فصل: تفسير الآيات (146- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (146- 147):

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}
قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بي، يعني: سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق، كقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.
قال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن. قال ابن جريج: يعني عن خلق السموات والأرض وما فيها أي أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها. وقيل: حكم الآية لأهل مصر خاصة، وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام. والأكثرون على أن الآية عامة {وَإِنْ يَرَوْا} يعني: هؤلاء المتكبرين {كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} قرأ حمزة والكسائي {الرَّشَد} بفتح الراء والشين، والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسُّقم والسَّقم والبُخل والبَخل والحُزن والحَزن.
وكان أبو عمرو يفرِّق بينهما، فيقول: الرُّشد- بالضم- الصلاح في الأمر، وبالفتح الاستقامة في الدين. معنى الآية: إن يروا طريق الهدى والسداد {لا يَتَّخِذُوهُ} لأنفسهم {سَبِيلا} {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} أي طريق الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} عن التفكير فيها والاتعاظ بها غافلين ساهين.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي: ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب، {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت وصارت كأن لم تكن، {هَلْ يُجْزَوْنَ} في العقبى {إِلا مَا كَانُوا} أي إلا جزاء ما كانوا {يَعْمَلُونَ} في الدنيا.

.تفسير الآيات (148- 149):

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}
قوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} أي: بعد انطلاقه إلى الجبل {مِنْ حُلِيِّهِمْ} التي استعاروها من قوم فرعون. قرأ حمزة والكسائي {مِنْ حُلِيِّهِمْ} بكسر الحاء وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام واتخذ السامري منها {عِجْلا} وألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلا {جَسَدًا} حيا ولحما ودما {لَهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وجماعة أهل التفسير.
وقيل: كان جسدا مجسدا من ذهب لا روح فيه، كان يسمع منه صوت.
وقيل: كان يسمع صوت حفيف الريح يدخل في جوفه ويخرج، والأول أصح.
وقيل: إنه ما خار إلا مرة واحدة، وقيل: كان يخور كثيرا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رءوسهم. وقال وهب: كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرك.
وقال السدي: كان يخور ويمشي {أَلَمْ يَرَوْا} يعني: الذين عبدوا العجل {أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} قال الله عز وجل: {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أي: اتخذوه إلها وكانوا كافرين.
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر: قد سقط في يديه، {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} يتب علينا ربنا، {وَيَغْفِرْ لَنَا} يتجاوز عنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قرأ حمزة والكسائي: {ترحمنا وتغفر لنا} بالتاء فيهما {ربنا} بنصب الباء. وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم.

.تفسير الآيات (150- 151):

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
قوله عز وجل: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} قال أبو الدرداء: الأسف شديد الغضب. وقال ابن عباس والسدي: أسِفا أي حزينا. والأسف أشد الحزن، {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي: بئس ما عملتهم بعد ذهابي، يقال: خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرا، {أَعَجِلْتُمْ} أسبقتم {أَمْرَ رَبِّكُمْ} قال الحسن: وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة. وقال الكلبي: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم. {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} التي فيها التوراة وكان حاملا لها، فألقاها على الأرض من شدة الغضب.
قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع، فرفع ما كان من أخبار الغيب، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} بذوائبه ولحيته {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب. {قَالَ} هارون عند ذلك {ابْنَ أُمَّ} قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم، يريد يا ابن أمي، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله: {يا عباد} وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص: بفتح الميم على معنى يا ابن أماه.
وقيل: جعله اسما واحدا وبناه على الفتح، كقولهم: حضرموت، وخمسة عشر، ونحوهما، وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه.
وقيل: كان أخاه لأمه دون أبيه، {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} يعني عَبَدَة العجل، {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} هموا وقاربوا أن يقتلوني، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي} في مؤاخذتك عليّ {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني عبدة العجل.
{قَالَ} موسى لما تبين له عذر أخيه، {رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما صنعت إلى أخي، {وَلأخِي} إن كان منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل، {وَأَدْخِلْنَا} جميعا {فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

.تفسير الآيات (152- 154):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} أي: اتخذوه إلها {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} في الآخرة {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال أبو العالية: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم. وقال عطية العوفي: {إن الذين اتخذوا العجل} أراد اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عيّرهم بصنيع آبائهم فنسبه إليهم {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أراد ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجزية، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الكاذبين، قال أبو قلابة هو- والله- جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله. قال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة.
قوله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ} أي: سكن، {عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ} التي كان ألقاها وقد ذهبت ستة أسباعها {وَفِي نُسْخَتِهَا} اختلفوا فيه، قيل: أراد بها الألواح، لأنها نسخت من اللوح المحفوظ.
وقيل: إن موسى لما ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى فهو المراد من قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا}.
وقيل: أراد: وفيما نسخ منها. وقال عطاء: فيما بقي منها. وقال ابن عباس وعمرو بن دينار: لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت عليه في لوحين فكان فيه، {هُدًى وَرَحْمَةً} أي: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب، {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي: للخائفين من ربهم، واللام في {لِرَبِّهِمْ} زيادة توكيد، كقوله: {رَدِفَ لكم} [النمل- 72]، وقال الكسائي: لما تقدمت قبل الفعل حسنت، كقوله: {للرؤيا تعبرون} [يوسف- 43]، وقال قطرب: أراد من ربهم يرهبون. وقيل: أراد راهبون. وقيل: أراد راهبون لربهم.

.تفسير الآية رقم (155):

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}
قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه، فانتصب لنزع حرف الصفة، {سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} فيه دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل. قال السدي: أمر الله تعال موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا {فَلَمَّا} أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا.
قال ابن إسحاق: اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا ويسألوا التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم، فهذا يدل على أن كلهم عبدوا العجل.
وقال قتادة، وابن جريج، ومحمد بن كعب: {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يأمروهم بالمعروف لم ينهوهم عن المنكر.
وقال ابن عباس: إن السبعين الذين قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة} [البقرة- 55]، كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا، ولا تعطه أحدا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة.
وقال وهب: لم تكن الرجفة صوتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا، حتى كادت أن تَبِيْنَ مفاصلهم، فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت، فاشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير، سامعين مطيعين، فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمأنوا وسمعوا كلام ربهم، فذلك قوله عز وجل: {قَالَ} يعني موسى {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} يعني عن عبادة العجل {وَإِيَّايَ} بقتل القبطي. {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}.
يعني عبدة العجل، وظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذهم العجل، وقال هذا على طريق السؤال، يسأل: أتهلكنا بفعل السفهاء؟.
وقال المبرد: قوله: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا، وقد علم موسى عليه السلام أن الله تعالى أعدل من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره.
قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي: التي وقع فيها السفهاء، لم تكن إلا اختبارك وابتلاءك، أضللت بها قوما فافتتنوا، وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك، فذلك هو معنى قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا} ناصرنا وحافظنا، {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}.

.تفسير الآيات (156- 157):

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
{وَاكْتُبْ لَنَا} أوجب لنا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} النعمة والعافية، {وَفِي الآخِرَةِ} أي: وفي الآخرة {حَسَنَةً} أي المغفرة والجنة، {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا إليك، {قَالَ} الله تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} من خلقي، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} عمت كل شيء، قال الحسن وقتادة: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. وقال عطية العوفي: وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون، وذلك أن الكافر يرزق، ويدفع عنه بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين، فيعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة، كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه.
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- وقتادة، وابن جريج: لما نزلت: {ورحمتي وسعت كل شيء} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} فتمناها اليهود والنصارى، وقالوا: نحن نتقي ونؤمن، ونؤتي الزكاة، فجعلها الله لهذه الأمة فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ} الآية. قال نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا، تصلون حيث أردكتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرؤها الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا، فقال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} إلى قوله: {أولئك هم المفلحون}، فجعلها الله لهذه الأمة. فقال موسى عليه السلام: يا رب اجعلني نبيهم، فقال: نبيهم منهم، قال: رب اجعلني منهم فقال: إنك لن تدركهم، فقال موسى عليه السلام: يا رب أني أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا، فأنزل الله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف- 159]، فرضي موسى.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما هو نبيكم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وهو منسوب إلى الأم، أي هو على ما ولدته أمه. وقيل هو منسوب إلى أمته، أصله أمتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة.
{الَّذِي يَجِدُونَهُ} أي: يجدون صفته ونعته ونبوته، {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أن أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ لا غليظ ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال عن عطاء عن ابن سلام أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي حدثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن عبد الله بن ضمرة عن كعب- رضي الله عنه- قال: إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد، يأتزرون على أنصافهم ويوضئون أطرافهم، صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة ومهاجره بطابة وملكه بالشام.
قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بالإيمان، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي: عن الشرك، وقيل: المعروف: الشريعة والسنة، والمنكر: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف: بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام، وينهاهم عن المنكر: عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} يعني: ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} يعني: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والزنا وغيرها من المحرمات. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} قرأ ابن عامر {آصارهم} بالجمع. والإصر: كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل.
قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد: يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.
وقال قتادة: يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين، {وَالأغْلالَ} يعني: الأثقال: {الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وذلك مثل: قتل الأنفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية، وترك العمل في السبت، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلك من الشدائد. وشبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَعَزَّرُوهُ} وقّروه، {وَنَصَرُوهُ} على الأعداء {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} يعني: القرآن {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.