فصل: تفسير الآيات (104- 105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (104- 105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} وذلك أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، من المراعاة أي أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا، يقال: أرعى إلى الشيء، ورعاه، وراعاه، أي أصغى إليه واستمعه، وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا بلغة اليهود، وقيل: كان معناها عندهم اسمع لا سمعت.
وقيل: هي من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا له: راعنا بمعنى يا أحمق! فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها من أحدكم يقولها لرسول صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} كيلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أي انظر إلينا وقيل: انتظرنا وتأن بنا، يقال: نظرت فلانا وانتظرته، ومنه قوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم} [13- الحديد] قال مجاهد: معناها فهمناه {وَاسْمَعُوا} ما تؤمرون به وأطيعوا {وَلِلْكَافِرِينَ} يعني اليهود {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تكذيبا لهم {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ} أي ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود {وَلا الْمُشْرِكِينَ} جره بالنسق على من {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي خير ونبوة، ومن صلة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} بنبوته {مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والفضل ابتداء إحسان بلا علة.
وقيل: المراد بالرحمة الإسلام والهداية وقيل: معنى الآية إن الله تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم، فنزلت الآية وأما المشركون فإنما لم تقع بودهم لأنه جاء بتضليلهم وعيب آلهتهم.

.تفسير الآيات (106- 108):

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قوله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما أخبر الله {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} [101- النحل] وأنزل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية.
والنسخ في اللغة شيئان:
أحدهما: بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ.
والثاني: يكون بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته. فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا وهو المراد من الآية وهذا على وجوه، أحدها: أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب. وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما نثبت خطها ونبدل حكمها، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها مثل آية الرجم، ومنها أن ترفع تلاوته أصلا عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن قوما من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها» وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، فرفع أكثرها تلاوة وحكما، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ومصابرة الواحد العشر في القتال نسخت بمصابرة الإثنين، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه، كامتحان النساء. والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار.
أما معنى الآية فقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ، أي: نرفعها، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان:
أحدهما: أن نجعله كالمنسوخ.
والثاني: أن نجعله نسخة له يقال: نسخت الكتاب أي كتبته، وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له {أَوْ نُنْسِهَا} أي ننسها على قلبك.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما، نتركها لا ننسخها، قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [67- التوبة] أي تركوه فتركهم وقيل {نُنْسِهَا} أي: نأمر بتركها، يقال: أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم وإقامة غيره مقامه، والإنساء يكون ناسخا من غير إقامة غيره مقامه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزا أي نؤخرها فلا نبدلها يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، وفي معناه قولان: أحدهما: نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم، والقول الثاني: قال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ ولا تنزل.
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله واحد وكله خير {أَوْ مِثْلِهَا} في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من النسخ والتبديل، لفظه استفهام، ومعناه تقرير، أي: إنك تعلم.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ} يا معشر الكفار عند نزول العذاب {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مما سوى الله {مِنْ وَلِيٍّ} قريب وصديق وقيل: من وال وهو القيم بالأمور {وَلا نَصِيرٍ} ناصر يمنعكم من العذاب.
قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} يعني أتريدون فالميم صلة وقيل: بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} سأله قومه: أرنا الله جهرة وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، كما أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة ففيه منعهم عن السؤالات المقبوحة بعد ظهور الدلائل والبراهين {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ} يستبدل الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أخطأ وسط الطريق وقيل: قصد السبيل.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أصبتما الخير وأفلحتما» فأنزل الله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب} أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} يا معشر المؤمنين {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا} نصب على المصدر، أي يحسدونكم حسدا {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق {فَاعْفُوا} فاتركوا {وَاصْفَحُوا} وتجاوزوا، فالعفو: المحو والصفح: الإعراض، وكان هذا قبل آية القتال {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعذابه: القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة هو أمره بقتالهم في قوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون} [29- التوبة] وقال ابن كيسان: بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا} تسلفوا {لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} طاعة وعمل صالح {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وقيل: أراد بالخير المال كقوله تعالى: {إن ترك خيرا} [180- البقرة] وأراد من زكاة أو صدقه {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} حتى الثمرة واللقمة مثل أحد {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

.تفسير الآيات (111- 113):

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} أي يهوديا، قال الفراء: حذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية، وقال الأخفش: الهود: جمع هائد، مثل عائد وعود، وحائل وحول {أَوْ نَصَارَى} وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية.
وقيل: نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود فكذب بعضهم بعضا، قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير الحق {قُل} يا محمد {هَاتُوا} أصله آتوا {بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على ما زعمتم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال ردا عليهم.
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي ليس الأمر كما قالوا، بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه {لِلَّه} أي أخلص دينه لله وقيل: أخلص عبادته لله وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام: الاستسلام والخضوع، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، وقيل: مؤمن وقيل: مخلص {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود: فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود، ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة فأنزل الله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} وكلا الفريقين يقرءون الكتاب، قيل: معناه ليس في كتبهم هذا الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يعني: آباءهم الذين مضوا {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قال مجاهد: يعني: عوام النصارى، وقال مقاتل: يعني مشركي العرب، كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين.
وقال عطاء:أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم: إنه ليس على شيء {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقضي بين المحق والمبطل {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الدين.

.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ} الآية نزلت في طيطوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، فكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال قتادة والسدي: هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى، طيطوس الرومي وأصحابه من أهل الروم، قال السدي: من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا، وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي المجوسي فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي أكفر وأعتى {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني بيت المقدس ومحاربيه. {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى} عمل {فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يدخلها يعني بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفأ لو علم به لقتل. وقال قتادة ومقاتل: لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكر لو قدر عليه لعوقب، قال السدي: أخيفوا بالجزية. وقيل: هذا خبر بمعنى الأمر، أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي أي ما ينبغي {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عذاب وهوان، قال قتادة: هو القتل للحربي والجزية للذمي، قال مقاتل والكلبي تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية، ورومية، وعمورية {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النار، وقال عطاء وعبد الرحمن بن زيد: نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من أن يعمره بذكر فقد سعوا في خرابه {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} يعني أهل مكة يقول أفتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم، ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: «ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك» فهذا خوفهم، وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} الذل والهوان والقتل والسبي والنفي.