فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وحدانا، لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم، وفرادى جمع فردان، مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى، وقرأ الأعرج فَرْدَى بغير ألف مثل سكرى، {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} عراة حفاة غرلا {وَتَرَكْتُمْ} خلّفتم {مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم، {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} خلف ظهوركم في الدنيا، {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده، {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون، أي: لقد تقطع ما بينكم من الوصل، أو تقطع الأمر بينكم. وقرأ الآخرون {بينُكم} برفع النون، أي: لقد تقطع وصلكم وذلك مثل قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة، 166]، أي: الوصلات، والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا، {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.

.تفسير الآيات (95- 98):

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} الفلق الشق، قال الحسن وقتادة والسدي: معناه يشق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها، والحب جمع الحبة، وهي اسم لجميع البذور والحبوب من البر والشعير والذرة، وكل ما لم يكن له نوى، وقال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها أوراقا خضرا.
وقال مجاهد: يعني الشقين اللذين فيهما، أي: يشق الحب عن النبات ويخرجه منه ويشق النوى عن النخل ويخرجها منه.
والنوى جمع النواة، وهي كل ما لم يكن حبا، كالتمر والمشمش والخوخ ونحوها.
وقال الضحاك: فالق الحب والنوى يعني: خالق الحب والنوى، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن الحق.
{فَالِقُ الإصْبَاحِ} شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وكاشفه وهو أول ما يبدو من النهار يريد مبدئ الصبح وموضحه.
وقال الضحاك: خالق النهار، والإصباح مصدر كالإقبال والإدبار، وهو الإضاءة وأراد به الصبح. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} يسكن فيه خلقه، وقرأ أهل الكوفة: {وجعل} على الماضي، {الليل} نصب اتباعا للمصحف، وقرأ إبراهيم النخعي {فَالِقُ الإصْبَاحِ} {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: جعل الشمس والقمر بحساب معلوم لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، والحسبان مصدر كالحساب، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} أي خلقها لكم، {لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.
والله تعالى خلق النجوم لفوائد:
أحدها هذا: وهو أن راكب البحر والسائر في القفار يهتدي بها في الليالي إلى مقاصده.
والثاني: أنها زينة للسماء كما قال: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك، 5].
ومنها: رمي الشياطين، كما قال: {وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك، 5].
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} خلقكم وابتدأكم، {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم عليه السلام، {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قرأ ابن كثير وأهل البصرة {فمستقر} بكسر القاف، يعني: فمنكم مستقر ومنكم مستودع، وقرأ الآخرون بفتح القاف، أي: فلكم مستقر ومستودع.
واختلفوا في المستقر والمستودع، قال عبد الله بن مسعود: فمستقر في الرحم إلى أن يولد، ومستودع في القبر إلى أن يبعث.
وقال سعيد بن جبير وعطاء: فمستقر في أرحام الأمهات ومستودع في أصلاب الآباء، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت قلت: لا قال: إنه ما كان من مستودع في ظهرك فيستخرجه الله عز وجل.
ورُوي عن أُبيّ أنه قال: مستقر في أصلاب الآباء، ومستودع في أرحام الأمهات.
وقيل: مستقر في الرحم ومستودع فوق الأرض، قال الله تعالى: {ونقر في الأرحام ما نشاء} [الحج، 5].
وقال مجاهد: مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند الله في الآخرة، ويدل عليه قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة، 36].
وقال الحسن: المستقر في القبور والمستودع في الدنيا، وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك.
وقيل: المستودع القبر والمستقر الجنة والنار، لقوله عز وجل في صفة الجنة والنار: {حسنت مستقرا} [الفرقان، 76] {وساءت مستقرا} [الفرقان، 66]، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.

.تفسير الآية رقم (99):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء، {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي من الماء، وقيل: من النبات، {خَضِرًا} يعني: أخضر، مثل العَوَر والأعور، يعني: ما كان رطبا أخضر مما ينبت من القمح والشعير ونحوهما، {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} أي متراكما بعضه على بعض مثل سنابل البر والشعير والأرز وسائر الحبوب، {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} والطلع أول ما يخرج من ثمر النخل، {قِنْوَانٌ} جمع قنو وهو العِذق، مثل صنو وصنوان، ولا نظير لهما في الكلام، {دَانِيَةٌ} أي: قريبة المتناول ينالها القائم والقاعد، وقال مجاهد: متدلية، وقال الضحاك: قصار ملتزقة بالأرض، وفيه اختصار معناه: ومن النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة، فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لسبقه إلى الأفهام، كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النمل، 81] يعني: الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أي: وأخرجنا منه جنات، وقرأ الأعمش عن عاصم {وجنات} بالرفع نسقا على قوله: {قنوان} وعامة القراء على خلافه، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يعني: وشجر الزيتون وشجر الرمان، {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قال قتادة: معناه مشتبها ورقها مختلفا ثمرها، لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان، وقيل: مشتبه في المنظر مختلف في الطعم، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} قرأ حمزة والكسائى بضم الثاء والميم، هذا وما بعده وفي يس على جمع الثمار، وقرأ الآخرون بفتحهما على جمع الثمرة، مثل: بقرة وبقر، {إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} ونضجه وإدراكه، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآيات (100- 102):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}
قوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} يعني: الكافرين جعلوا لله الجن شركاء، {وَخَلَقَهُمْ} يعني: وهو خلق الجن.
قال الكلبي: نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق، فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وهذا كقوله: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} [الصافات، 158] وإبليس من الجنة، {وَخَرَقُوا} قرأ أهل المدينة {وخرَّقوا}، بتشديد الراء على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف، أي: اختلقوا {لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وذلك مثل قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، وقول كفار العرب الملائكة بنات الله، ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: مبدعهما لا على مثال سبق، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أي: كيف يكون له ولد؟ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} زوجة، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} فأطيعوه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} بالحفظ له وبالتدبير فيه، {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} الآية، يتمسك أهل الاعتزال بظاهر هذه الآية في نفي رؤية الله عز وجل عيانا.
ومذهب أهل السنة: إثبات رؤية الله عز وجل عيانا جاء به القرآن والسنة، قال الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة، 23]، وقال: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين، 15]، قال مالك رضي الله عنه: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيّر الله الكفار بالحجاب، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس، 26]، وفسره بالنظر إلى وجه الله عز وجل.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي أنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم عيانا».

.تفسير الآيات (103- 105):

{لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}
وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} علم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو: الوقوف على كُنهِ الشيء والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، قال الله تعالى في قصة موسى {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا} [سورة الشعراء، 61]، وقال: {لا تخاف دركا ولا تخشى} [سورة طه، 77]، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يُرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به، قال الله تعالى: {ولا يحيطون به علما} [سورة طه، 110]، فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار، وقال عطاء: كلت أبصار المخلوقبن عن الإحاطة به، وقال ابن عباس ومقاتل: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة، قوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} لا يخفى عليه شيء ولا يفوته، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: اللطيف بأوليائه الخبير بهم، وقال الأزهري: معنى {اللَّطِيفُ} الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق، وقيل: اللطيف الذي يُنسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا، وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء.
قوله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني الحجج البينة التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل، {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أي: فمن عرفها وآمن بها فلنفسه عمل، ونفعه له، {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} أي: من عمي عنها فلم يعرفها ولم يصدقها فعليها، أي: فبنفسه ضر، ووبال العمى عليه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} برقيب أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم.
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نفصلها ونبيّنها في كل وجه، {وَلِيَقُولُوا} قيل: معناه لئلا يقولوا، {دَرَسْتَ} وقيل: هذه اللام لام العاقبة أي عاقبة أمرهم أن يقولوا: درست، أي: قرأت على غيرك، وقيل: قرأت كتب أهل الكتاب، كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص، 8]، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن أراد أن عاقبة أمرهم أن كان عدوا لهم.
قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست، أي: تعلمت من يسار وجبر، كانا عبدين من سبي الروم، ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله، من قولهم: درست الكتاب أدرس درسا ودراسة.
وقال الفرَّاء: يقولون تعلمت من اليهود، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {دارست} بالألف، أي: قارأت أهل الكتاب من المدارسة بين اثنين، تقول: قرأت عليهم وقرأوا عليك. وقرأ ابن عامر ويعقوب: {دَرَسَتْ} بفتح السين وسكون التاء، أي: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة، قد درست وانمحت، من قولهم: درس الأثر يدرس دروسا. {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد، وقيل: يعني أن تصريف الآيات ليشقى به قوم ويسعد به قوم آخرون، فمن قال درست فهو شقي ومن تبين له الحق فهو سعيد.

.تفسير الآيات (106- 108):

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني: القرآن اعمل به، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فلا تجادلهم.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي: لو شاء لجعلهم مؤمنين، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} رقيبا قال عطاء: وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم مني، أي: لم تبعث لتحفظ المشركين عن العذاب إنما بعثت مبلغا. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.
قوله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال ابن عباس: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء، 98] قال المشركون: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم.
وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة.
وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأُبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعنه وإلهه، فدعاه فقال: هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، فقد أنصفك قومك فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟» قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها، فما هي؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا ونفروا، فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي، فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأوثان، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} أي: اعتداء وظلما، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
وقرأ يعقوب {عدوا} بضم العين والدال وتشديد الواو، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تسبوا ربكم»، فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم.
فظاهر الآية، وإن كان نهيا عن سب الأصنام، فحقيقته النهي عن سب الله، لأنه سبب لذلك.
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان، كذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية، {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ} ويجازيهم، {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.