فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (27- 29):

{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} لا يضلنكم الشيطان، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} أي: كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما، {مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} ليرى كل واحد سوأة الآخر، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم، {هُوَ وَقَبِيلُهُ} جنوده. قال ابن عباس: هو وولده. وقال قتادة: قبيله: الجن والشياطين، {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} قال مالك بن دينار: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنة إلا من عصم الله، {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} قرناء وأعوانا، {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وقال الزجاج: سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} [مريم- 83].
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} قال ابن عباس ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة. وقال عطاء: الشرك والفاحشة، اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح. {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} وفيه إضمار معناه: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا. قيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ قالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} قال ابن عباس: بلا إله إلا الله، وقال الضحاك: بالتوحيد. وقال مجاهد والسدي: بالعدل. {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال مجاهد والسدي: يعني وجّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي. وقيل: معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا، {وَادْعُوهُ} واعبدوه، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الطاعة والعبادة، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قال ابن عباس: إن الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن، 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا. قال مجاهد: يبعثون على ما ماتوا عليه.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث كل عبد على ما مات عليه، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره».
وقال أبو العالية: عادوا على عمله فيهم. قال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون.
قال محمد بن كعب: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل أهل السعادة، كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتداء خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاء، وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم».
وقال الحسن ومجاهد: كما بدأكم وخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما قال الله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء، 104]، قال قتادة: بدأهم من التراب وإلى التراب يعودون، نظيره قوله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم} [طه، 55].

.تفسير الآيات (30- 32):

{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
قوله عز وجل: {فَرِيقًا هَدَى} أي هداهم الله، {وَفَرِيقًا حَقَّ} وجب {عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} أي: بالإرادة السابقة، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله عز وجل: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، يعني الثياب. قال مجاهد: ما يواري عورتك ولو عباءة.
قال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} قال الكلبي: كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: {وكلوا} يعني اللحم والدسم {واشربوا} اللبن {وَلا تُسْرِفُوا} بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الذين يفعلون ذلك. قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. قال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا}.
قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} يعني لبس الثياب في الطواف، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} يعني اللحم والدسم في أيام الحج.
وعن ابن عباس وقتادة: والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب.
{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيه حذف تقديره: هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا، وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها.
وقيل: هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم.
قرأ نافع {خَالِصَةً} رفع، أي: قل هي للذين آمنوا مشتركين في الدنيا، وهي في الآخرة خالصة يوم القيامة للمؤمنين. وقرأ الآخرون بالنصب على القطع، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (33- 35):

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} يعني: الطواف عراة {مَا ظَهَرَ} طواف الرجال بالنهار {وَمَا بَطَنَ} طواف النساء بالليل. وقيل: هو الزنا سرا وعلانية.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله قال قلت: أنت سمعت هذا من عبد الله؟ قال: نعم، فرفعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه».
قوله عز وجل: {وَالإثْمَ} يعني: الذنب والمعصية. وقال الضحاك: الذنب الذي لا حد فيه. قال الحسن: الإثم: الخمر. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ** كذاك الإثم تذهب بالعقول

{وَالْبَغْيَ} الظلم والكبر، {بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة وبرهانا، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} في تحريم الحرث والأنعام، في قول مقاتل. وقال غيره: هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدة، وأكل وشرب. وقال ابن عباس وعطاء والحسن: يعني وقتا لنزول العذاب بهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} وانقطع أكلهم، {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي: ولا يتقدمون. وذلك حين سألوا العذاب فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي: أن يأتيكم. قيل: أراد جميع الرسل.
وقال مقاتل: أراد بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} مشركي العرب وبالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده، {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} قال ابن عباس: فرائضي وأحكامي، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} أي: اتقى الشرك وأصلح عمله. وقيل: أخلص ما بينه وبين ربه {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إذا خاف الناس، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: إذا حزنوا.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} تكبروا عن الإيمان بها، وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر. قال الله تعالى: {نهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} [الصافات، 35]، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} جعل له شريكا، {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بالقرآن، {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} أي: حظهم مما كتب لهم في اللوح المحفوظ. واختلفوا فيه، قال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون. قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود، قال الله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} [الزمر، 60].
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير وشر يجزي عليها.
وقال محمد بن كعب القرظي: ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمال فإذا فنيت، {جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه، {قَالُوا} يعني يقول الرسل للكافر، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ} تعبدون، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سؤال تبكيت وتقريع، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} بطلوا وذهبوا عنا، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} اعترفوا عند معاينة الموت، {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.

.تفسير الآيات (38- 40):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} يعني: يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم، أي: مع جماعات، {قَدْ خَلَتْ} مضت، {مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ} يعني كفار الأمم الخالية، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} يريد أختها في الدين لا في النسب، فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى، وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة، ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا} أي: تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار، {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} قال مقاتل: يعني أخراهم دخولا النار وهم الأتباع، {لأولاهُمْ} أي: لأولاهم دخولا وهم القادة، لأن القادة يدخلون النار أولا. وقال ابن عباس: يعني آخر كل أمة لأولاها، وقال السدي: أهل آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين، {رَبَّنَا هَؤُلاءِ} الذين، {أَضَلُّونَا} عن الهدى يعني القادة {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} أي: ضعف عليهم العذاب، {قَالَ} الله تعالى، {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب، {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} ما لكل فريق منكم من العذاب.
قرأ الجمهور: {ولكن لا تعلمون}، وقرأ أبو بكر {لا يعلمون} بالياء، أي: لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع.
{وَقَالَتْ أُولاهُمْ} يعني القادة {لأخْرَاهُمْ} للأتباع، {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ} بالتاء، خفف أبو عمرو، وبالياءُ خفف حمزة والكسائي، والباقون بالتاء مشددة، {أَبْوَابُ السَّمَاءِ} لأدعيتهم ولا لأعمالهم. وقال ابن عباس: لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين، إنما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم، {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة، والخياط والمخيط الإبرة، والمراد منه: أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه يدل ذلك على تأكيد المنع، كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أو يبيض القار، يريد لا أفعله أبدا. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}.

.تفسير الآيات (41- 43):

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي: فراش، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي: لحف، وهي جمع غاشية، يعني ما غشاهم وغطاهم، يريد إحاطة النار بهم من كل جانب، كما قال الله، {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} [الزمر، 16]، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{وَنَزَعْنَا} وأخرجنا، {مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين}.
وقال علي رضي الله عنه أيضا: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا».
وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا، أي إلى هذا، يعني طريق الجنة.
وقال سفيان الثوري: معناه هدانا لعمل هذا ثوابه، {وَمَا كُنَّا} قرأ ابن عامر: {ما كنا} بلا واو، {لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قيل: هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة.
وقيل: هذا النداء يكون في الجنة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري بهذا الإسناد مرفوعا.
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد إلا وله منزله في الجنة ومنزله في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة».