فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (47- 50):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)}
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} فجأة، {أَوْ جَهْرَةً} معاينة ترونه عند نزوله، قال ابن عباس والحسن ليلا أو نهارا، {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} المشركون.
قوله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} العمل، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} حين يخاف أهل النار، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزنوا.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ} يصيبهم {الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يكفرون.
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم: {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي، يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي: ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى، وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ}؟ قال قتادة: الكافر والمؤمن، وقال مجاهد: الضال والمهتدي، وقيل: الجاهل والعالم، {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} أي: أنهما لا يستويان.

.تفسير الآيات (51- 52):

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}
قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ} خوّف به أي: بالقرآن، {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} يجمعوا ويبعثوا إلى ربهم، وقيل: يخافون أي يعلمون، لأن خوفهم إنما كان من علمهم، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} من دون الله، {وَلِيٌّ} قريب ينفعهم، {وَلا شَفِيعٌ} يشفع لهم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فينتهون عما نهوا عنه، وإنما نفى الشفاعة لغيره- مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون- لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه.
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قرأ ابن عامر {بالغدوة} بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها، هاهنا وفي سورة الكهف، وقرأ الآخرون: بفتح العين والدال وألف بعدها.
قال سلمان وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها، لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: {ما أنا بطارد المؤمنين} قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: اكتب لنا عليك بذلك كتابا، قال: فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {بِالشَّاكِرِينَ} فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأثبته، وهو يقول: {سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة}، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل: {واصبر نفسك ممع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف، 28]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات».
وقال الكلبي: قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما، فقال: لا أفعل، قالوا: فاجعل المجلس واحدا فأقبل إلينا وولِّ ظهرك عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.
قال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا، فأنزل الله هذه الآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قال ابن عباس: يعني يعبدون ربهم بالغداة والعشي، يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر، ويروى عنه: أن المراد منه الصلوات الخمس، وذلك أن أناسا من الفقراء كانوا مع النبي عليه السلام، فقال ناس من الأشراف: إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا، فنزلت الآية. وقال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد: ما أسرع الناس إلى هذا المجلس! قال مجاهد: فقلت يتأولون قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قال: أفي هذا هو، إنمأ ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، وقال إبراهيم النخعي: يعني يذكرون ربهم، وقيل المراد منه: حقيقة الدعاء، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي: يريدون الله بطاعتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يطلبون ثواب الله فقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: لا تكلف أمرهم ولا يتكلفون أمرك، وقيل: ليس رزقهم عليك فتملّهم، {فَتَطْرُدَهُمْ} ولا رزقك عليهم، قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب لقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جواب لقوله: {وَلا تَطْرُدِ} أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي.

.تفسير الآيات (53- 54):

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا} أي: ابتلينا، {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فهو جواب لقوله: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فهو استفهام بمعنى التقرير، أي: الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ما كنتم تصنعون؟» قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» قال: ثم جلس وسطنا ليدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم له، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة».
قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام.
وقال عطاء: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين.
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي: قضى على نفسه الرحمة، {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب، وقيل: جهالته من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير، {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} رجع عن ذنبه، {وَأَصْلَحَ} عمله، قيل: أخلص توبته، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ} {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة، أي: كتب على نفسه أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى، كقوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} [المؤمنون، 35]، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف، وكسرهما الآخرون على الاستئناف.

.تفسير الآيات (55- 56):

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي: وهكذا، وقيل: معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وإعلامنا على المشركين كذلك نفصل الآيات، أي: نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي: طريق المجرمين، وقرأ أهل المدينة {ولتستبين} بالتاء، {سبيل} نصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين، يقال: استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر {وليستبين} بالياء {سبيل} بالرفع، وقرأ الآخرون {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء {سبيل} رفع، أي: ليظهر ويتضح السبيل، يُذكر ويُؤنث، فدليل التذكير قوله تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} [الأعراف، 146]، ودليل الثأنيت قوله تعالى: {لم تصدون عن سبيل الله من آمن به تبغونها عوجا} [آل عمران، 99].
قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} في عبادة الأوثان وطرد الفقراء، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} يعني: إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى.

.تفسير الآيات (57- 58):

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: على بيان وبصيرة وبرهان، {مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي: ما جئت به، {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} قيل: أراد به استعجالهم العذاب، كانوا يقولون: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة} [الأنفال، 32] الآية، قيل: أراد به القيامة، قال الله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشوري، 18]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} قرأ أهل الحجاز وعاصم يقص بضم القاف والصاد مشددا أي يقول الحق، لأنه في جميع المصاحف بغير ياء، ولأنه قال الحق ولم يقل بالحق، وقرأ الآخرون {يقضي} بسكون القاف والضاد مكسورة، من قضيت، أي: يحكم بالحق بدليل أنه قال: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} والفصل يكون في القضاء وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام، كقوله تعالى: {صال الجحيم} ونحوها، ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر، كأنه قال: يقضي القضاء الحق.
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي} وبيدي، {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: فرغ من العذاب وأهلكتم أي: لعجلته حتى أتخلص منكم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآيات (59- 60):

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}
قوله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} مفاتح الغيب خزائنه، جمع مفتح.
واختلفوا في مفاتح الغيب، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى، ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله».
وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.
وقيل: انقضاء الآجال، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل: هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون، وما يكون كيف يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون؟ وقال ابن مسعود: «أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب».
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال مجاهد: البر: المفاوز والقفار، والبحر: القرى والأمصار، لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه، وقيل: هو البر والبحر المعروف، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} يريد ساقطة وثابتة، يعني: يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه، وقيل: يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض، {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ} قيل: هو الحب المعروف في بطون الأرض، وقيل: هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين، {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرطب الماء، واليابس البادية، وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت، وقيل: ولا حي ولا ميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء، {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} كسبتم، {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظكم في النهار، {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} يعني: أجل الحياة إلى الممات، يريد استيفاء العمر على التمام، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} يخبركم، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.