فصل: تفسير الآيات (27- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (27- 30):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يعني: في النار، كقوله تعالى: {على ملك سليمان} أي: في ملك سليمان، وقيل: عرضوا على النار، وجواب {لو} محذوف معناه: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} يعني: إلى الدنيا، {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة كلها بالرفع على معنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون من المؤمنين، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب {ولا نكذب}، {ونكون} بنصب الباء والنون على جواب التمني، أي: ليت ردنا وقع، وأن لا نكذب ونكون، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء، وقرأ ابن عامر {نكذب} بالرفع و{نكون} بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا.
{بَلْ بَدَا لَهُمْ} قوله: {بل} تحته رد لقولهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم، ظهر لهم، {مَا كَانُوا يُخْفُونَ} يسرون، {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم، وقيل: ما كانوا يخفون وهو قولهم {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام، 23]، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا، إلا أن تجعل الآية في المنافقين، وقال المبرد: بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون، وقال النضر بن شميل: بل بدا عنهم.
ثم قال: {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا} يعني إلى ما {نُهُوا عَنْهُ} من الكفر، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم، لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.
{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} هذا إخبار عن إنكارهم البعث، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، هذا من قولهم لو ردوا لقالوه.
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: على حكمه وقضائه ومسألته، وقيل: عرضوا على ربهم، {قَالَ} لهم وقيل: تقول لهم الخزنة بأمر الله، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؟ يعني: أليس هذا البعث والعذاب بالحق؟ {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إنه حق، قال ابن عباس: هذا في موقف، وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر، وفي القيامة مواقف، ففي موقف يقرون، وفي موقف ينكرون. {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.

.تفسير الآيات (31- 33):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} أي: القيامة {بَغْتَةً} أي: فجأة، {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} ندامتنا، ذكر على وجه النداء للمبالغة، وقال سيبويه: كأنه يقول: أيتها الحسرة هذا أوانك، {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} أي: قصرنا {فِيهَا} أي: في الطاعة، وقيل: تركنا في الدنيا من عمل الآخرة.
قال محمد بن جرير: الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي: في الصفقة فترك ذكر الصفقة اكتفاء بذكر بقوله: {قَدْ خَسِرَ} لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع، والحسرة شدة الندم، حتى يتحسر النادم، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أثقالهم وآثامهم، {عَلَى ظُهُورِهِمْ} قال السدي وغيره: إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني، فقد طالما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله عز وجل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} [مريم، 85] أي: ركبانا، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيأ فأنا اليوم أركبك، فهذا معنى قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} يحملون قال ابن عباس: بئس الحمل حملوا.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لا بقاء لها {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ} قرأ ابن عامر {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} مضافا أضاف الدار إلى الآخرة، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين، كقوله: {وحب الحصيد}، وقولهم: ربيع الأول ومسجد الجامع، سميت الدنيا لدنوها، وقيل: لدناءتها، وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن الآخرة أفضل من الدنيا، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب {أفلا تعقلون} بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف ويس، ووافق أبو بكر في سورة يوسف، ووافق حفص إلا في سورة يس، وقرأ الآخرون بالياء فيهن.
قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نكذب الذي جئت به، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}.
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} بأنك كاذب، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} قرأ نافع والكسائي بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب، وتقول له: كذبت، والإكذاب هو أن تجده كاذبا، تقول العرب: أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يقول: إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي، كما قال: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل، 94].

.تفسير الآيات (34- 35):

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} كذبهم قومهم كما كذبتك قريش، {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بتعذيب من كذبهم، {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لا ناقض لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام، فقال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات، 171- 172]، وقال: {إنا لننصر رسلنا} [غافر، 51] وقال: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة، 21]، وقال الحسن بن الفضل: لا خلف لعداته {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} و{مِنْ} صلة كما تقول: أصابنا من مطر.
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي: عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم، فقال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا} تطلب وتتخد نفقا سربا {وَفِي الأرْضِ} ومنه نافقاء اليربوع، وهو أحد جحريه فيذهب فيه، {أَوْ سُلَّمًا} أي: درجا ومصعدا، {فِي السَّمَاءِ} فتصعد فيه، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} فافعل، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} فآمنوا كلهم، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: بهذا الحرف، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وأن من يكفر لسابق علم الله فيه.

.تفسير الآيات (36- 38):

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه، {وَالْمَوْتَى} يعني الكفار، {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم.
قوله عز وجل: {وَقَالُوا} يعني: رؤساء قريش، {لَوْلا} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ما عليهم في إنزالها.
قوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قيد الطيران بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي، {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم، يعرفون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم».
وقيل: أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض، وقيل: أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث، وقال عطاء: أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة، قال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} أي: في اللوح المحفوظ، {مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس والضحاك: حشرها موتها، وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير، وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول: {يا ليتني كنت ترابا}.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء».

.تفسير الآيات (39- 43):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به، {فِي الظُّلُمَاتِ} في ضلالات الكفر، {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} هل رأيتم؟ والكاف فيه للتأكيد، وقال الفراء: العرب تقول أرأيتك، وهم يريدون أخبرنا، كما يقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي: أخبرني، وقرأ أهل المدينة {أرأيتكم}، و{أرأيتم}، و{أرأيت} بتليين الهمزة الثانية، والكسائي بحذفها، قال ابن عباس: قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} قبل الموت، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} يعني: القيامة، {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} في صرف العذاب عنكم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [لقمان، 32].
ثم قال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} أي: تدعون الله ولا تدعون غيره، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} قيد الإجابة بالمشيئة والأمور كلها بمشيئته {وَتَنْسَوْنَ} وتتركون، {مَا تُشْرِكُونَ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} بالشدة والجوع، {وَالضَّرَّاءِ} المرض والزمانة، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي يتوبون ويخضعون، والتضرع السؤال بالتذلل.
{فَلَوْلا} فهلا {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا، {تَضَرَّعُوا} فآمنوا فكشف عنهم، أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، فذلك قوله: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي.

.تفسير الآيات (45- 46):

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)}
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} تركوا ما وعظوا وأمروا به، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قرأ أبو جعفر، {فتَّحنا} بالتشديد، في كل القرآن، وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقبيه جمعاُوالباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر، أي: بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأة آمن ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير، وقال أبو عبيدة: المبلس النادم الحزين، وأصل الإبلاس: الإطراق من الحزن والندم، وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج»، ثم تلا {فلما نسوا ما ذكروا به} الآية.
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: آخرهم الذين بدبرهم، يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل، فذكر الحمد لله تعليما لهم ولمن آمن بهم، أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين، وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذا أهلك المكذبين.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أيها المشركون، {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} حتى لا تسمعوا شيئا أصلا {وَأَبْصَارَكُمْ} حتى لا تبصروا شيئا، {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} حتى لا تفقهوا شيئا ولا تعرفوا مما تعرفون من أمور الدنيا، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء، قيل: معناه يأتيكم بما أخذ منكم، وقيل: الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولا ويندرج غيره تحته، كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة، 62]. فالهاء راجعة إلى الله، ورضى رسوله يندرج في رضى الله تعالى، {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} أي: نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون عنها مكذبين.