فصل: تفسير الآيات (84- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا تريقون دماءكم أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وقيل: لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماءكم، فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره، وقيل: لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤوهم إلى الخروج بسوء جواركم {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد أنه حق وقبلتم {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتقرون بالقبول.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} يعني: يا هؤلاء، وهؤلاء للتنبيه {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي يقتل بعضكم بعضا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى: {ولا تعاونوا} معناهما جميعا: تتعاونون، والظهير: العون {بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المعصية والظلم {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} وقرأ حمزة: اسرى، وهما جمع أسير، ومعناهما واحد {تُفَادُوهُم} بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب تفادوهم أي تبادلوهم، أراد: مفاداة الأسير بالأسير، وقيل: معنى القراءتين واحد.
ومعنى الآية قال السدي: إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في حرب سمير؟ فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم وبنو النضير وحلفاؤهم وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم، فتعيرهم العرب وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى بذلك فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، فكأن الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء.
قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قال مجاهد: يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} يا معشر اليهود {إِلا خِزْيٌ} عذاب وهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} عذاب النار {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عما تعملون} قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالياء والباقون بالتاء.
قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدلوا {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ} يهون {عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله عز وجل.

.تفسير الآيات (87- 90):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة، جملة واحدة {وقفينا} وأتبعنا {مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} رسولا بعد رسول {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل: أراد الإنجيل {وَأَيَّدْنَاه} قويناه {بِرُوحِ الْقُدُسِ} قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب والرعب، واختلفوا في روح القدس، قال الربيع وغيره: أراد بالروح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا نحو بيت الله، وناقة الله، كما قال: {فنفخنا فيه من روحنا} [12- التحريم] {وروح منه} [171- النساء] وقيل: أراد بالقدس الطهارة، يعني الروح الطاهرة سمى روحه قدسا، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث، إنما كان أمرا من أمر الله تعالى، قال قتادة والسدي والضحاك: روح القدس جبريل عليه السلام قيل: وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنبا، وقال الحسن: القدس هو الله وروحه جبريل قال الله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [102- النحل].
وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به الله {إلى السماء} وقيل: سمي جبريل عليه السلام روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويري الناس به العجائب، وقيل: هو الإنجيل جعل له روحا كما {جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب} قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [52- الشورى] فلما سمع اليهود ذكر عيسى عليه السلام فقالوا: يا محمد لا مثل عيسى- كما تزعم- عملت، ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا.
قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} يا معشر اليهود {رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان {فَفَرِيقًا} طائفة {كَذَّبْتُم} مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيبا وسائر من قتلوه من الأنبياء عليهم السلام.
{وَقَالُوا} يعني اليهود {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع الأغلف وهو الذي عليه غشاء، معناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول، قاله مجاهد وقتادة، نظيره قوله تعالى: {وقالوا قلوبنا في أكنة} [5- فصلت] وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي: معناه أوعية لكل علم فلا تسمع حديثا إلا تعيه إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه {خير} لوعته وفهمته.
قال الله عز وجل: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم الله وأبعدهم عن كل خير {بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ} قال قتادة: معناه لن يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، أي فقليلا يؤمنون، ونصب قليلا على الحال وقال معمر: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلا بنزع الخافض، وما صلة على قولهما، وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر: ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلا.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني القرآن {مُصَدِّق} موافق {لِمَا مَعَهُمْ} يعني التوراة {وَكَانُوا} يعني اليهود {مِنْ قَبْلُ} قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم {يَسْتَفْتِحُون} يستنصرون {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} على مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر ودهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل وعرفوا نعته وصفته {كَفَرُوا بِهِ} بغيا وحسدا. {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بئس ونعم: فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق. وقيل: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر {وبذلوا أنفسهم للنار} {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني القرآن {بَغْيًا} أي حسدا وأصل البغي: الفساد ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي: الظلم، وأصله الطلب، والباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده، طلبا لإزالة نعمة الله تعالى عنه {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي النبوة والكتاب {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا {في سبحان الذي} في موضعين {وننزل من القرآن} [82- الإسراء] و{حتى تنزل} [93- الإسراء] فإن ابن كثير يشددهما، وشدد البصريون في الأنعام {على أن ينزل آية} [37- الأنعام] زاد يعقوب تشديد {بما ينزل} في النحل ووافق حمزة والكسائي في تخفيف {وينزل الغيث} في سورة لقمان وحم عسق، والآخرون يشددون الكل، ولم يختلفوا في تشديد {وما ننزله إلا بقدر} في الحجر [21] {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ} أي رجعوا بغضب {عَلَى غَضَبٍ} قال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال قتادة: الأول بكفرهم بعيسى الإنجيل، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال السدي: الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَلِلْكَافِرِينَ} الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم {عَذَابٌ مُهِينٌ} مخز يهانون فيه.

.تفسير الآية رقم (91):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني القرآن {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني التوراة، يكفينا ذلك {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي بما سواه من الكتب كقوله عز وجل: {فمن ابتغى وراء ذلك} [7- المؤمنون] أي سواه، وقال أبو عبيدة: بما وراءه أي: بما سواه من الكتب {وَهُوَ الْحَقُّ} يعني القرآن {مُصَدِّقًا} نصب على الحال {لِمَا مَعَهُمْ} من التوراة {قُلْ} يا محمد {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} أي قتلتم.
{أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} ولم أصله لما فحذفت الألف فرقا بين الجر والاستفهام كقولهم فيم وبم؟ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة، وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام.

.تفسير الآيات (92- 94):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعا على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة {قَالُوا سَمِعْنَا} {وَعَصَيْنَا} أمرك، وقيل: سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعا {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل، أي معناه: أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها، كإشراب اللون لشدة الملازمة يقال: فلان مشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة، وفي القصص: أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه.
قوله عز وجل: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أن تعبدوا العجل من دون الله أي بئس إيمان يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بزعمكم، وذلك أنهم قالوا: {نؤمن بما أنزل علينا} فكذبهم الله عز وجل.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ} وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [80- البقرة] {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [111- البقرة] وقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [18- المائدة] فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمد {إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله} يعني الجنة عند الله {خَالِصَة} أي خاصة {مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي فأريدوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم، وقيل: فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. وروي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو تمنوا الموت لغص كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات».

.تفسير الآيات (95- 96):

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قال الله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون وأراد {بما قدمت أيديهم} أي ما قدموه من الأعمال وأضافها إلى اليد دون سائر الأعضاء لأن أكثر جنايات الإنسان تكون باليد فأضيف إلى اليد أعماله وإن لم يكن لليد فيها عمل {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم، تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قيل: هو متصل بالأول، وأحرص من الذين أشركوا، وقيل: تم الكلام بقوله: {على حياة} ثم ابتدأ {من الذين أشركوا} وأراد بالذين أشركوا المجوس قاله أبو العالية والربيع سموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة.
{يَوَد} يريد ويتمنى {أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني تعمير ألف سنة وهي تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة وكل ألف نيروز ومهرجان، يقول الله تعالى: اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذي يقولون ذلك {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} مباعده {مِنَ الْعَذَابِ} النار {أَنْ يُعَمَّرَ} أي طول عمره لا ينقذه. زحزحه وتزحزح من العذاب أو وزحزح: لازم ومتعد، ويقال زحزحته فتزحزح {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.