فصل: تفسير الآيات (77- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (77- 79):

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} طالعا، {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} قيل: لئن لم يثبتني على الهدى، ليس أنه لم يكن مهتديا، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان، وكان إبراهيم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} [إبراهيم، 35]، {لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} أي: عن الهدى.
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي: أكبر من الكوكب والقمر، ولم يقل هذه مع أن الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع، أو ردّه إلى المعنى، وهو الضياء والنور، لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر، {فَلَمَّا أَفَلَتْ} غربت، {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}
قوله عز وجل: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه، وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين، وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم عليه السلام وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب فيه رءوسها، وقال: اشربي، استهزاء بقومه، وبما هم فيه من الضلالة، حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته، فحاجّه أي خاصمه وجادله قومه في دينه، {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفيف النون، وقرأ الآخرون بتشديدها إدغاما لإحدى النونين في الأخرى، ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفا يقول: أتجادلونني في توحيد الله، وقد هداني للتوحيد والحق؟ {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وذلك أنهم قالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بسوء من خبل أو جنون لعيبك إياها، فقال لهم: ولا أخاف ما تشركون به، {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} وليس هذا باستثناء عن الأول بل هو استثناء منقطع، معناه لكن إن يشأ ربي شيئا أي سوء، فيكون ما شاء، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء، {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}.
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} يعني الأصنام، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} حجة وبرهانا، وهو القاهر القادر على كل شيء، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ} أولى، {بِالأمْنِ} أنا وأهل ديني أم أنتم؟ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (82- 84):

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}
فقال الله تعالى قاضيا بينهما: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لم يخلطوا إيمانهم بشرك، {أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق ثنا عيسى بن يونس أنا الأعمش أنا إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان، 13].
قوله عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} حتى خصمهم وغلبهم بالحجة، قال مجاهد: هي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ} وقيل: أراد به الحجاج الذي حاج نمرود على ما سبق في سورة البقرة.
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالعلم قرأ أهل الكوفة ويعقوب {درجاتٍ} بالتنوين هاهنا وفي سورة يوسف، أي: نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل، كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى وحاجّ قومه في التوحيد، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا} ووفقنا وأرشدنا. {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إبراهيم، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي ومن ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرية إبراهيم {دَاوُدَ} يعني: داود بن أيشا، {وَسُلَيْمَانَ} يعني ابنه، {وَأَيُّوبَ} وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، {وَيُوسُفَ} هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، {وَمُوسَى} وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب. {وَهَارُونَ} هو أخو موسى أكبر منه بسنة، {وَكَذَلِكَ} أي: وكما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء كذلك، {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.

.تفسير الآيات (85- 89):

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}
{وَزَكَرِيَّا} وهو زكريا بن اذن، {وَيَحْيَى} وهو ابنه، {وَعِيسَى} وهو ابن مريم بنت عمران، {وَإِلْيَاسَ} اختلفوا فيه، قال ابن مسعود: هو إدريس، وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل، والصحيح أنه غيره، لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح وهو إلياس ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
{وَإِسْمَاعِيلَ} وهو ولد إبراهيم، {وَالْيَسَعَ} وهو ابن أخطوب بن العجوز، وقرأ حمزة والكسائي {واليسع} بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي ص {وَيُونُسَ} وهو يونس بن متى، {وَلُوطًا} وهو لوط بن هاران بن أخي إبراهيم، {وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانهم.
{وَمِنْ آبَائِهِمْ} من فيه للتبعيض، لأن آباء بعضهم كانوا مشركين، {وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: ومن ذرياتهم. وأراد به ذرية بعضهم: لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد، وكان في ذرية بعضهم من كان كافرا، {وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} اخترناهم واصطفيناهم، {وَهَدَيْنَاهُمْ} أرشدناهم، {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} دين الله، {يَهْدِي بِهِ} يرشد به، {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي: هؤلاء الذين سميناهم، {لَحَبِطَ} لبطل وذهب، {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي: الكتب المنزلة عليهم، {وَالْحُكْمَ} يعني: العلم والفقه، {وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} الكفار يعني: أهل مكة، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني: الأنصار وأهل المدينة، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال قتادة: فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، يعني: الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله هاهنا، وقال أبو رجاء العطاردي: معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء، وهم الملائكة، ليسوا بها بكافرين.

.تفسير الآيات (90- 91):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: هداهم الله، {فَبِهُدَاهُمُ} فبسنتهم وسيرتهم، {اقْتَدِهِ} الهاء فيها هاء الوقف، وحذف حمزة والكسائي الهاء في الوصل، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا، وقرأ ابن عامر: {اقتده} بإشباع الهاء كسرا {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ} ما هو، {إِلا ذِكْرَى} أي: تذكرة وعظة، {لِلْعَالَمِينَ}.
قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق عظمته، وقيل: ما وصفوه حق صفته، {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» وكان حبرا سمينا فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء.
وقال السدي: نزلت في فنخاص بن عازوراء، وهو قائل هذه المقالة.
وفي القصة: أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه، وقالوا: أليس أن الله أنزل التوراة على موسى؟ فلِمَ قلت ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك، فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق فنزعوه من الحبرية، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء}، فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم، {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} يعني التوراة، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} أي: تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها، أي: تبدون ما تحبون وتخفون كثيرا من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يجعلونه}، {ويبدونها}، {ويخفونها}، بالياء جميعا، لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وقرأ الآخرون بالتاء، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} الأكثرون على أنها خطاب لليهود، يقول: عُلِّمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا {أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به.
وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكّرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
{قُلِ اللَّهُ} هذا راجع إلى قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} فإن أجابوك وإلا فقل أنت: الله، أي: قل أنزله الله، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.

.تفسير الآيات (92- 93):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي: القرآن كتاب مبارك أنزلناه {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ} يا محمد، قرأ أبو بكر عن عاصم {ولينذر} بالياء أي: ولينذر الكتاب، {أُمَّ الْقُرَى} يعني: مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل، وأراد أهل أم القرى {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: أهل الأرض كلها شرقا وغربا {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالكتاب، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ} يعني: الصلوات الخمس، {يُحَافِظُونَ} يداومون، يعني: المؤمنين.
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} أي: اختلق {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أن الله تعالى بعثه نبيا، {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي، وكان يسجع ويتكهن، فادعى النبوة وزعم أن الله أوحى إليه، وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما».
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم إذ أُتِيْتُ خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبُرا علي وأهمّاني فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان إذ أملى عليه: سميعا بصيرا، كتب عليما حكيما، وإذا قال: عليما حكيما، كتب: غفورا رحيما، فلما نزلت: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون، 12] أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبها فهكذا نزلت، فشكّ عبد الله، وقال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران.
وقال ابن عباس: قوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يريد المستهزئين، وهو جواب لقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}.
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى} يا محمد، {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} سكراته وهي جمع غمرة، وغمرة كل شيء: معظمه، وأصلها: الشيء الذي يعمّ الأشياء فيغطيها، ثم وُضعت في موضع الشدائد والمكاره، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم} بالعذاب والضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم، وقيل بقبض الأرواح، {أَخْرِجُوا} أي: يقولون أخرجوا، {أَنْفُسَكُمُ} أي: أرواحكم كرها، لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربها، والجواب محذوف، يعني: لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجبا، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: الهوان، {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه.