فصل: تفسير الآية رقم (146):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (146):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}
قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} يعني اليهود، {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل: البعير والنعامة والأوز والبط، قال القتيبي: هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين، وقال: سمي الحافر ظفرا على الاستعارة.
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} يعني شحوم الجوف، وهي الثروب، وشحم الكليتين، {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، {أَوِ الْحَوَايَا} وهي المباعر، واحدتها: حاوية وحوية، أي: ما حملته الحوايا من الشحم. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} يعني: شحم الإلية، هذا كله داخل في الاستثناء، والتحريم مختص بالثَّرْبِ وشحم الكلية. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام. ثم قال رسول الله عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم شحومهما جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه».
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} أي: ذلك التحريم عقوبة لهم {بِبَغْيِهِمْ} أي: بظلمهم من قتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلال أموال الناس بالباطل، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم.

.تفسير الآيات (147- 148):

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148)}
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} بتأخير العذاب عنكم، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ}.
عذابه {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} إذا جاء وقته.
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} من قبل، {وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} من البحائر والسوائب وغيرهما، أرادوا أن يجعلوا قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} حجة لهم على إقامتهم على الشرك، وقالوا إن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله، فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك، فقال الله تعالى تكذيبا لهم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الخالية، {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} عذابنا.
ويستدل أهل القدر بهذه الآية، يقولون: إنهم لما قالوا: لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم، فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم}.
قلنا: التكذيب ليس في قولهم {لو شاء الله ما أشركنا} بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم: إن الله تعالى أمرنا بها ورضي بما نحن عليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف [الآية 28]: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها}، فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء}.
والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا}، قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بالتشديد ولو كان ذلك خبرا من الله عز وجل عن كذبهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} لقال كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب. وقال الحسن بن الفضل: لو ذكروا هذه المقالة تعظيما وإجلالا لله عز وجل، ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك، لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} وقال: {وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام، 111]، والمؤمنون يقولون ذلك، ولكنهم قالوه تكذيبا وتخرصا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون، نظيره قوله عز وجل: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} [الزخرف، 20]، قال الله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} [الأنعام، 116].
وقيل في معنى الآية: إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان، ورد عليهم في هذا لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته، فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد.
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} أي: كتاب وحجة من الله، {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} حتى يظهر ما تدَّعون على الله تعالى من الشرك أو تحريم ما حرمتم، {إِنْ تَتَّبِعُونَ} ما تتبعون فيما أنتم عليه، {إِلا الظَّنَّ} من غير علم ويقين، {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} تكذبون.

.تفسير الآيات (149- 151):

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} التامة على خلقه بالكتاب والرسول والبيان، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فهذا يدل على أنه لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء لهداه.
{قُلْ هَلُمَّ} يقال للواحد والاثنين والجمع، {شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} أي: ائتوا بشهدائكم الذين يشهدون، {أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن الله أمرهم به، {فَإِنْ شَهِدُوا} كاذبين، {فَلا تَشْهَدْ} أنت، {مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يشركون.
قوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وذلك أنهم سألوا وقالوا: أي شيء الذي حرم الله تعالى؟ فقال عز وجل: {قل تعالوا أتل} أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا ظنا ولا كذبا كما تزعمون.
فإن قيل: ما معنى قوله: {حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟
قيل: موضع {أن} رفع، معناه هو أن لا تشركوا، وقيل: محله نصب، واختلفوا في وجه انتصابه، قيل: معناه حرم عليكم أن تشركوا به، و{لا} صلة كقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} [الأعراف، 12]، أي: منعك أن تسجد. وقيل: تم الكلام عند قوله: {حرم ربكم} ثم قال: عليكم أن لا تشركوا به شيئا على الإغراء. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى، أي: أتل عليكم تحريم الشرك، وجائز أن يكون على معنى: أوصيكم ألا تشركوا به شيئا. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} فقر، {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ما ظهر يعني: العلانية، وما بطن يعني: السر.
وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر.
وقال الضحاك: ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} حرم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
{ذَلِكُمْ} الذي ذكرت {وَصَّاكُمْ بِهِ} أمركم به، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: بما فيه صلاحه وتثميره. وقال مجاهد: هو التجارة فيه. وقال الضحاك: هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا، {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال الشعبي ومالك: الأشد: الحلم، حتى يكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات. قال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته. وقال الكلبي: الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة. وقيل: إلى أربعين سنة. وقيل: إلى ستين سنة. وقال الضحاك: عشرون سنة. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال مجاهد: الأشد ثلاث وثلاثون سنة.
والأشد جمع شد، مثل قد وأقد، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه. وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ.
وتقدير الآية: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: طاقتها في إيفاء الكيل والميزان، أي: لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه، حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} فاصدقوا في الحكم والشهادة، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي: ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون، قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون خفيفة الذال، كل القرآن، والآخرون بتشديدها.
قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.

.تفسير الآيات (153- 154):

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}
{وَأَنَّ هَذَا} أي: هذا الذي وصيتكم به في هاتين الآيتين {صِرَاطِي} طريقي وديني، {مُسْتَقِيمًا} مستويا قويما، {فَاتَّبِعُوهُ} قرأ حمزة والكسائي {وإن} بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون: بفتح الألف، قال الفراء: والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما. وقرأ ابن عامر ويعقوب: بسكون النون. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل، وقيل: الأهواء والبدع، {فَتَفَرَّقَ} فتميل، {بِكُمْ} وتشتت، {عَنْ سَبِيلِهِ} عن طريقه ودينه الذي ارتضى، وبه أوصى، {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت، {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي المعروف بأبي بكر بن أبي الهيثم أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: «هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} الآية.
قوله عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فإن قيل: لِمَ قال: {ثم آتينا} وحرف {ثم} للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن؟ قيل: معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب، فدخل {ثم} لتأخير الخبر لا لتأخير النزول.
{تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} اختلفوا فيه، قيل: تماما على المحسنين من قومه، فتكون {الذي} بمعنى من، أي: على من أحسن من قومه، وكان بينهم محسن ومسيء، يدل عليه قراءة ابن مسعود: {على الذين أحسنوا} وقال أبو عبيدة: معناه على كل من أحسن، أي: أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين، يعني: أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون، وقيل: {الذي أحسن} هو موسى، و{الذي} بمعنى ما، أي: على ما أحسن موسى، تقديره: آتيناه الكتاب، يعني التوراة، إتماما عليه للنعمة، لإحسانه في الطاعة والعبادة، وتبليغ الرسالة وأداء الأمر.
وقيل: الإحسان بمعنى العلم، وأحسن بمعنى علم، ومعناه: تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة، أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك.
وقيل: معناه تماما مني على إحساني إلى موسى.
{وَتَفْصِيلا} بيانا {لِكُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه من شرائع الدين، {وَهُدًى وَرَحْمَةً} هذا في صفة التوراة، {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

.تفسير الآيات (155- 157):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
{وَهَذَا} يعني: القرآن، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} واعملوا بما فيه، {وَاتَّقُوا} وأطيعوا، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
{أَنْ تَقُولُوا} يعني: لئلا تقولوا، كقوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء، 176]، أي: لئلا تضلا وقيل: معناه أنزلناه كراهة {أَنْ تَقُولُوا} قال الكسائي: معناه اتقوا أن تقولوا يا أهل مكة، {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: اليهود والنصارى، {وَإِنْ كُنَّا} وقد كنا، {عَنْ دِرَاسَتِهِمْ} قراءتهم، {لَغَافِلِينَ} لا نعلم ما هي، معناه أنزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا إن الكتاب أنزل على من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيه وغفلنا عن دراسته، فتجعلونه عذرا لأنفسكم.
{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنا أنزل علينا ما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم، قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} حجة واضحة بلغة تعرفونها، {وَهُدًى} بيان {وَرَحْمَةٌ} ونعمة لمن اتبعه، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ} أعرض، {عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} شدة العذاب {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} يعرضون.