فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (16- 17):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم {أَنْ تُتْرَكُوا} قيل: هذا خطاب للمنافقين. وقيل: للمؤمنين الذين شق عليهم القتال. فقال: أم حسبتم أن تُتركوا فلا تؤمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ولم يرّ الله {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} بطانةً وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة: وليجة خيانة. وقال الضحاك: خديعة. وقال عطاء: أولياء. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة. فوليجة الرجل: مَنْ يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي، وهم وليجتي للواحد والجمع. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول. فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟.
فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟ فقال نعم: إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله.
أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها. فذهب جماعة إلى أن المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المساجد ومُرَمَّمَته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل. وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه. قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة: {مسجد الله} على التوحيد، وأراد به المسجد الحرام، لقوله تعالى: {وعمارة المسجد الحرام}، ولقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام}، وقرأ الآخرون: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام. قال الحسن: إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها. قال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين؟ ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، يريد الدراهم والدنانير؟.
قوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أراد: وهم شاهدون، فلما طرحت وهم نصبت، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بُعْدا.
وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول: أنا يهودي، ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنها لغير الله عز وجل، {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه شاهدين على رسولهم بالكفر؛ لأنه ما من بطن إلا ولدته.

.تفسير الآية رقم (18):

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} ولم يَخَفْ في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، {فعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وعسى من الله واجب، أي: فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة.
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي، حدثنا محمد بن الحسين الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج، المهدي، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» فإن الله قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، أنبأنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن مطرف، عن يزيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزلَه من الجنة كلما غدا أو راح».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي عن محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناسُ ذلك، وأحبوا أن يَدَعَه، فقال عثمان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة».
وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الدارابَجِرْدِيّ، حدثنا أبو عاصم بهذا الإسناد، وقال: «بنى الله له بيتا في الجنة».

.تفسير الآية رقم (19):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
قوله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، حدَّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المعافري، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، حدثنا النعمان بن بشير قال: كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليتُ دخلت، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، ففعل فأنزل الله عز وجل: {أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام}، إلى قوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال العباس حين أُسِر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، والإيمان بالله، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيرٌ مما هم عليه.
وقال الحسن، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، نزلت في علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي، ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}.
والسِّقاية: مصدر كالرعاية والحماية.
قوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فيه اختصار تقديره: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله؟.
وقيل: السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر. وتقديره: أجعلتم ساقي الحاجّ وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ وهذا كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} أي: للمتقين، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي بن كعب {أجعلتم سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام}، على جمع الساقي والعامر.
{كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يحيى بن مهلب، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تُغْلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، وأشار إلى عاتقه.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، حدَّثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، حدَّثني محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم؟ أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (20- 23):

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} فضيلة، {عِنْدِ اللَّهِ} من الذين افتخروا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الناجون من النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها، نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا. فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة، {إِنِ اسْتَحَبُّوا} اختاروا {الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر، فهذا معنى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

.تفسير الآيات (24- 25):

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}
ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} قرأ أبو بكر عن عاصم: {عشيراتكم} بالألف على الجمع، والآخرون بلا ألف على التوحيد، لأن جمع العشيرة عشائر {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي: تستطيبونها يعني القصور والمنازل، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} فانتظروا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال عطاء: بقضائه. وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة وهذا أمر تهديد، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي} لا يوفق ولا يرشد {الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة.
قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ} أي مشاهد، {كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وحنين واد بين مكة والطائف. وقال عروة: إلى جنب ذي المجاز.
وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا،- عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا.
وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف النَّصْري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وفي رواية: فلم يرض الله قوله، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري، ثم نادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
قال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء بن عازب: يا أبا عمارة فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شُبَّان أصحابِه وأخِفَّاؤُهُم وهم حُسَّرٌ ليس عليهم سلاح، أو كثيرُ سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نَصْر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ثم صَفَّهم.
ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق. وزاد قال: فما رُئي من الناس يومئذ أشد منه.
ورواه زكريا عن أبي إسحاق. وزاد قال البراء: كنا إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء: إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم، فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفرّ.
قال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس.
وقال آخرون: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير: العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج، قال: حدثنا أبو طاهر، أحمد بن عمرو بن سرح، حدثنا أبو وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرْكِض بغلته قِبَل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها إرادةَ أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْ عباسُ: نادِ أصحاب السَّمُرة، فقال عباس- وكان رجلا صَيِّتا- فقلت بأعلى صوتي: أين اصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتُهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: هذا حين حََمِيَ الوَطِيسُ ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصياتٍ فرمى بهنَّ وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا وربِّ محمد، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدَّهم كليلا وأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا.
وقال سلمة بن الأكوع: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينًا قال فلما غَشُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: «شاهت الوجوه»، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين.
قال سعيد بن جبير: أمدَّ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وفي الخبر: أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة، قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل الُبلْق والرجال الذين عليهم ثياب بيض، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كنا قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة.
قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال: استدبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفتَ إليَّ وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي.
فلما هزم الله المشركين وولّوا مدبرين، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمَّرَه على جيش المسلمين إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، وقتل دريد بن الصمة، وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري، فأتى الطائف فتحصَّنَ بها وأُخِذَ مالُه وأهله فيمن أخذ. وقُتل أمير المسلمين أبو عامر.
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم، فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسَّم فيها غنائم حنين وأوطاس، وتألف أناسا، منهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله- حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل- فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفُنا تَقْطُرُ من دمائهم؟ قال أنس: فُحدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قُبَّةٍ من أدم ولم يَدْعُ معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديثٌ بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم أما ذوُو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثةٌ أسنانُهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم: «إنكم سترون بعدي أَثَرَةً شديدة، فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله على الحوض».
وقال يونس عن ابن شهاب: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم»، وقال: «فاصبروا حتى تَلْقَوا الله ورسوله فإني على الحوض»، قالوا: سنصبر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي وكنتم عالةً فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمَنُّ قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسولَ الله كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمَنُّ قال: لو شئتم قُلْتُم كذا وكذا، أتَرْضَوْن أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شِعَارٌ والناسُ دِثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
فما كان حِصْنٌ ولا حابس ** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ ** دِ بين عُيَيْنَةَ والأقرعِ

وما كنتُ دون امرئٍ منهما ** ومن تَخْفِضِ اليومَ لا يُرْفَعِ

قال: فأتمَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
وفي الحديث: أن ناسا من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله أنت خيرُ الناس وأَبَرُّ الناس، وقد أُخِذَتْ أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير: أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسَبْيَهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن معي من ترون وأحبُّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال». قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا ندري مَنْ أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. فأنزل الله تعالى في قصة حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} كثرتكم، {شَيْئًا} يعني إن الظفر لا يكون بالكثرة، {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها وسعتها، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} منهزمين.