فصل: تفسير الآيات (55- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (55- 58):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} قال الكلبي ومقاتل: يعني يهود بني قريظة، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} يعني عاهدتهم وقيل: أي: عاهدت معهم. وقيل أدخل من لأن معناه: أخذت منهم العهد، {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} وهم بنو قريظة، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية، فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافقهم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} لا يخافون الله تعالى في نقض العهد.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} تجدنهم، {فِي الْحَرْبِ} قال مقاتل: إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم، {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} قال ابن عباس: فنكل بهم من ورائهم. وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم. وأصل التشريد: التفريق والتبديد، معناه فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجاءوا لحربك فعلا من القتل والتنكيل، يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد.
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} أي: تعلمن يا محمد، {مِنْ قَوْمٍ} معاهدين، {خِيَانَةً} نقض عهد بما يظهر لكم منهم آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم عهدهم، {عَلَى سَوَاءٍ} يقول: أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ثنا حفص بن عمر النمري، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء». فرجع معاوية رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (59- 60):

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)}
قوله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وحفص {يحسبن} بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، {سبقوا} أي: فأتوا، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين. فمن قرأ بالياء يقول {لا يحسبن الذين كفروا} أنفسهم سابقين فائتين في عذابنا، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب. قرأ ابن عامر: {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} بفتح الألف، أي: لأنهم لا يعجزون، ولا يفوتونني. وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء.
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الإعداد: اتخاذ الشيء لوقت الحاجة. {مِنْ قُوَّةٍ} أي: من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاك.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي علي، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو على المنبر: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».
وبهذا الإسناد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو نعيم، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، ثنا حميد بن زنجويه، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال: حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة»، قال: فبلغت يومئذ ستة عشر سهما. وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر».
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن يحيى بن كثير، عن زيد بن سلام، عن عبد الله بن زيد بن الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله».
وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به ومنبله، وارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق. ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها أو قال كفرها».
قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} يعني: ربطها واقتناؤها للغزو. وقال عكرمة: القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث. وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها. وعن أبي محيريز قال: كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو نعيم، ثنا زكريا عن عامر، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم».
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا علي بن حفص، ثنا ابن المبارك، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا وتصديقا بوعده، فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وهي لرجل وزر، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها من ذلك المرج أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات، فهي لذلك الرجل أجر، وأما التي هي له ستر: فرجل ربطها تغنيا وتعففا، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له وزر: فرجل ربطها فخرا ورياء، ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر» وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}» {تُرْهِبُونَ بِهِ} تخوفون {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ} أي: وترهبون آخرين، {مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} قال مجاهد ومقاتل وقتادة: هم بنو قريظة. وقال السدي: هم أهل فارس. وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون، لا تعلمونهم، لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله. وقيل: هم كفار الجن.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يوفى لكم أجره، {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تنقص أجوركم.

.تفسير الآيات (61- 64):

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} أي: مالوا إلى الصلح، {فَاجْنَحْ لَهَا} أي: مل إليها وصالحهم. روي عن قتادة والحسن: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [براءة- 5] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}! ثم بالله، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} يغدروا ويمكروا بك. قال مجاهد: يعني بني قريظة. {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيك الله، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي: بالأنصار.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: بين الأوس والخزرج، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية، فصيرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال سعيد بن جبير: أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون، فنزلت هذه الآية.
واختلفوا في محل من فقال أكثر المفسرين محله خفض، عطفا على الكاف في قوله: {حسبك الله} وحسب من اتبعك، وقال بعضهم: هو رفع عطفا على اسم الله معناه: حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين.

.تفسير الآيات (65- 67):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي: حثهم على القتال.
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} رجلا {صَابِرُونَ} محتسبون، {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} من عدوهم يقهروهم، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} صابرة محتسبة، {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ذلك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي: إن المشركون يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال، خشية أن يقتلوا. وهذا خبر بمعنى الأمر، وكان هذا يوم بدر فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين، فخفف الله عنهم، فنزل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي: ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر: {ضعفاء} بفتح العين والمد على الجمع، وقرأ الآخرون بسكون العين، {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} من الكفار، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فرد من العشرة إلى الاثنين، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا.
وقال سفيان قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا.
قرأ أهل الكوفة: {وإن يكن منكم مائة}، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما. وقرأ عاصم وحمزة {ضعفاء} بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم، والباقون بضمها.
وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} قرأ أبو جعفر وأهل البصرة: {تكون} بالتاء والباقون بالياء، وقرأ أبو جعفر: {أسارى}، والآخرون. {أسرى}.
وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء»؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية، تكون لنا قوة على الكفار، وقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا. فقال له العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم- 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة- 118]، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح- 26]، ومثل موسى قال: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} [يونس- 88]»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق»، قال عبد الله ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن بيضاء». قال ابن عباس: قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال 67- 69] فأحل الله الغنيمة لهم. بقوله: {له أسرى} جمع أسير مثل قتلى وقتيل.
قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} أي: يبالغ في قتال المشركين وأسرهم، {تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون {عَرَضَ الدُّنْيَا} بأخذكم الفداء، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصر دين الله عز وجل، {والله عزيز حكيم}.
وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية، والأوقية أربعون درهما.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد- 4] فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استبعدوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا أعتقوهم.