فصل: تفسير الآيات (26- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (26- 28):

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ} بعد الهزيمة، {سَكِينَتَهُ} يعني: الأمنَة والطمأنينة، وهي فعيلة من السكون {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} يعني: الملائكة. قيل: لا للقتال، ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين، لأنه يُروى: أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر، {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فيهديه إلى الإسلام، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية، قال الضحاك وأبو عبيدة: نَجِس: قذر. وقيل: خبيث. وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع، فأما النّجْس: بكسر النون وسكون الجيم، فلا يقال على الانفراد، إنما يقال: رِجْسٌ نِجْسٌ، فإذا أفرد قيل: نَجِس، بفتح النون وكسر الجيم، وأراد به: نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سُمّوا نَجَسًا على الذم. وقال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يُجنبون فلا يغتسلون ويُحْدثون فلا يتوضؤون.
قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} [الإسراء- 1]، وأراد به الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ.
قال الشيخ الإمام الأجل: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم. وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام: الحجاز، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما». فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، وأجَّل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا. وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} يعني: العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس، ونادى علي كرَّم الله وجهه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة.
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون، فلما مُنِعوا من دخول الحرم خافوا الفقر، وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فقرًا وفاقة. يقال: عال يعيل عَيْلة، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال عكرمة: فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون. وقال الضحاك وقتادة: عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها.

.تفسير الآية رقم (29):

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
وذلك: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين.
قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيمانا بالله. {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي: لا يدينون الدين الحق، أضاف الاسم إلى الصفة. وقال قتادة: الحق هو الله، أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. وقال أبو عبيدة: معناه ولا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني: اليهود والنصارى. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وهي الخراج المضروب على رقابهم، {عن يد} عن قهر وذل. قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس: أعطاه عن يد. وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم. وقيل: عن يد أي: عن نقد لا نسيئة. وقيل: عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء مقهورون. قال عكرمة: يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس. وعن ابن عباس قال: تُؤْخَذ منه ويُوطأ عنقه.
وقال الكلبي: إذا أعطى صفع في قفاه.
وقيل: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه.
وقيل: يُلَبَّبُ ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف.
وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار.
وقال الشافعي رحمه الله: الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم.
واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربًا.
واختلفوا في الكتابي العربي وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي: إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجمًا، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة، وهو رجل من العرب يقال: إنه من غسان، وأخذ من أهل ذمة اليمن، وعامّتُهم عرب.
وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنها تُؤْخَذ من جميع الكفار إلا المرتد.
وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب على العموم، وتؤخذ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العرب. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العربي، كتابيا كان أو مشركا، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا.
وأما المجوس: فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بَجَالة يقول: لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب».
وفي امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تُؤخذ من كل مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب.
واختلفوا في أن المجوس: هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال: كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا، وقد أسري على كتابهم، فرفع من بين أظهرهم.
واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين.
أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نُظِر: إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يُقَرون بالجزية، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله: يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم، فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب، أقرَّهم عمر رضي الله عنه على الجزية، وقال: لا تحل لنا ذبائحهم.
وأما قدر الجزية: فأقله دينار، لا يجوز أن ينقص منه، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم، أي بالغ، دينارا ولم يفصل بين الغني والفقير والوسط، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال.
وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار، وهو قول أصحاب الرأي.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود: سلام بن مشكم، والنعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ فأنزل الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّه}.
قرأ عاصم والكسائي ويعقوب {عزير} بالتنوين والآخرون بغير تنوين؛ لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا، ومن نوَّن قال: لأنه اسم خفيف، فوجهه أن يصرف، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط. واختار أبو عبيدة التنوين وقال: لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له.
وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء.
وهو الذي قال: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران- 181].
وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرًا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذَّن في قومه، وقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة ردَّها إلي! فعلق به الناس يعلمهم، فمكثوا ما شاء الله تعالى، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل منهم مَنْ قرأ التوراة، وكان عزير إذ ذاك صغيرًا فاستصغره فلم يقتله، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم مَنْ يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ليجدد لهم التوراة وتكون لهم آية بعد مائة سنة، يقال: أتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره، فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمْلِ علينا التوراة، فكتبها لهم، ثم إن رجلا قال: إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا، فقالوا: إن الله لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا لأنه ابنه، فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.
وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رُفِع عيسى عليه السلام يُصَلُّون إلى القبلة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جملة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، فإني أحتال وأُضِلُّهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقال له النصارى: من أنت؟ قال: بولص عدوكم، فنوديت من السماء: ليست لك توبة إلا أن تَتَنَصَّر، وقد تبت. فأدخلوه الكنيسة، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارًا حتى تعلَّم الإنجيل، ثم خرج وقال: نوديت أن الله قَبِلَ توبتك، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطورا وعلَّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجَّه إلى الروم وعَلَّمَهُم اللاهوت والناسوت، وقال: لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم، ولكنه ابن الله، وعلَّم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له مَلْكا، فقال: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدًا واحدًا، وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني. وقال لكل واحد منهم: إني غدًا أذبح نفسي، فادْعُ الناس إلى نِحْلتك. ثم دخل المذبح نفسه وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناسَ إلى نِحْلَتِه، فتبع كُلَّ واحد طائفةٌ من الناس، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورًا.
{يُضَاهِئُون} قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا، والآخرون بضم الهاء غير مهموز، وهما لغتان يقال: ضاهيته وضاهأته، ومعناهما واحد. قال ابن عباس رضي الله عنه: يشابهون. والمضاهاة المشابهة. وقال مجاهد: يُواطئون وقال الحسن: يوافقون، {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} قال قتادة والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله. وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله. وقال الحسن: شبّه كفرَهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} [البقرة- 188]. وقال القتيبي: يريد أن مَنْ كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلهم، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} قال ابن عباس: لعنهم الله. وقال ابن جريج: أي: قتلهم الله. وقيل: ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.