فصل: تفسير الآيات (10- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (10- 12):

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} يعني: الإمداد بالملائكة، {إِلا بُشْرَى} أي: بشارة {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يغشاكم} بفتح الياء، {النعاس} رفع على أن الفعل له، كقوله تعالى في سورة آل عمران {أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} [آل عمران- 154] وقرأ أهل المدينة: {يغشيكم} بضم الياء وكسر الشين مخففا، {النعاس} نصب، كقوله تعالى: {كأنما أغشيت وجوههم}، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الشين مشددا، {النعاس} نصب، على أن الفعل لله عز وجل، كقوله تعالى: {فغشاها ما غشى} [النجم- 54]، والنعاس: النوم الخفيف. {أَمَنَةً} أمنا {مِنْهُ} مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا، وتوضأوا وسقوا الركاب، وملأوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبَّد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} من الأحداث والجنابة.
{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} وسوسته، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} باليقين والصبر {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض. وقيل: يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ} الذين أمد بهم المؤمنين، {أَنِّي مَعَكُمْ} بالعون والنصر، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: قووا قلوبهم. قيل: ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم، أي: ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين.
وقال مقاتل: أي: بشروهم بالنصر، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ} قيل: هذا خطاب مع المؤمنين. وقيل: هذا خطاب مع الملائكة، وهو متصل بقوله: {فثبتوا الذين آمنوا}، وقوله: {فوق الأعناق} قال عكرمة: يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق. وقال الضحاك: معناه فاضربوا الأعناق، وفوق صلة كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد- 4]، وقيل: معناه فاضربوا على الأعناق. فوق بمعنى: على.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال عطية: يعني كل مفصل. وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف. والبنان جمع بنانة، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين. قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون، فعلّمهم الله عز وجل.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا زهير بن حرب، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذا سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة». فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: والله، لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: إلي يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، قال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته».
وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر، كعب بن عمرو أخو بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر، كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أعانك عليه ملك كريم».

.تفسير الآيات (13- 16):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} خالفوا الله، {وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{ذَلِكُمْ} أي: هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر، {فَذُوقُوهُ} عاجلا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} أي: واعلموا وأيقنوا أن للكافرين أجلا في المعاد، {عَذَابِ النَّارِ} روى عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو أسير في وثاقه: لا يصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمه؟ قال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي مجتمعين متزاحمين بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني في القتال: والزحف مصدر؛ لذلك لم يجمع، كقولهم: قوم عدل ورضا. قال: الليث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدولهم بمرة، فهم الزحف والجمع: الزحوف. {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} يقول: فلا تولوهم ظهوركم، أي تنهزموا فإن المنهزم يولى دبره.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره، {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي منعطفا يرى من نفسه الانهزام، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال. ومعنى الآية النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم، إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد، كما قال تعالى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك.
قال يزيد بن أبي حبيب أوجب الله النار لمن فر يوم بدر، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [آل عمران- 155]، ثم كان يوم حنين بعده فقال: {ثم وليتم مدبرين} [التوبة 0 25] {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} [التوبة- 27].
وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا، فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون قال: «بل أنتم الكرارون، أنا فئة المسلمين».
وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي كنت له فئة فأنا فئة كل مسلم.
وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزما. جاء في الحديث: «من الكبائر الفرار من الزحف».
وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: {الآن خفف الله عنكم} [الأنفال- 66] فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو يولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم قال ابن عباس: «من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن اثنين فقد فر».

.تفسير الآية رقم (17):

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}
قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} قال مجاهد سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول: أنا قتلت فلانا ويقول الآخر مثله، فنزلت الآية. ومعناه: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم.
وقيل: لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قال أهل التفسير والمغازي: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا، ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم أسلم، غلام أسود لبني الحجاج، وأبو يسار، غلام لبني العاص بن سعيد، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: أين قريش؟ قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى- والكثيب: العقنقل- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا يوما عشرة ويوما تسعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف» ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري ابن هشام، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله تصوب من العقنقل، وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي، قال لهم: هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصى عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه منها شيء، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
وقال قتادة، وابن زيد: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم، وقال: شاهت الوجوه، فانهزموا، فذلك قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء.
وقيل: معناه الآية وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ.
وقيل: وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا، {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} أي: ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائكم، {عَلِيمٌ} بنياتكم.

.تفسير الآيات (18- 19):

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
{ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن، {وَأَنَّ اللَّهَ} قيل: فيه إضمار، أي: واعلموا أن الله {مُوهِنُ} مضعف، {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة: {موهن} بالتشديد والتنوين، {كيد} نصب، وقرأ الآخرون {موهن} بالتخفيف والتنوين إلا حفصا، فإنه يضيفه فلا ينون ويخفض {كيد}.
قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر لما التقى الناس: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان، حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي وما تصنع به؟ فقال: عاهدت الله عز وجل إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله، فما سرني أني بين رجلين بمكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء.
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن المثنى، ثنا ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم: «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟» قال: فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه.
قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى، فقال: اللهم لا يعجزنك، قال فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني جعلت عليها قدمي، ثم تمطيت بها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل قال عبد الله بن مسعود: وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة؟ قلت: لله ولرسوله.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا رأس أبي جهل، فقال: آلله الذي لا إله غيره؟ قلت: نعم، والذي لا إله غيره، ثم ألقيته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل.
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر.
وقال عكرمة: قال المشركون والله لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله عز وجل: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أي: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
وقال أبي بن كعب: هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى للمسلمين: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أي: إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا الفضل بن موسى، ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا؟ فجلس محمارا لونه أو وجهه فقال لنا: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، ويحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، وما يصرفه عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، ولكنكم تعجلون».
قوله: {وَإِنْ تَنْتَهُوا} يقول للكفار، إن تنتهوا عن الكفر بالله وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا} لحربه وقتاله، {نَعُدْ} بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر. وقيل: وإن تعودوا إلى الدعاء والاستفتاح نعد للفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتكم، {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص {وأن الله} بفتح الهمزة، أي: ولأن الله مع المؤمنين، كذلك {لن تغني عنكم فئتكم شيئا}، وقيل: هو عطف على قوله: {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين}، وقرأ الآخرون: {وإن الله} بكسر الألف على الابتداء.