فصل: تفسير الآيات (57- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (57- 58):

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} قرأ عاصم {بُشرا} بالباء وضمها وسكون الشين هاهنا وفي الفرقان وسورة النمل، ويعني: أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى: {الرياح مبشرات} [الروم- 46]، وقرأ حمزة والكسائي {نشرا} بالنون وفتحها، وهي الريح الطيبة اللينة، قال الله تعالى: {والناشرات نشرا} [المرسلات- 3]، وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين، وقرأ الآخرون بضم النون والشين، جمع نشور، مثل صبور وصبر ورسول ورسل، أي: متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن الزهري عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت، فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه، وكنت في مؤخر الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها وتعوذوا به من شرها» ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده.
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالا} بالمطر، {سُقْنَاهُ} وردّ الكناية إلى السحاب، {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: إلى بلد ميت محتاج إلى الماء، وقيل: معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بالسحاب. وقيل: بذلك البلد الميت {الْمَاءَ} يعني: المطر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرا كمنيّ الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان، فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم، ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم، فعند ذلك يقولون: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} [يس- 52].
قوله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه، {وَالَّذِي خَبُثَ} يريد الأرض السبخة التي {لا يَخْرُجُ} نباتها، {إِلا نَكِدًا} قرأ أبو جعفر بفتح الكاف، وقرأ الآخرون بكسرها، أي: عسرا قليلا بعناء ومشقة.
فالأول: مثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به، والثاني: مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نبينها، {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

.تفسير الآيات (59- 62):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62)}
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس، وهو أول نبي بعث بعد إدريس، وكان نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة. وقال مقاتل: ابن مائة سنة. وقال ابن عباس: سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه.
واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟ {فَقَالَ} لقومه، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قرأ أبو جعفر والكسائي {مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بكسر الراء حيث كان، على نعت الإله، وافق حمزة في سورة فاطر: {هل من خالق غير الله} [فاطر- 3]، وقرأ الآخرون برفع الراء على التقديم، تقديره: ما لكم غيره من إله، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تؤمنوا، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} خطأ وزوال عن الحق، {مُبِينٍ} بيّن.
{قَالَ} نوح، {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} ولم يقل ليست، لأن معنى الضلالة: الضلال أو على تقديم الفعل، {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{أُبَلِّغُكُمْ} قرأ أبو عمرو: {أبلغكم} بالتخفيف حيث كان من الإبلاغ. لقوله: {لقد أبلغتكم} [الأعراف- 93]، {رِسَالاتِ رَبِّي} {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم}، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ، لقوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك} [المائدة- 67]، رسالات ربي {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} يقال نصحته ونصحت له، والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أن عذابه لا يرد عن القوم المجرمين.

.تفسير الآيات (63- 67):

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}
{أَوَعَجِبْتُمْ} ألف استفهام دخلت على واو العطف، {أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: موعظة. وقيل: بيان. وقيل: رسالة. {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} عذاب الله إن لم تؤمنوا، {وَلِتَتَّقُوا} أي: لكي تتقوا الله، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا.
{فَكَذَّبُوهُ} يعني: كذبوا نوحا، {فَأَنْجَيْنَاهُ} من الطوفان، {وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} في السفينة، {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أي: كفارا، قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله. قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان، يقال رجل عم عن الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى كالخضر والأخضر. قال مقاتل: عموات عن نزول العذاب بهم وهو الغرق.
قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي: وأرسلنا إلى عاد- وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام-، وهي عاد الأولى {أخاهم} في النسب لا في الدين {هودا}، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص. وقال ابن إسحاق: هو بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون نقمته؟
{قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} يا هود، {فِي سَفَاهَةٍ} في حمق وجهالة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعونا إلى دين لا نعرفه، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أنك رسول الله إلينا.
{قَالَ} هود، {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

.تفسير الآيات (68- 72):

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة. قال الكلبي: كنت فيكم قبل اليوم أمينا.
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} يعني نفسه، {لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}.
يعني في الأرض، {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: من بعد إهلاكهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أي: طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير منهم ستون ذراعا. وقال أبو حمزة الثمالي: سبعون ذراعا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانون ذراعا. وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا. وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل تفرخ فيها الضباع، وكذلك مناخرهم. {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} نعم الله، واحدها إليَّ وآلاء مثل مِعَيّ وأمعاء، وقفا وأقفاء، ونظيرها: {آناء الليل} [الزمر- 9]، واحدها أنا وآناء، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنام، فأتنا بما تعدنا، من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
{قَالَ} هود، {قَدْ وَقَعَ} وجب ونزل، {عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} أي عذاب، والسين مبدلة من الزاي، {وَغَضَبٌ} أي: سخط، {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} وضعتموها، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} قال أهل التفسير: كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة، {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حجة وبرهان، {فَانْتَظِرُوا} نزول العذاب، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}.
{فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني هودا عند نزول العذاب، {وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم، {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
وكانت قصة عاد على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف، وهي رمال بين عمان وحضرموت، وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها، صنم يقال له صدى، وصنم يقال له صمود، وصنم يقال له الهباء، فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك، فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك.
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى، مختلفة أديانهم وكلهم معظّم لمكة، وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق، لأن أباهم عمليق بن لاذا بن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وافدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال من هزيل، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا.
فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه، وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي، والله ما أدري كيف أصنع بهم، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم، فقال معاوية بن بكر:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم أيامى

وإن الوحش تأتيهم جهارا ** فلا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ** نهاركمو وليلكمو التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم ** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما غنّتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير، وكان قد آمن بهود سرا: إنكم والله لا تُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ** عطاشا ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود ** يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد ** فأبصرنا الهدى وجلى العماء

وإن إله هود هو إلهي ** على الله التوكل والرجاء

فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله، وبها وفد عاد يدعون، فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، وكان قِيْلُ بن عنز رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد تخلف عن وفد عاد- حين دعوا- لقمان بن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام، فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي، وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر، وقال قِيْلُ بن عنز حين دعا: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحايب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب ما شئت فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا لا تبقي من آل عاد أحدا، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف- 24- 25] أي: كل شيء مرت به.
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد، فلما تبينت ما فيها صحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فلم تدع من آل عاد أحدا إلا هلك، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليها فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر، فقالوا له فأين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال: فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدق ورب مكة.
وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل بن عنز حين دعوا بمكة، قيل لهم: قد أعطيتكم مُنَاكم فاختاروا لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود، ولابد من الموت، فقال مرثد: اللهم أعطني صدقا وبرا فأعطي ذلك، وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا، فقيل له: اختر، فاختار عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته فيأخذ الذكر منها لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة، وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل فإنه قال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له: إن الهلاك، فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم، فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك.
قال السدي: بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه.
وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.
وفي الحديث: «إنها خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم» وروي عن علي رضي الله عنه: أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. ويروى: أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا.