فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (31):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)}
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا} يعني النضر بن الحارث، {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وذلك أنه كان يختلف تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم واسفنديار، وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤن التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء إلى مكة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ القرآن فقال النضر: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم وما سطر الأولون في كتبهم. والأساطير: جمع اسطورة، وهي المكتوبة، من قولهم سطرت أي كتبت.

.تفسير الآيات (32- 33):

{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار.
قال ابن عباس: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين- أي: ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم- فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه: اتق الله فإن محمدا يقول الحق، قال: فأنا أقول الحق، قال عثمان: فإن محمدا يقول لا إله إلا الله، قال وأنا أقول لا إله إلا الله، ولكن هذه بنات الله، يعني الأصنام، ثم قال: اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك- و{الحق} نصب بخبر كان، وهو عماد وصلة- {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} كما أمطرتها على قوم لوط، {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: ببعض ما عذبت به الأمم، وفيه نزل: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج- 1].
وقال عطاء: لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
قال سعيد بن جبير: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبرا من قريش: طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث.
وروى أنس رضي الله عنه أن الذي قاله أبو جهل.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن النضر، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب الزيادي، سمع أنس بن مالك قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} اختلفوا في معنى هذه الآية، فقال محمد بن إسحاق: هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولا يعذب أمة ونبيها معها، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، وقالوا {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثم قال ردا عليهم: {وما لهم ألا يعذبهم الله}؟ وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون {وهم يصدون عن المسجد الحرام}.
وقال الآخرون: هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخبارا عن نفسه: {وما كان الله ليعذبهم}.
واختلفوا في تأويلها، فقال الضحاك وجماعة: تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم، قالوا: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة، ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون، فأنزل الله تعالى: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}، ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا، وأذن الله في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر. فقال: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله}، فعذبهم الله يوم بدر.
وقال أبو موسى الأشعري: كان فيكم أمانان {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة.
وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف: غفرانك غفرانك.
وقال يزيد بن رومان: قالت قريش إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا غفرانك اللهم، فقال الله عز وجل: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وقال قتادة والسدي: معناه: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، أي: لو استغفروا، ولكنهم لم يكونوا يستغفرون، ولو أنهم أقروا بالذنب، واستغفروا، لكانوا مؤمنين.
وقيل: هذا دعاء إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعني، أي أطعني حتى لا أعاقبك.
وقال مجاهد وعكرمة: وهم يستغفرون أي يسلمون. يقول: لو أسلموا لما عذبوا. وروى الوالبي عن ابن عباس: أي وفيهم من سبق له من الله أن يسلم ويؤمن ويستغفر وذلك مثل: أبي سفيان، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام وغيرهم.
وروى عبد الوهاب عن مجاهد: وهم يستغفرون أي وفي أصلابهم من يستغفر.

.تفسير الآيات (34- 35):

{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي: وما يمنعهم من أن يعذبوا، يريد بعد خروجك من بينهم، {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت.
وقيل: أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال، وأراد بقوله: {وما لهم أن ألا يعذبهم الله} أي: بالسيف.
وقيل: أراد بالأول عذاب الدنيا، وبهذه الآية عذاب الآخرة.
وقال الحسن: الآية الأولى وهي قوله: {وما كان الله ليعذبهم} منسوخة بقوله تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله}.
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} قال الحسن: كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بقوله: {وما كانوا أولياءه} أي: أولياء البيت، {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} أي: ليس أولياء البيت، {إِلا الْمُتَّقُونَ} يعني: المؤمنين الذين يتقون الشرك، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قال ابن عباس والحسن: المكاء: الصفير، وهي في اللغة اسم طائر أبيض، يكون بالحجاز له صفير، كأنه قال: إلا صوت مكاء، والتصدية التصفيق.
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون.
قال مجاهد: كل نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويستهزءون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون. فالمكاء: جعل الأصابع في الشدق. والتصدية الصفير، ومنه الصدى الذي يسمعه المصوت في الجبل.
قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل: {إلا مكاء وتصدية} فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا.
قال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن شماله فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، وهم من بني عبد الدار.
قال سعيد بن جبير: التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وعن الدين، والصلاة. وهي على هذا التأويل: التصددة بدالين، فقلبت إحدى الدالين ياء، كما يقال تظنيت من الظن، وتقضى البازي إذا البازي كسر، أي تقضض البازي. قال ابن الأنباري: إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد فجعلوا ذلك صلاتهم. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: ليصرفوا عن دين الله.
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلا أبو جهل بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحرث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفلُ والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر.
وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية.
قال الله تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} يريد: ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ولا يظفرون، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} منهم، {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} خص الكفار لأن منهم من أسلم.

.تفسير الآيات (37- 38):

{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38)}
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} في سبيل الشيطان {مِنَ الطَّيِّبِ} يعني: الكافر من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران.
وقال الكلبي: العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب، فيثب على الأعمال الصالحة الجنة، وعلى الأعمال الخبيثة النار.
وقيل: يعني: الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله.
{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي: فوق بعض، {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي: يجمعه ومنه السحاب المركوم، وهو المجتمع الكثيف، فيجعله في جهنم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} رده إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}... {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسرت تجارتهم، لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} عن الشرك {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام، {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} في نصر الله أنبياءه وإهلاك أعدائه. قال يحيى بن معاذ الرازي: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر، أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.

.تفسير الآيات (39- 41):

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك. قال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي: ويكون الدين خالصا لله لا شرك فيه، {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الكفر، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ يعقوب {تعملون} بالتاء، وقرأ الاخرون بالياء.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمان وعادوا إلى قتال أهله، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} ناصركم ومعينكم، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية. الغنيمة والفيء: اسمان لمال يصيبه المسلمون من أموال الكفار. فذهب جماعة إلى أنهما واحد، وذهب قوم إلى أنهما مختلفان: فالغنيمة: ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال، والفيء: ما كان عن صلح بغير قتال. فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال: {فأن لله خمسه وللرسول}.
ذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله: {لله} افتتاح كلام على سبيل التبرك وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه، وليس المراد منه أن سهما من الغنيمة لله منفردا، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل. وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم والشعبي، قالوا: سهم الله وسهم الرسول واحد. والغنيمة تقسم خمسة أخماس، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها، والخمس لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل، {وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
قال بعضهم: يقسم الخمس على ستة أسهم، وهو قول أبي العالية، سهم لله: فيصرف إلى الكعبة. والأول أصح، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام، وهو قول الشافعي رحمه الله.
وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح.
وقال قتادة: هو للخليفة بعده. وقال بعضهم: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس والخمس لأربعة أصناف.
قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} أراد أن سهما من الخمس لذوي القربى وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا فيهم، فقال قوم: جميع قريش. وقال قوم: هم الذين لا تحل لهم الصدقة.
وقال مجاهد وعلي بن الحسين: هم بنو هاشم.
وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء، وإن كانوا إخوة، والدليل عليه ما: أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا الثقة، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا.
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع أنا الشافعي، أنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه».
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم؟.
فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت، وهو قول مالك والشافعي.
وذهب أ صحاب الرأي إلى أنه غير ثابت، وقالوا: سهم رسول الله وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقال بعضهم: يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء.
والكتاب والسنة يدلان على ثبوته، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه، ولا يفضل فقير على غني لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة، غير أنه يعطى القريب والبعيد. وقال: يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهما واحدا.
قوله: {وَالْيَتَامَى} وهو جمع اليتيم، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم، الذي لا أب له، إذا كان فقيرا، {وَالْمَسَاكِينِ} هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، {وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافر البعيد عن ماله، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة، للفارس منهم ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد، لما أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، أنا عبد الله بن يوسف أنا أبو سعيد بن الأعرابي ثنا سعدان بن نصر ثنا أبو معاوية عن عبيد الله عن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه وهذا قول أكثر أهل العلماء وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد.
ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول. وعند أبي حنيفة: يتخير الإمام في العقار: بين أن يقسمه بينهم، وبين أن يجعله وقفا على المصالح.
وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول.
ومن قتل مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه». والسلب: كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح، وفرسه الذي هو راكبه.
ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب، يخصهم به من بين سائر الجيش ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة:
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش.
وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة.
واختلفوا في أن النفل من أين يعطى؟ فقال قوم: من خمس الخمس، سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول سعيد بن المسيب، وبه قال الشافعي، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم».
وقال قوم: هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة، وهو قول أحمد وإسحاق.
وذهب بعضهم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل. وأما الفيء: وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، بأن صالحهم على مال يؤدونه، ومال الجزية، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كله فيء.
ومال الفيء كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، قال عمر رضي الله عنه: إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ: {وما أفاء الله على رسوله منهم} إلى قوله: {قدير} [الحشر- 6]، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل.
واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: هو للأئمة بعده. وللشافعي فيه قولان: أحدهما، للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو. والقول الثاني: أنه لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم، ثم بالأهم فالأهم من المصالح.
واختلف أهل العلم في تخميس الفيء: فذهب الشافعي إلى أنه يخمس خمسه لأهل الغنيمة، على خمسة أسهم. وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح.
وذهب الأكثرون: إلى أن الفيء لا يخمس، بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق:
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أنا محمد بن زكريا العذافري، أنا إسحاق الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان: أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق، إلا ما ملكت أيمانكم».
وأخبرنا أبو سعيد الطاهري أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا محمد بن زكريا العذافري أنبأنا أبو إسحاق الدبري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثنان قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} حتى بلغ {عليم حكيم} [التوبة- 60] فقال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} حتى بلغ {وابن السبيل}، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} حتى بلغ {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا} [الحشر- 7- 9] ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، فلئن عشت، فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها، لم يعرق فيها جبينه.
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} قيل: أراد {اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} يأمر فيه بما يريد، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا، يعني: قوله: {يسألونك عن الأنفال} {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يعني يوم بدر، فرق الله بين الحق والباطل وهو {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} حزب الله وحزب الشيطان، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} على نصركم مع قلتكم وكثرتهم.