدة 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏واتبع ما يوحى إليك من ربك‏)‏، ‏(‏الأحزاب 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق‏)‏، ‏(‏سبأ 6‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تنزيل العزيز الرحيم‏)‏، ‏(‏يس 5‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏)‏، ‏(‏الجاثية 2‏)‏، ‏(‏إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق‏)‏، ‏(‏النساء 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق‏)‏، ‏(‏الزمر 41‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏)‏، ‏(‏الزمر 55‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏)‏، ‏(‏غافر 1- 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يؤمنون‏)‏، ‏(‏فصلت 1- 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏)‏، ‏(‏فصلت 41- 42‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه‏)‏، ‏(‏الأنعام 155‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب‏)‏، ‏(‏ص 29‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏)‏، ‏(‏الدخان 1- 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏)‏، ‏(‏الزمر 1- 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين‏)‏، ‏(‏الواقعة 75- 80‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‏)‏، ‏(‏الحديد 25‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هو الذي ينزل على عبده آيات بينات‏)‏، ‏(‏الحديد 9‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا‏)‏، ‏(‏التغابن 8‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين‏)‏، ‏(‏القلم 51- 52‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين‏)‏، ‏(‏الحاقة 38- 43‏)‏، وقوله تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏(‏إنه لقول رسول كريم‏)‏، يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفي سورة التكوير يعني به جبريل، ومعنى الإضافة في كلا الآيتين إنما هو التبليغ؛ لأن من حق الرسول أن يبلغ عن المرسل، لا أن القرآن كلام الرسول الملكي ولا البشري، كما بين تعالى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏تنزيل من رب العالمين‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏)‏، ‏(‏القدر 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏الرحمن علم القرآن‏)‏، ‏(‏الرحمن 1- 2‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن‏)‏، ‏(‏يوسف 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، بل القرآن كله فاتحته إلى خاتمته يشهد بأنه كلام الله وتنزيله، وقصصه وتعليمه، وألفاظه ومعانيه، وإيجازه وإعجازه، يرشد إلى أنه كلام الخالق عز وجل- وصفته، وأنه لا يستطيع البشر الإتيان بسورة من مثله، وقد أقر بذلك كل عاقل حتى المشركون، كما قال أكفر قريش الوليد بن المغيرة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فرجع إلى قومه، فقال أبو جهل‏:‏ قل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال‏:‏ وماذا أقول فيه‏؟‏ فوالله ما منكم رجل أعرفه بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإن ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته‏.‏ قال‏:‏ لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال‏:‏ قف حتى أفكر فيه، فلما فكر قال‏:‏ إن هذا إلا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت‏:‏ ‏(‏فذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا‏)‏، ‏(‏المدثر 11- 12‏)‏ الآيات، رواه البيهقي وغيره‏.‏

ويروى عن عتبة حين قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حم السجدة نحو ذلك، وكذا أبو جهل، قبحهم الله‏.‏

فتبين بهذا أن قولهم فيه‏:‏ سحر، شعر، كهانة، وغير ذلك من مفترياتهم، إنما قالوه عنادا ومكابرة، وإلا فقد استيقنوا أنه لا يدخل تحت طوق أحد من البشر، ونحن وجميع أهل السنة والجماعة نشهد الله الذي أنزله بعلمه وشهد به، ونشهد ملائكته الذين شهدوا بذلك، ونشهد رسوله الذي أنزل عليه وبلغه إلى الأمة، ونشهد جميع المؤمنين الذين صدقوه وآمنوا به، أنا مؤمنون مصدقون شاهدون بأنه كلام الله عز وجل وتنزيله، وأنه تكلم به قولا، وأنزله على رسوله وحيا، ولا نقول إنه حكاية عن كلام الله عز وجل أو عبارة، بل هو عين كلام الله، حروفه ومعانيه، نزل به من عنده الروح الأمين، على محمد خاتم المرسلين، وكل منهما مبلغ عن الله عز وجل، والكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس‏)‏، ‏(‏المائدة 67‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏)‏، ‏(‏التغابن 12‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏)‏، ‏(‏النور 54‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ‏)‏، ‏(‏الشورى 48‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته‏)‏، ‏(‏الجن 23‏)‏، والآيات في هذا كثيرة جدا، يخبر تعالى عن رسوله أنه مبلغ عنه، مؤد لما أرسله به، وهذا يعرفه كل أحد يعقل لفظة رسول، فإن الرسول لا بد له من مرسل برسالاته، فالمرسل الله عز وجل، والرسالة هي القرآن، والمرسل محمد صلى الله عليه وسلم المبلغ رسالة ربه، وقال أنس‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم خاله حراما إلى قومه، وقال‏:‏ أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فجعل يحدثهم‏.‏ وقال المغيرة رضي الله عنه‏:‏ أخبرنا نبينا، عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي، فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏)‏‏.‏ وفي خطبته في موقف الحج الأكبر، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون‏؟‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت‏.‏ وفيها إشارته بيده إلى السماء قائلا‏:‏ اللهم هل بلغت‏؟‏ اللهم اشهد‏.‏ قالها مرارا‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره، ثم قال‏:‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول‏:‏ يا رسول الله أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك‏.‏ متفق عليه‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في المواسم، ويقول‏:‏ إني رسول الله، وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي‏.‏ وغير ذلك من الأحاديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه مخبر عن الله، ومبلغ رسالته، وأن ما أمر به ونهى عنه، وأخبر به، هو تبليغ لأمر الله ونهيه وخبره، وأنه لم يقل شيئا من عند نفسه، فيقول هو من عند الله، ومن اعتقد ذلك، فهو كافر من حزب أبي جهل والوليد بن المغيرة وملئهم، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم‏)‏، ‏(‏الحاقة 44- 52‏)‏‏.‏

‏(‏ليس بمخلوق‏)‏ كما يقول الزنادقة من الحلولية والاتحادية والجهمية والمعتزلة وغيرهم، تعالى الله عز وجل عن أن يكون شيئا من صفاته مخلوقا، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألا له الخلق والأمر‏)‏، ‏(‏الأعراف 54‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏)‏، ‏(‏يس 83‏)‏، فأخبر تعالى أن الخلق غير الأمر، وأن القرآن من أمره لا من خلقه، وقال‏:‏ ‏(‏إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏، ‏(‏النحل 40‏)‏، فكن من كلامه الذي هو صفته ليس بمخلوق، والشيء المراد المقول له ‏"‏ كن ‏"‏ مخلوق، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏)‏، ‏(‏آل عمران 9‏)‏، فعيسى وآدم مخلوقان بكن، وكن قول الله صفة من صفاته، وليس الشيء المخلوق هو كن، ولكنه كان بقول الله له كن‏.‏

وقد انعقد إجماع سلف الأمة الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون على تكفير من قال بخلق القرآن، وذلك لأنه لا يخلو قوله من إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يقول أنه خلقه في ذاته، أو في غيره، أو منفصلا مستقلا، وكل الثلاث كفر صريح؛ لأنه إن قال خلقه في ذاته، فقد جعل ذاته محلا للمخلوقات، وإن قال إنه خلقه في غيره، فهو كلام ذلك الغير، فيكون القرآن على هذا كلام كل تال له، وهذا قول الوليد بن المغيرة فيما حكى الله عنه، حيث قال تعالى‏:‏ ‏(‏إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر‏)‏، ‏(‏المدثر 18- 29‏)‏ الآيات، وإن قال إنه خلقه منفصلا مستقلا، فهذا جحود لوجوده مطلقا، إذ لا يعقل ولا يتصور كلام يقوم بذاته بدون متكلم، كما لا يعقل سمع بدون سميع، ولا بصر بدون بصير، ولا علم بدون عالم، ولا إرادة بدون مريد، ولا حياة بدون حي، إلى غير ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فهذه الثلاث لا خروج لزنديق منها، ولا جواب له عنها، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين‏.‏

أصل القول بخلق القرآن

وأول ما اشتهر القول بخلق القرآن في آخر عصر التابعين، لما ظهر جهم بن صفوان شقيق إبليس- لعنهما الله- وكان ملحدا عنيدا، وزنديقا زائغا، مبتغيا غير سبيل المؤمنين، لم يثبت أن في السماء ربا، ولا يصف الله تعالى بشيء مما وصف به نفسه، وينتهي قوله إلى جحود الخالق عز وجل‏.‏ ترك الصلاة أربعين يوما، يزعم يرتاد دينا، ولما ناظره بعض + السنية في معبوده، قال قبحه الله‏:‏ هو هذا الهواء في كل مكان، وافتتح مرة سورة طه، فلما أتى على هذه الآية ‏(‏الرحمن على العرش استوى‏)‏، ‏(‏طه 5‏)‏، قال‏:‏ لو وجدت السبيل إلى حكها لحككتها، ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى، فقال‏:‏ ما كان أظرف محمدا حين قالها، ثم افتتح سورة القصص، فلما أتى على ذكر موسى، جمع يديه ورجليه، ثم رفع المصحف، ثم قال‏:‏ أي شيء هذا ذكره ها هنا فلم يتم ذكره، وذكره ها هنا فلم يتم ذكره‏.‏

وقد روي عنه غير هذا من الكفريات، وهو أذل وأحقر من أن نشتغل بترجمته، وقد يسر الله تعالى ذبحه على يد سالم بن أحوز بأصبهان، وقيل بمرو، وهو يومئذ نائبها، رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرا‏.‏

وقد تلقى هذا القول عن الجعد بن درهم، لكنه لم يشتهر في أيام الجعد، كما اشتهر عن الجهم، فإن الجعد لما أظهر القول بخلق القرآن، تطلبه بنو أمية، فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان، فتقلد هذا القول عنه، ولم يكن له كثير أتباع غيره، ثم يسر الله تعالى قتل الجعد على يد خالد بن عبد الله القسري الأمير، قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك لأن خالدا خطب الناس، فقال في خطبته تلك‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقوله الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر‏.‏

روى ذلك البخاري في كتابه خلق أفعال العباد، ورواه ابن أبي حاتم في كتاب السنة له وغيرهما، وهو مشهور في كتب التواريخ، وذلك سنة أربع وعشرين ومائة، وقد أخذ الجعد بدعته هذه عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالون ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله تعالى في ذلك سورة المعوذتين، ثم تقلد هذا المذهب المخذول، عن الجهم بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي المتكلم، شيخ المعتزلة وأحد من أضل المأمون، وجدد القول بخلق القرآن، ويقال إن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة، وروي عنه أقوال شنيعة في الدين من التجهم وغيره، مات سنة ثماني عشرة ومائتين‏.‏

ثم تقلد عن بشر ذلك المذهب الملعون قاضي المحنة أحمد بن أبي دواد، وأعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بالقول بخلق القرآن، وعلى أن الله لا يرى في الآخرة، وكان بسببه ما كان على أهل الحديث والسنة من الحبس والضرب والقتل، وغير ذلك، وقد ابتلاه الله تعالى بالفالج قبل موته بأربع سنين، حتى أهلكه الله تعالى سنة أربعين ومائتين، ومن أراد الاطلاع على ذلك وتفاصيله، فليقرأ كتب التواريخ ير العجب‏.‏