فصل: تفسير الآيات (158- 159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (158- 159):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي: آياته وهي القرآن. وقال مجاهد والسدي: يعني عيسى ابن مريم، ويقرأ {كلمته} {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
قوله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} يعني: بني إسرائيل {أُمَّةٌ} أي: جماعة، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي: يرشدون ويدعون إلى الحق. وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: بالحق يحكمون وبالعدل يقومون. قال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين، بأقصى الشرق على نهر يجري الرمل يسمى نهر أوداف، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون بالليل ويصحون بالنهار، ويزرعون حتى لا يصل إليهم منا أحد، وهم على الحق.
وذُكر: أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا فقال لهم: هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به فقالوا: يا رسول الله إن موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منا السلام، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمِّعوا ويتركوا السبت.
وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح.

.تفسير الآيات (160- 162):

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي: فرّقناهم، يعني بني إسرائيل، {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}.
قال الفراء: إنما قال: {اثنتي عشرة}، والسبط مذكر لأنه قال: {أمما} فرجع التأنيث إلى الأمم، وقال الزجاج: المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة أمما، وإنما قال: {أسباطا أمما}، بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع، فلا يقال: أتاني اثنا عشر رجالا لأن الأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة، أي: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أمما.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة، والأسباط القبائل واحدها سبط.
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} في التيه، {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} انفجرت. وقال أبو عمرو بن العلاء: عرقت وهو الانبجاس، ثم انفجرت، {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} لكل سبط عين {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط، {مَشْرَبَهُمْ} وكل سبط بنو أب واحد.
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} في التيه تقيهم حر الشمس، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ} قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب: {نغفر} بالتاء وضمها وفتح الفاء. وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الفاء، {خَطِيئَاتِكُمْ} قرأ ابن عامر {خطيئتكم} على التوحيد ورفع التاء، وقرأ أبو عمرو: {خطاياكم}، وقرأ أهل المدينة ويعقوب: {خطيئاتكم} بالجمع ورفع التاء. وقرأ الآخرون بالجمع وكسر التاء {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} عذابا {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (163):

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}
قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} قيل: هي {مدين}، أي: سلْ يا محمد هؤلاء اليهود الذي هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي: بقربه. قال ابن عباس: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر. وقال الزهري: هي طبرية الشام. {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أي: ظاهرة على الماء كثيرة، جمع شارع. وقال الضحاك: متتابعة.
وفي القصة: أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض.
{وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} كإتيانهم يوم السبت، قرأ الحسن: {لا يُسبتون} بضم الياء أي: لا يدخلون في السبت، والقراءة المعروفة بنصب الياء، ومعناه: لا يعظمون السبت، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} نختبرهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فوسوس إليهم الشيطان وقال: إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل، فاصطادوا. أو قيل: وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ، فاتخذوا حيضا على شاطئ البحر، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم تأخذونها يوم الأحد. ففعلوا ذلك زمانا ثم تجرأوا على السبت، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أُحلّ لنا، فأخذوا وأكلوا وباعوا، فصار أهل القرية أثلاثا، وكانوا نحوا من سعين ألفا، ثلث نهوا، وثلث لم ينهوا وسكتوا وقالوا: لِمَ تعظون قوما الله مهلكهم؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال الناهون: لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم شأنا لعل الخمر غلبتهم فعَلَوا على الجدار، فإذا هم قردة، فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابها من القرود، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم فتقول برأسها: نعم، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.

.تفسير الآيات (164- 165):

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} اختلفوا في الذين قالوا هذا، قيل: كانوا من الفرقة الهالكة، وذلك أنهم لما قيل لهم انتهوا عن هذا العمل السيئ، قبل أن ينزل بكم العذاب وأنا نعلم أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا أجابوا وقالوا: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أَوْ} علمتهم أنه {مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا} أي: قال الناهون {مَعْذِرَةً} أي: موعظتنا معذرة {إِلَى رَبِّكُمْ} قرأ حفص: {معذرة} بالنصب أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم. والأصح أنها من قول الفرقة الساكنة، قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم، قالوا معذرة إلى ربكم، ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتقون الله ويتركوا المعصية، ولو كان الخطاب مع المعتدين لكان يقول ولعلكم تتقون.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: تركوا ما وعظوا به، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني الفرقة العاصية، {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي: شديد وجيع، من البأس وهو الشدة.
واختلف القراء فيه قرأ أهل المدينة وابن عامر {بئيس} بكسر الباء على وزن فعل، إلا أن ابن عامر يهمزه، وأبو جعفر ونافع لا يهمزان، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل، وقرأ الآخرون على وزن فعيل مثل بعير وصغير.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أسمع الله يقول: {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس}، فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة؟ قال عكرمة: قلت له: جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي، فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما.
وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما والذين قالوا معذرة إلى ربكم، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان. وهذا قول الحسن.
وقال ابن زيد: نجت الناهية، وهلكت الفرقتان، وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر.

.تفسير الآيات (166- 167):

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} مبعدين، فمكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي: آذن وأعلم ربك، يقال: تأذن وآذن، مثل: توعد وأوعد. وقال ابن عباس: تأذن ربك قال ربك. وقال مجاهد: أمر ربك. وقال عطاء: حكم ربك. {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: على اليهود، {مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآيات (168- 169):

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)}
{وَقَطَّعْنَاهُمْ} وفرقناهم {فِي الأرْضِ أُمَمًا} فرقا فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة، {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} قال ابن عباس ومجاهد: يريد الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} يعني الذين بقوا على الكفر.
وقال الكلبي: منهم الصالحون هم الذين وراء نهر أوداف من وراء الصين ومنهم دون ذلك، يعني: من هاهنا من اليهود، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ} بالخصب والعافية، {وَالسَّيِّئَاتِ} الجدب والشدة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا.
قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: جاء من هؤلاء الذين وصفناهم {خَلْفٌ} والخلف: القرن الذي يجيء بعد قرن. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء، والخلف بفتح اللام: البدل سواء كان ولدا أو غريبا.
وقال ابن الأعرابي: الخلّف بالفتح: الصالح، وبالجزم: الطالح.
وقال النضر بن شميل: الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد، وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير.
وقال محمد بن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام، وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح. {وَرِثُوا الْكِتَابَ} أي: انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} فالعرض متاع الدنيا، والعَرْض، بسكون الراء، ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير. وأراد بالأدنى العالَم، وهو هذه الدار الفانية، فهو تذكير الدنيا، وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيّعوا العمل بما فيها، وخالفوا حكمها، يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ذنوبنا يتمنون على الله الأباطيل.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا أبو طاهر، محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أنبأنا عبد الله بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنبأنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله».
{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما، ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه. وقال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم، فيقال له: ما لك ترتشي؟ فيقول: سيغفر لي، فيطعن عليه الآخرون، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضا. يقول: وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي: أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل، وهي تمني المغفرة مع الإصرار، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار، {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} قرأوا ما فيه، فهم ذاكرون لذلك، ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة، ودرس الكتاب: قراءته وتدبره مرة بعد أخرى، {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

.تفسير الآيات (170- 172):

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} قرأ أبو بكر عن عاصم: {يمسكون} بالتخفيف، وقراءة العامة بالتشديد، لأنه يقال: مسكت بالشيء، ولا يقال أمسكت بالشيء، إنما يقال: أمسكته، وقرأ أبي بن كعب: {والذين تمسكوا بالكتاب}، على الماضي وهو جيد لقوله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} إذ قَلَّ ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى، وأراد الذين يعملون بما في الكتاب، قال مجاهد: هم المؤمنون من أهل الكتاب، عبد الله بن سلام وأصحابه، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرّفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة. وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.
قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي: فلقنا الجبل، وقيل: رفعناه {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قال عطاء: سقيفة، والظلة: كل ما أظلك، {وَظَنُّوا} علموا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا} أي: وقلنا لهم خذوا، {مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} واعلموا به، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع الله على رءوسهم جبلا. قال الحسن: فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه، ولذلك لا تجد يهوديا إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية. قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله للجنة بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا.
قال مقاتل وغيره من أهل التفسير: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: يا آدم هذه ذريتك، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم أعادهم جميعا في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف- 102].
وقال بعض أهل التفسير: إن أهل السعادة أقروا طوعا وقالوا: بلى، وأهل الشقاوة قالوه تقية وكرها، وذلك معنى قوله: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها} [آل عمران- 83].
واختلفوا في موضع الميثاق؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نَعْمان- واد إلا جنب عرفة- وروي عنه أيضا: أنه بدهناء من أرض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه. وقال الكلبي: بين مكة والطائف، وقال السدي: أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة فلم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته. وروي: أن الله أخرجهم جميعا وصوّرهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ثم كلمهم قُبُلا- يعني عيانا- وقال ألست بربكم؟ وقال الزجاج وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به، كما قال تعالى: {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل- 18].
وروي أن الله تعالى قال لهم جميعا: اعملوا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي، وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، ومنزل عليكم كتبا، فتكلموا جميعا، وقالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم، ثم كتب آجالهم وأرزقاهم ومصائبهم، فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن أشكر، فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه فذلك قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} أي: من ظهور بني آدم ذريتهم، قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر: {ذرياتهم} بالجمع وكسر التاء، وقرأ الآخرون {ذريتهم} على التوحيد، ونصب التاء.
فإن قيل: ما معنى قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} وإنما أخرجهم من ظهر آدم؟ قيل: إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لِمَا علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره.
قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي: أشهد بعضهم على بعض: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} قرأ أبو عمرو: {أن يقولوا} ويقولوا بالياء فيهما، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما.
واختلفوا في قوله: {شهدنا} قال السدي: هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. وقال بعضهم: هو خبر عن قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض، فقالوا بلى شهدنا. وقال الكلبي: ذلك من قول الملائكة، وفيه حذف تقديره: لما قالت الذرية: بلى قال الله للملائكة: اشهدوا، قالوا: شهدنا، قوله: {أن يقولوا} يعني: وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا، أي: لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلا تقولوا: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي: عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل: كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.